الهادي نصيرة يكتب: حنيني أبدا لموطني!


     

كثيرا ما ترتسم في ذاكرتي صور طفولتي البريئة الحالمة، فيعاودني الحنين إلى موطني البهي ذي التربة النقية، الفيحاء، والى السير في تلك الفيافي الواسعة، والجلوس تحت ظلال الشجر ، وافتراش الحشائش الخضراء المبللة بندى الصباح، والتنزه بين السهول والهضاب، وتنشق عبير النبات، واريج الزهور، ورائحة الثرى، وتسمع صياح الديكة، وثغاء الشياه، وخرير المياه المنسابة في السواقي، واهازيج الطيور فوق اغصان الشجر.

يا لروعة تلك البهجة التي تبثها الطبيعة في النفوس ، وتلك السعادة التي لا تضاهيها سعادة ! 

تتداعى الى ذهني ذكريات تلك السنين الخوالي، فتجدني مستحضرا طرائف وتفاصيل كنت اخالها سقطت واندثرت في دهاليز الماضي السحيق . 

وحينما أسبح بخيالي متاملا اسعد اللحظات التي قضيتها، فيما مضى، رفقة الخلان، والأصحاب، والاتراب ، تبدو لي تلك اللحظات بمثابة حلم جميل يأخذني الى أفق رحب، محلقا في عالم ساحر خلاب، اود ان يطول ويستحيل حكاية ليس لها نهاية. لكن عيب الاحلام انها سريعا ما تتبخر كما تتبخر كتل الضباب كلما داهمتها، صباحا، اشعة الشمس. 

واليوم، وقد مضت أعوام تلتها اعوام، ومضى معها أولئك الذين تفرقوا في دروب الحياة ، وارتحل آخرون بعيدا بلا عودة، ولم يعد ثمة اثر لهم غير ذكراهم وصدى أصواتهم ، وصور ملامحهم التي لم تغب عن أعيننا ابدا، ودموعا حرى تفيض شوقا، وتملأ مآقينا. 

من اعلى ربوة صغيرة غير بعيد عن بيتنا القديم، سرحت ببصري إلى حيث ينام ابي وامي تحت الثرى ، ومضيت ولسان حالي يقول : ما أجمل أن يترك الإنسان أثرًا طيّبًا، يتفاخر به ابناؤه ، ويسعدون به، فيكون كمن زرع لهم شجرًا ، واهداهم ثمرًا شهيا ياكلونه، وظلاً ظليلا يفيؤون إليه، وذكرا عطرا يفوح شذاه على مدى الدهور والازمان.


                                     _الهادي نصيرة_

إرسال تعليق

0 تعليقات