ذ. عبد المولى النواري يكتب: "نظرية النظم " بين النشأة و التطبيق!
إيمانا مني بأهمية موضوع نظرية النظم ومختلف القضايا التي بصمت عليها ، والتي تعيدنا إلى الزمن الجميل، زمن عرفت فيه علوم العربية أوجها ووصلت إلى أرقى الدرجات، زمن قامت فيه هذه العلوم بذاتها دون نكران فضل المثاقفة مع الغرب. إنه القرن الخامس الهجري، الذي يمكن تلخيصه في شخصية واحدة، شخصية عبد القاهر الجرجاني، مؤسس نظرية النظم.
و إيمانا منا بميل الطالب الباحث في هذا العصر إلى السهولة والاقتضاب في مطالعاته، وحاجته إلى المواضيع القصيرة التي يستقي منها مادته في بحوثه الأكاديمية قررنا أن نضع بين يديه هذا الموضوع البسيط و المتواضع الذي يتناول قضية النظم بين ظروف نشأتها وتطورها وصولا إلى تطبيقها، مستندين إلى جهود بعض أساتذتي من خلال التركيز على العناصر الآتية:
- نشأة نظرية النظم
- علاقتها بالنحو
- عبد القاهر الجرجاني بين اللفظ و المعنى
- أمثلة تطبيقية لنظرية النظم.
1- النشأة :
تعتبر نظرية النظم من أدق و أرقى ما وصل إليه البحث البلاغي العربي، وحيث إن ظهورها بهذا المظهر المتكامل، وبلوغها درجة عالية من النضج و الاكتمال يؤكد أن هناك محاولات سابقة استفاد منها الجرجاني، وبخاصة وأن منطق الأشياء يفرض ذلك، ذلك أن ظهور أية مدرسة يكون في بداية الأمر ظهورا بسيطا وغير ناضج فتستمر في النضج بمعاونة النقد طبعا الذي يسدد خطاها حتى تصل إلى درجة الكمال. فإذا كان على سبيل المثال العصر الجاهلي قد أنتج لنا امرؤ القيس بقصائده المتكاملة والناضجة، فإن ما وصل إليه إنما كان بناء على تجارب سابقة، فقد أجمع النقاد على أن هناك تجارب سابقة في الجاهلية الأولى التي ضاعت بسبب شفوية المرحلة قد استفاد منها امرؤ القيس، وهو نفس ما حصل مع عبد القاهر الجرجاني، فبلوغ نظريته تلك الدرجة من الكمال كان نتاج استفادته من جهود سابقيه، حيث يقول بصريح لسانه في دلائل الإعجاز " قد علمت إطباق العلماء على تنظيم شأن النظم وتضخيم قدره و التنويه بذكره و إجماعهم على أن لا فضل للكلام دونه، ولا قدر له ولو بلغ من غرابة معناه ما بلغ ".
فعبد القاهر الجرجاني لم يستفد فقط من العلوم التي واكبت عصره، وإنما استفاد أيضا من جهود سابقيه في القضية و المفهوم ذاته أي النظم. هذا الأخير الذي كان عند سابقيه يدل على مفاهيم عدة من قبيل : ترتيب المعاني، ترتيب الفروع على الأصول، و إتباع المعنى بالمعنى.
فمفهوم النظم قبل الجرجاني كان يقصد به ترتيب الألفاظ وتأليفها دون النظر إلى القوانين التي تحكم هذا الترتيب، واكثر من ذلك فالذين سبقوا الجرجاني وعلى رأسهم الجاحظ كانوا يعرفون أن النظم هو وضع لفظ ما في موضع معين دون غيره لعلة تفرض علينا ذلك، و أن وضع هذا اللفظ في غير ذلك الموضع يؤدي إلى سقط الكلام وانهيار النظم.
من هذا المنطلق لم يتبق للجرجاني إلا البحث عن هذه العلة التي تعلل موضع لفظ معين منطلقا من مجموعة من الأسئلة : ماهي هذه العلة ؟ و ما القانون الذي يفرض علينا موضع الألفاظ وسياقها ؟ لتولد من رحم الإجابة عن هذه الاسئلة الإضافة الكبيرة التي أضافها الجرجاني للبحث البلاغي العربي وهي نظرية النظم، حيث أصبح هناك التأليف وفق قوانين عوض مطلق التأليف.
2- علاقة النظم بالنحو
كما جاء على لسان الأستاذ عز الدين الذهبي في كتابه الأسلوب بين اللغة والنص " البلاغة العربية ولدت ترعرعت على ضفاف النحو.." . فالجرجاني انطلق من فكرة أساس وهي : اعتبار النحو هو الأساس و الأصل في ترتيب الكلام ، حيث يقول " اعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو". وهنا وجب الإشارة إلى مسألة مهمة وهي أن الجرجاني لم يدافع على النحو على حساب المعنى، وإنما اشترط احترام قواعد النحو مع استقلالية المعنى، فهو لم يربط الصحة الدلالية يالصحة النحوية وهو ما شكل محط خلط في أوساط العديد من الباحثين و الدارسين المعاصرين للأدب العربي.
