الهادي نصيرة يكتب: حسرة

 




قصة قصيرة : حسرة

عم حسن تجاوز عمره تسعين عامًا، توفيت زوجته مؤخرًا فأجبر على مغادرة منزله والانتقال إلى مكان لم يكن له به عهد من قبل.

جلس هناك ينتظر أن يؤذن له بالدخول.

كانت ملامح وجهه قد اكتنفتها حالة من التعب والارهاق وبدت على جبينه الاسمر خطوط منحنية غدت شاهدا على ما تبقى من آثار تلك الصراعات الطويلة والمريرة التي خاضها الرجل في سباق مع زمن آفل، حاد كالسيف.

وعلى وجنتيه حفرت رياح السنين اخاديد ظلت تتعمق وتزداد تعاريجها حدة لتحيط بعينيه الخابيتين، المنطفئتين . 

 عم حسن عانى ويلات الدهر وتقلباته القاسية، وعاش فترات من حياته تحت وطأة الفاقة والحرمان .

 هاهو ينزوي، اليوم، في ذلك المكان الذي انتهى اليه، يجثم على الكرسي بأسماله الرثة التي لم يعد يذكر تاريخ شرائها من أكداس الثياب المستعملة.

 لم يعد يهمه ان يتذكر، فقد اعتاد أن يتناسى همومه في خضم العيش على ايقاع ايامه البائسة. 

لقد القت المعاناة بظلالها على الرجل، فتقوس ظهره، وأشتعل رأسه شيبا، وتساقطت اسنانه ولم يبقَ منها إلّا بضع اضراس يستعان بها لمضغ ما تيسر من لُقَيْمات الاطعمة اليومية.

  بعد ساعات طويلة من الانتظار ، استقبله مسؤول في دار ايواء المسنين ، وخاطبه وهو يحاول عبثا ان يظهر امامه بوجه بشوش : 

__ تفضل معي لأصحبك إلى غرفتك !

سار العم حسن مستندا على عصاه حتى وصل الغرفة التي بدت صغيرة ومتواضعة جدًا.

لم يكن يتوقع ان تشهد حياته ذلك المنعرج .

 فمنذ ان رحلت عنه زوجته الى الابد ، بات يعاني من الاحساس بالوحدة، وبالملل من وجوده في بيت احد ابنائه المتزوجين. 

ليس هناك ماهو اقسى على المرء من ذلك الشعور بالغربة في محيطه العائلي حين يرى ان الكل اضحى غارقا في تفاصيل مشاغله اليومية، منهمكا، يلهث خلف مصالحه ومآربه الشخصية وليس لديه وقت لنيل نصيب من الراحة، والتخلص من اعباء الحياة التي اثقلته بمتاعبها وقست عليه وحولت قلبه الى جلمود صخر، فأنسته واجباته الملحة تجاه والديه .

دلف العم حسن الى داخل الحجرة، مفكرا فيما هو فيه، ممسكا عن الكلام، لكن مرافقه قطع عليه، فجأة، حبل تفكيره، وكلمه وهو يهم بالانصراف : 

__ هذه غرفتك. اتمنى لك إقامة طيبة !

احس العم حسن بالتعب فألقى بجسده النحيل على سريره، واستسلم للنعاس في ذلك الفضاء الضيق الذي خيم عليه الصمت والسكون.

مرت الايام واستمرت عجلة الزمن في دورانها. وذات صباح حل بمقر إقامة المسنين زائران، وصادف ان تزامن حضورهما مع مغادرة الطبيب غرفة والدهما-العم حسن- بعد اجراء فحص عليه. دخل الزائران وقد استبدت بهما حالة شديدة من الشك والريبة، والتساؤلات الحائرة. سارع احدهما بالقاء التحية :

 __ جئنا لزيارتك والسؤال عن احوالك يا ابي .

لم يلتفت عم حسن الى ذينك الواقفين ، ولم يكن لديه اي احساس بوجودهما بالقرب منه، بل أنه ظل واجما، تاركا اياهما في انتظار الرد دون جدوى. عيناه كانتا تائهتين ، تحملقان في سقف الغرفة حينا، وتدوران بسرعة غريبة حينا آخر. 

فجأة، تنحنح، وسعل، ثم ما لبث أن تفوه بصوت مبحوح : 

__ زوجتي، ام ابنائي لن تتأخر في القدوم، غيابها لن يطول.

تسمر الزائران في مكانهما، لم ينبسا ببنت شفة، وظلا يتبادلان نظرات ملتبسة بالأسى والحسرة . لقد اتضحت الصورة، وانجلى الغموض، بيد ان الموقف كان اصعب واشد وقعا من وجع الندم الذي اصابهما.

إرسال تعليق

0 تعليقات