ڨانهاوزن (عروس النيل) قصة قصيرة للكاتب المصري: مازن فضل



كان المطر يعزف على أوتار الكوخ الصغير الذى اتخذه (كاسياس) سكنًا له.
ها قد مر يوم آخر مليء بالأعمال الشاقة داخل صحراء جرداء لا يوجد بها سوى عدة مناجم يستخرجون منها الذهب والمعادن النفيسة ويعودون بها نهاية كل شهر للملكة (سبك نفرو) ابنة الملك أمنمحات الثالث آخر ملك عظيم حكم مصر الفرعونية.
 جلس كاسياس يلهو مع شظايا النار المتطايرة من الحطب الذي أشعله لإعداد العشاء، فلفت انتباهه شيء ما يتحرك من بعيد، تتدلى منه ذراعان كأنه شبح غريب الشكل، كلما اقترب منه زاد تضخمًا.
خفق قلبه بشدة وشعر برجفة تسري في جسده، فنهض مسرعًا والتقط مطرقته، كان الظلام الدامس يعيق رؤيته فلم يستطع أن يميز شيئًا، ظل ذلك الشبح صامدًا مكانه كما لو كان تمثالًا حجريًا، فبدأ كاسياس يقترب منه ببطء، وبدأ هو بالتراجع للخلف وأخذ يحملق به يحاول أن يقول شيئًا، لكن كان صوته محبوسًا من شدة الخوف ومقبوضًا من شدة خفقان قلبه.
أشعل كاسياس مجموعة من الأعواد، وبدأ يخطو في اتجاهه، كانت خصلات شعره مبللة تطل من تحت ذلك الغطاء الذي يخفي وجهه، وملابسه مبتلة كما لو كان غريقًا تم انقاذه للتو ممسكًا عصا بكلتا يديه.
بدأ المطر يسقط بغزارة وهبت رياح قوية عاتية أطفأت أعواد الكبريت، فأصبحا في بؤرة الظلام الدامس، وإذ بذلك الشبح يترك مكانه ويركض تجاه الكوخ، والتف حول النار وهو يرتجف من شدة البرد، تبعه كاسياس وظل يراقبه في حذر حتى سقط ذلك الغطاء عن رأسه، وإذ بشعر حريري ينساب برقة على كتفيه، تعلقت عيناه به لحظة أو لحظتين وإذ بها فتاة ضعيفة هزيلة ترتعد بردًا وخوفًا لتسقط مغشيًا عليها.
***
حل بأعماق كاسياس نداء خفي يفزعه ويخيفه؛ فهذه أول مرة يرى فيها وجهًا كوجهها، طلة حجرية لملاك ينام في رقة وألم، لكن أكثر ما شد انتباهه ذلك الوشاح الذي كانت ترتديه، فقد كان مرصعًا بالذهب، ونقش ورسومات لأزهار وأغصان مزخرفة على  عباءتها مما يدل على أن في كوخه أميرة من أميرات الأسرة الحاكمة.
كان الشاب يحتفظ ببعض الأدوية الطبيعية سريعة المفعول التي كان يشتريها من بعض القوافل التي كانت تدخل مصر للتجارة، فأسقاها القليل منها وبعد هنيهة بدأت تستعيد رشدها، كانت لا تقوى على التحرك؛ فقد خارت قواها من الركض لمسافات طويلة وأعياها هطول الأمطار الغزيرة.
نظرت إليه، لكن سرعان ما أغمضت عينيها، تحركت شفتاها بجملة واحدة:
 "لا تدعهم يأخذونني.."
 ثم غاصت في سبات عميق تاركة كاسياس في حيرة من أمره، يضع المزيد من الحطب لتدفئة الكوخ الذي يشعر أنه بالفعل أصبح أكثر دفئًا بأنفاس تلك الأميرة، كما لو كان داخل معبد العشاق يهيم وراء طيف ليس له منه نصيب.
