لذّة السقوط | رؤية فلسفية لرمضان سلمي برقي

 




لذّة السقوط | رؤية فلسفية بعين قاريء.

** ما الخيال إلا تمرّد...

• تحليل وتنقيب خلف الكلمات، لإحدي قصصي بالمجموعة القصصية «أنشودة الموت» الصادرة ورقياً 2020.. يتبعها تحليلات لقصص أخرى..

رمضان سلمي برقي



وأنا أكتب «لذة السقوط» لم أكن أدرك أنها قصة تحمل آلام الإنسان وأوجاعه، تطفح بوحدته، وبغربته ومعاناته مع الحياة. رغم أن القصة تبدو للقاريء المتسرِّع غريبة، أو شخوصها سلبية مملة، تحكيها فتاة، تراقب شاب غريب، ووحيد، ومُمل ليس له أي دور في القصة، أو بالأحرى ليس له أي دور في الحياة عمومًا، وكأن وجوده في الحياة لا يقدِّم ولا يؤخّر، شاب لا يفعل أبدًا ما تتمنّاه الفتاة أن يفعله، أو ما تتمنّاه الحياة منه أن يفعله -ممل ومتمرد- أن يتقرّب حتى منها، يتعرّف عليها، يحبها، يقبّلها، يمارس معها الجنس، إلا أنها قصة قد خرجت كتساؤلات فلسفية عن ماهية الوجود، والغربة، والوحدة.

عن عبثية منظّمة في كل شيء.. عن الحياة عمومًا وجدواها، عن الحب وعن الجنس، وعن أشياء أخرى.

عن الإنسان الذي تم تناسيه وحيدًا فوق الأرض، ولم يجد ثمة مقاومة أجمل من الخيال، ولذة الخيال في تمرده على الواقع، وما بعد لذة الخيال/التمرُّد؛ لذّة السقوط في أعماقه وتصديقه، وتقمّصه ومعايشته في حياة افتراضية بديلة، لا تأبه لقوانين الواقع وأخلاقياته.

حياة نمارس فيها كل ما نخجل منه دونما خجل.

حياة نتعرّى فيها، نقول الحقيقة، دونما خوف.

حياة نخلق نحن أبطالها كما نريد، حياة نحن فيها آلهة!

حياة نخرق فيها كل القوانين، السماوية منها والبشرية؛ حتى الله لا يحاسبنا على خطايانا في عالم الخيال الافتراضي.

كانتا القصتين «لذة السقوط» التي نحن بصددها، و «كائن لا يحتمل ثقله» قصة أخرى بالكتاب؛ ردتا فعل على قراءتي لميلان كونديرا «كائن لا تُحتمل خفته» فخرجتا بعنوانين مفرداتهما من الرواية ذاتها أو أقرب إليها.

كانت الرواية ربما عصف ذهني للمتمرد الخيالي الذي بداخلي.

تحكي القصة عن شاب غريب من الجنوب، يسكن في شقة بالمدينة، جارته -بطلة القصة والراوية_ تسكن على السطح، فوق شقته، وطوال فترة سكنه تحاول استكشافه، والتعرف عليه، ولا تنل مرادها حتى تتزوج وتغادر البيت؛ ليست نهاية سعيدة كأغلب القصص، بل نهاية حقيقية وصادمة.

تبدو القصة في مجملها مونولوج، يدور في رأس البطلة.

تحاول الفتاة التعرف عليه، محادثته، ولكنه جامد، ورغم أن "لكل فعل رد فعل" إلا أنه لا يبدي أي ردة فعل أبدًا مع الفتاة، لذا تعيش الفتاة في الخيال، كل ردات فعله التي كانت تتوقعها، أو بالأحرى تتمنّاها، تعيشها في عالم الخيال الافتراضي، تسقط فيه كل مرة من الأعلى، تستمتع بالغوص أعمق فأعمق في رحلة اكتشاف ولذّة حتى تعتاد التقمّص، فيختلط الخيال بالواقع، تصبح الكلمات الصاخبة بلاصوت، والقبلات والأحضان روتين لا ملل فيه، ويصبح للمكبوتات المُخجلة تقديرا واحترامًا.

الصحراء تصبح صدر الشاب العاري، والهودج فوق الجمل به كل أحلامها وأمنياتها التي تدخل بها إلى الخيال. تتمرّد على حقيقة الشاب ذاته في الواقع، تُعيد خلقه كما تشاء، فهي إلهة هذا العالم الرحيمة بنفسها. لهيب اللذة لا يُؤذيها بعد اليوم، بل يُنضجها، ويزيد من عمرها الحقيقي أضعافًا من الخبرة.

يشبه بطلنا الوحيد الصامت الإنسان ذاته، وشعوره بالاغتراب، والضآلة والحقارة فوق ذرة غبار زرقاء، عالقة في كون يتوسّع به ملايين المجرّات. في كون لا نملك إلا أن نتأمّل عظمته وجبروته في صمت.

إنها حياة لن يمكث فيها كثيرًا، ولن يستطيع فهمها وفهم متطلباتها، كلما اقترب من شجرة المعرفة أكثر؛ شاخ عمره، وتيبس جسده، وشاب شعره، في إنذار جاد بالرحيل، والتوقف عن ممارسة فضوله وشغفه.

لم يأت بطلنا الصامت إلى الحياة بإرادته؛ لذا ربما رفض أن ينصاع لقوانينها وحركاتها، وآثر التمرُّد، آثر الخيال.

حيث لا قوانين، ولا حدود.. 

فقط رحلة غوص لذيذة إلى أعمق الأعماق.

ومن ثَم تعوُّد، وتقمُّص!

***

أُنهي باقتباس صغير. تقول الفتاة عن الشاب في اسقاط واضح للمعان على حالة هُيامها، وفي حالة لا أدرية، حالة عدم يقين واضحة حتى مما تراه بعينيها وتسمعه بأذنيها. وأيضًا وصف لمعان الوِحدة من بعيد:

1 _ ”كأنه حُلم! أو لاشيء؛ يدخل شقته، يغلق الباب، ثم تنقطع جدرانه عن بث أي همسة أمل تدل بأن تلك الشقة فيها بشر. قلّ ما تبث جدران شقته وسقفها؛ أغان جنوبيّة كلها فرح ونوح، وأشد ما يميزها؛ المزمار والرَّباب؛ المزمار الصدّاح المُتجاهل لكل الآلات الموسيقية بجواره، والرَّباب التي تنوح من تجاهله إياها.“

 *.... اقتباس أخير يصف الحب، أو يصف التعلّق بالمجهول:

2 _ ”كلما أتيتُ في زيارة لأمي؛ وما إن دخلت البيت، إلا وتساقطتْ دقّات قلبي كجبل صخور خرّ من علٍ! حنين غامض يسحلني لرؤيته، ولسماع صمت جدرانه، أو مزمار أغانية، أو الرثاء لأنين ربَّابه. وأخشى أن يكن قد غادر بلا رجعة، فمجرَّد احساسي بوجوده في الداخل يريحني كثيرًا. فقلّ ما أصادفه بمدخل البيت أو أمام شقّته، ونتبادل ذات النظرات الثرثارة، التي باتت -بعد زواجي- تقول لي: ليتني أنا الأب لابنتك؟

أو:

- ليتني أنا من أبات في أحضانك كل ليلة.“


إرسال تعليق

0 تعليقات