3- الجرجاني بين اللفظ و المعنى
كان واضحا بشكل جلي انتصار الجرجاني للمعنى على حساب اللفظ إذا ما تتبعنا مواقفه في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، ولعل ذلك راجع إلى رده على الطاعنين في القرآن الكريم، باعتبار أن إعجاز القرآن الكريم متمثل في نظمه، وذلك واضح في العديد من أقواله لعل من أبرزها قوله " لا مزية في الألفاظ إلا في النظم، ولا معنى للمفردات إن لم توظف لخدمة المعنى" ، وهذا ما جر عليه انتقادات أنصار اللفظ كما هو معروف، على أساس أن الألفاظ هي التي تصنع المعنى وتتحكم فيها ومن شانها أن تكون معان سلبية أو إيجابية.
4- بعض الأمثلة التطبيقية لنظرية النظم
لا أعتقد أن هناك من يخالفنا في كون أن نظرية النظم لم تكن لتكون لها هذه القيمة لولا أن الجرجاني طبقها على التراثين، القرآن الكريم كنص مقدس متعال عن كل تحريف، و الشعر العربي القديم باعتباره مهد اللغة العربية وديوان العرب كما جاء على لسان أبي فراس الحمداني . لا سيما وأن من يجهل بإعجاز القرآن قد يتهم بعض آياته بالخروج عن القواعد النحوية. وفي موضوعي هذا اخترت ثلاثة أمثلة تناولها الجرجاني و أنصاره لإثبات مسألة الإعجاز و الرد على الطاعنين، اثنين منها من القرآن وواحد من الشعرو ذلك تحسبا لمبدأ الاختصار فقط.
قال تعالى في سورة الأعراف الآية 16 " فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم "
الآية هنا تلخص الحوار الذي دار بين الله عز وجل و إبليس لعنه الله الذي قسم قسما عظيما على أن يجلس في طريق العباد ويخرجهم عن الطريق المستقيم بكل الطرق إلا من اتقى وخاف ربه طبعا.
ذهب الطاعنون في القرآن الكريم إلى أن هناك حرف جر محذوف في الآية ( تعالى القرآن عما يفترون)، ففي نظرهم أن تكون الآية ( فبما أغويتني لأقعدن لهم في صراطك أو على صراطك ...).
اعتبر الجرجاني من داخل نظرية النظم ان الآية لها من الفصاحة الشيء الكثير، وأن بمجرد إدخال اجتهادات الطاعنين تفقد الكثير من فصاحتها، فحذف حرف الجر منها إنما لتبيين الله عز وجل عظمة قسم إبليس إلى عباده للحذر منه، و أن إدخال حرف الجر فيه تقزيم لهذا القسم، فإذا قالت الآية " ...في صراطك المستقيم... لكان المعنى هو وسط الصراط وليس على يمينه وشماله وفوقه وتحته...، ولكن حذف حرف الجر دال على جلوس إبليس في كل مناحي الصراط ( فوقه وتحته ويساره ويمينه...)، ليكون هذا هو بيت القصيد في نظرية الجرجاني، فإعجاز القرآن الكريم في نظمه و تآلف ألفاظه وشمولية معناه.
- وقال عز وجل: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين " سورة هود الآية 44
- يرى الجرجاني أن لهذه الآية من المزية و الفضيلة التي لا ينكرها أحد مرجعا ذلك إلى تآلف كلمها ببعضه البعض، وأنها لم تبلغ ما بلغت إليه من الفصاحة إلا من حيث لاقت اللفظة الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة.....
وبعيدا عن أمثلة القرآن نأخذ مثالا من التراث الشعري العربي لشاعرين بصما تاريخ الساحة الأدبية العربية وإن اختلفا مذهبيا، البحتري المحافظ و أبو تمام البديعي المجدد.
يقول البحتري : وإني وغن بلغتني شرف الغنى وأعتقت من رق المطامع أخدعي
ويقول أبو تمام : يا دهر قوم من أخدعيك فقد أضججت هذا الأنام من خرقك
- تناول الجرجاني لفظ "الأخدع " معلقا على البيتين قائلا : " فتجد لها ( أي كلمة الأخدع) من الثقل على النفس و التكدير أضعاف ما وجدت هناك ( أي في بيت البحتري) من الروح و الخفة و الإيناس والبهجة .
إذن ومن خلال ما سبق من الأمثلة يتبدى جليا الجهد الذي بدله الجرجاني في مقاربة آيات القرآن وفق نظرية النظم التي أفادت النقد الأدبي كثيرا والتي سدت بعض الثغرات التي تركها النحو، هذا الأخير الذي يجلس جلسة المتفرج الهادئ يشاهد حلبة الإبداع، ويسقط قناع الهدوء إذا تم المس بقواعده فكل ما يهمه احترامها، ولكنه في نهاية المطاف لا يستطيع المفاضلة بين كلامين احترما معا قواعده النحوية مكتفيا بالقول :
" ذاك من المستقيم الحسن، وذاك أيضا من المستقيم الحسن".
إرسال تعليق
0 تعليقات