***
مرت ليلة عصيبة لم يذق جفنه فيها طعم النوم، وأشرقت الشمس في الأفق مرسلة بأشعة دافئة، حمل الشاب معداته، وذهب إلى عمله الذي لا يبعد كثيرًا عن الكوخ، وفي طريقه التقى بصديقه (سانيان) ذلك الشاب فارع الطول، أسود العينين، الذي لا يكف ولا يمل المزاح طوال الطريق، ألقى عليه التحية بابتسامة وقال:
صباح الخير كاسياس، مالي أراك تخطو متكاسلًا مترنحًا؟ ليس من الطبيعي أن تكون هكذا، أمريض أنت؟
لم ينظر إليه، رد عليه التحية فتابعا السير حتى وصلا إلى المنجم، ظل صديقه ينظر إليه مندهشًا ومتعجبًا من تلك الحالة التي كانت تعتريه كمن فقد ذاكرته أو أصابته مصيبة ما، فقد كان في حالة يرثى لها ويبدو عليه الارهاق..
 تناهى إلى سمعيهما صهيل الخيول بالخارج ولم يكن ذلك اليوم موعد استلام الذهب، فراود كاسياس القلق، فذهب يختلس السمع إلى حديثهم، كانوا ثلاثة جنود يسألون عما إذا كان أحدهم قد رأى فتاة هاربة من القصر متهمينها بسرقة صواع الملكة ولمن يجده مكافأة عظيمة.
***
لم يشعر بنفسه إلا وقد ترك المنجم وعاد راكضًا إلى الكوخ كي يخبرها بما حدث، وعند وصوله دفع الباب بقوة وجال ببصره في أرجاء الكوخ فلم يجد لها أي أثر غير أن المكان كان هادئًا ونظيفًا وبه لمسات أنثوية رقيقة.
جلس في ركن من الأركان واضعًا يديه على رأسه لا يعرف لِمَ انتابه هذا الشعور وخيل إليه أن ما حدث ليلة أمس ما كان إلا حلمًا؟
سرى في عروقه اليأس وهم بالنهوض، وإذ بالباب يفُتح ودخلت تلك الجميلة حاملة بين يديها حزمة من الحطب والتمر وقنينة ماء، أسرع إليها وتناول عنها ما تحمله وأغلق الباب بسرعة، ثم قص عليها ما حدث وطلب منها أن تخبره عن حقيقة أمرها حتى يستطيع مساعدتها، فتنحت جانبًا وجلست والدموع تنهال من عينيها وقالت بصوت يملؤه الحنق والفزع:
أنا إحدى بنات كبير طهاة الملك، كنت أنا وأختاي نساعد والدنا في إعداد عشاء فاخر، كنا نعتقد أنه حفل زفاف ما أو ربما إحدى الحفلات الفاخرة للعائلة الملكية، لكنه لم يكن إلا حفل عروس النيل، وقد اكتشفنا الحقيقة عندما دخل علينا كبير الحرس وأخذ أختي الكبرى هو ومن معه، وما كان من أبي إلا أن يجعل من جسده الضعيف درعًا يدفعهم عنها، فطعنوه طعنة مميتة، وكذلك فعلوا بأمي دون أن ترف لهم عين، ثم أخذوني إلى إحدى الغرف مع أختي الكبرى، ولم تمضِ ساعات قليلة حتى أقبل الصباح.
دخلت وصيفات الملكة وألبسوها أفخر الثياب ووضعوا تاجًا ذهبيًا فوق رأسها، احتشد الكثير من الناس ووضعوا أختي في قارب صغير داخل النيل ودقت الطبول وتعالت الصيحات كلما بعد القارب..
ورغم استغاثتها وبكائها، لم يستطع أحد انقاذها، إلى أن غرق القارب وماتت أختي..
لكنها لم تكن الضحية الأخيرة، بل فعلوا بأختي الوسطى ما فعلوه بها تمامًا وتكرر نفس المشهد معها.
اقترب منها  كاسياس وأمسك بيدها في حنو وشفقة وسألها:
 وماذا حل بكِ بعد ذلك؟
أجابته بضيق صدر:
لقد اتخذتني الملكة وصيفة لها وعاملتني كابنتها لأنها وبرغم ندائها الملحّ للآلهة بأن تنجب فتاة لم يشأ القدر..
كان ابنها الأمير على مشارف التتويج بإدارة شئون البلاد.. تعلق قلبه بي وأحبني كثيرًا، لكنها عندما علمت  بذلك الأمر طلبت من كبير الحرس تدريبه جيدًا ليكون على رأس قادة الجيش، وكانت البلاد في ذلك الوقت على مشارف الحرب، فرحل الأمير مع القوات العسكرية ومضت أشهر عدة ولم تصلني أي رسالة منه..
حتى جاءت تلك الليلة واسترقت السمع فيها فعلمت بأنها تريد أن تفعل بي ما فعلته بأختيّ وتقدمني هبة للنيل كي تتخلص مني، فانتظرت حتى قبيل الفجر واستطعت الهرب منهم والجميع نيام، ولم أجد سبيلًا سوى هذا الاتجاه ولحسن حظي أني وجدت كوخك مضيئًا فدخلته.
أنهت حديثها ثم طلبت منه مساعدتها لتهرب من هذه البلاد، فلم يخطر في باله حينها إلا أن يبيعها لإحدى القوافل العربية، لكن هذا الخاطر قد أوجع قلبه الذي هام بها..
في الحقيقة، لم يكن متأكدًا مما يشعر به هو، هل فعلًا حُب من النظرة الأولى؟ أم هي مجرد شفقة على حالها؟ أيًّا كان ما يشعر به فسيكبته في صدره ويساعدها بأي طريقة كانت.
***
كان القدر يساندها هذه المرة؛ فلقد تطرق إلى سمعيهما أصوات أجراس قافلة ما تمر بالقرب من الكوخ، فطلب منها كاسياس ارتداء ثيابه وتغطية وجهها ثم مضيا ركضًا.. 
كان زعيم شيخ القافلة رجلًا حكيمًا ودودًا طيبًا لم يرهقهما بأسئلته؛ فقد كان من أهل البدو حينذاك ومن الموحدين بالله العظيم، فكانوا يقدمون العون والمساعدة بلا مقابل..
ساعدها كاسياس على ركوب الجمل ثم تعلق نظره بها، وكأنه يودع قطعة من قلبه، وكانت هي مرتبكة خائفة تجول ببصرها في جميع الاتجاهات كأنها تبحث عن شيء ما أو ربما كانت تلقي النظرة الاخيرة  على بلدتها.
 ظل واقفًا مكانه يسترجع الأحداث التي مرت سريعًا به، وفي نفسه حزن قاتل على فراقها وفرح عارم لإنقاذها حتى اختفت القافلة.
***
كانت السماء ملبدة بالغيوم والأمطار على وشك الهطول، عاد إلى عمله يجر قدميه جرًّا؛ لقد أخذت معها قلبه وبقي جسده وعقله ها هنا، كان المكان خالٍ تمامًا من العمال على غير عادته، وجد "سانيان" في انتظاره وأخبره أن عليهما مغادرة المكان بأقصى سرعة؛ فقد شاع خبر دخول قوات جيش العدو بلدتهم وأنهم مهددون بالغزو.
 لم يخطر بباله حينها إلا تلك الفتاة وما قد يصيبها من أذى، فطلب من سانيان أن يأتي له بجواد وسيف وهمَّ بإعداد حقيبته، ورغم محاولات صديقه منعه من ذلك؛ فرجوعه يعني هلاكه، إلا أنه أصر على طلبه، وبعد برهة من الوقت جاءه سانيان بالجواد فامتطاه وانطلق باتجاه القافلة، وقبل أن يرحل قص عليه القصة كاملة.
***
أخذ "سانيان" يلوم نفسه نادمًا على أنه ترك صديقه كاسياس يغادر بمفرده، فَهَمَّ باللحاق به، وهو في طريقه تراءى له على منأى منه عددًا كبيرا من الجنود يمتطون الخيول ويرمون السهام النارية في كل أرجاء المكان، تتقدمهم مجموعة كبيرة من الجنود المشاة يحملون سيفوهم منادين بإسقاط المملكة..
 ركض سانيان حتى وصل إلى ضفاف النيل ولم يجد وسيلة للهرب سوى تسلق الأشجار والاختفاء بين أغصانها، فمر العدو من تحته في مشهد مروع مخيف، علم في تلك اللحظة أن هذه المرة سوف يقهر جيش مصر..
أخذ يفكر ما عساه أن يفعل وهو بهذا الهوان من دون أسلحة، حتى لبست السماء رداء الظلام وأوقدت النجوم إشعاعها، ولاح له من بعيد ومضات من ألسنة النار ظنًّا للوهلة الأولى أن جيش العدو قد عاد، لكن عند اقتراب الموكب شاهد أعلام الجيش المصري.
ركض باتجاهم يرجو منهم الأمان، ثم طلب  من قائد الجيش السماح له بمقابلة الأمير وعلى إثرها قصّ عليه كل ما حدث لهما، ثم انفرد سانيان به وأخبره عن تلك الفتاة وكيف أنقذها صديقه من حراس والدته.
فأعجب الأمير بجرأتهما وحبهما لبلدهما وأمره بالانضمام لجيشه.
تابع الجيش سيره، لكنهم قد وصلوا متأخرين؛ فقد استولى العدو على معظم أنحاء البلاد وقتلوا عددًا كبيرًا منهم حتى أن الملكة قد أصبحت من الأسرى.
كان الأعداء يحتفلون بنصرهم ظنًّا منهم أن الجنود الذين تصدوا لهم هم كل جنود المملكة، ولأنهم كانوا منهكين استطاع الأمير وجيشه التغلب عليهم بعد معركة ملحمية تاريخية، وحرر البلاد من الغزاة وأخذ أسرى كثيرين من جيشهم، وفك قيد الملكة وقاموا بالاحتفال بانتصارهم الساحق.
 اطالت الملكة النظر من شرفة القصر إلى الساحة الكبيرة فسألت عن أخبار "فانهاوزن" تلك الفتاة الهاربة وقامت بتوبيخ الحراس على عدم ايجادها حتى الآن، كل هذا والأمير صامت ولا تعلم أنه علم بكل شيء..
ثم استدعت عرافات مصر وكبار الكهنة حتى يعلموا مكان الفتاة..
فأخبرها كبيرهم بعدما استخدم السحر بأنها واقفة بجوار مياه وبعض الشجيرات ومعها جواد، وعندما حددوا نقطة تواجدها أمرت الجنود بالإسراع والقبض عليها فورًا.
كان الأمير قد تسلل من الحفل وذهب إلى معبد أبيه للبحث في المخطوطات القديمة عن سر هبة النيل، وهل صدقًا أن أمر إلقاء فتاة به سيكون سببًا في أن تنعم البلاد بالسلام والرخاء؟ ثم وجد السر العظيم ثم عاد إلى الساحة مرة ثانية.
كان الجنود قد حصلوا على الفتاة وعادوا للملكة وقاموا بتجهيز الاحتفال ومراسم إلقاء عروس النيل، فأعدتها الوصيفات وألبسوها التاج الذهبي، وكبَّلوا يديها وقاموا بوضعها في قارب صغير، وبدأت تدق الطبول وعلت أصوات البوق والناس مكتظة من كل أرجاء البلدة.
كان "كاسياس" يبحث عن كوخ يسكنه هو والفتاة، وعندما عاد لم يجدها وعلى مرمى بصره وجد "سانيان" قادمًا على جواده بسرعة، فأخبره بكل شيء وأن الفتاة سوف تُلقى الآن.
همَّ بامتطاء جواده هو الآخر وانطلقا مسرعيْن، وشق الصديقان الحشود الغفيرة الواقفة، وفي نفس الوقت امتطى الأمير جواده وانطلق هو الآخر في اتجاه كاسياس، ظن الجميع أنه سيقوم بمبارزة قوية، ألا أن الأمير انعطف باتجاه النيل وأخذ يردد الحرية لفتيات مصر وقام بإلقاء جسده في النيل.
عصفت رياح قوية وأعلنت السماء غضبها، وثارت الزوابع وعلت مياه النهر، وسقطت الأمطار بغزارة، وانقلب قارب الفتاة، فقفز كاسياس وراءها، وأنقذها.. لكن الأمير قد غرق بالفعل، فكان السر العظيم لإبطال تلك العادة هو إلقاء فتى من نسل الملوك بالنيل؛ وبذلك سوف يهدأ وتنتهي اسطورة عروس النيل لأبد الدهر.

إرسال تعليق

0 تعليقات