الحلقة الخامسة : على مائدة الطعام
نظر إليها نظرة من وراء حاجبيه الصّارمين وهي تضع الصّحن الجديد على الطّاولة في الجهة اليمنى،حيث مكان الجد،صحن غارق بزيت الزّيتون وبعض ممّن يشتهيه زوجها..نظر إلى الصّحن بعينين غارقتين بالغبطة والغل كغرق الصّحن بالجبن و شرائح البيض..نصبت المائدة بتفاوت في الأكلات بين شقّي الملكين وكانت القصعة في الوسط كفاصل بين الشطر الأمامي حيث الملك والشطر الخلفي أين تقبع المناضلة..الثائرة التي تريد فك زمام الحكم.وإن كان لا يرى في إستيلائها لمقاليد المملكة من علامات خير للرّعيّة.كذلك النّظام المعتمد في المملكة من القدم بمكان،و فيه هظم لحقوق وحرّيّات نتاجا لإحتياجات الملك المجحفة والأنانّيّة،أمّا مخطّط الإطاحة أو الطريقة المبتذلة التي ركّزتها المناضلة في خلق الفتن وتأجيج النّفوس لخرق النّظام،وما أعطت من إنقسامات داخل المملكة وخارجها،تظلّ تكبُر حتّى إن نجحت الثّورة وظفرت بالحكم.
ثورة الكسكسي..!إن نجحت وسمّيت بمسمّى القصعة التي نصبت وسط طاولة التّفاوظات بالمفهوم السّياسي للعائلة..بما أنّ جل النّقاشات الدّبلماسيّة تظهر بأكثر وضوح عند حظور الجد فتواجده يعطي صبغة شرعيّة لكلّ قرار يُأخذ وإلاّ لأتُّهِم الأب بالشُّحِّ.وموقع الجد حاليّا هو جنب الملك في طاولة المفاوظات وخارجها.ويعتبر هذا التّقرب رسالة رضاء غير مُعلنة من حكيم المدينة في تفاني الملك وحسن الإعالة إلى حدّ الآن.بمفهوم الحكيم بالطّبع..!التي ترجع جميع مفاهيمه عن الإعالة إلى القرون الوسطى حيث الإمبراطوريّات و القياصرة..حيث الهيمنة بأفضع تجلّياتها وإنعدام الحدود ولا بقاء للممالك الصّغيرة التّافهة أنذاك!.حيث السّبي والعبوديّة بمفهومها الحقيقي الصّريح.
أمّا كمال فلا يريد إلاّ على الحفاظ على روابط المحبّة والأواصر بين سلالتين لطالما تقاربت مفاهيم حكمهم،وإن تشوّه النّموذج الأخير لتغيُّر الأزمنة والقوانين مع تعنّته في التّسيير القديم،على رغم نظج بعضا من رعيّته وإن كان نظجا محتشما يغلب عليه البلادة..
فإمبراطوريات الأشخاص لا تخدم إلاّ ذواتهم ويسمح للبقية بالمعرفة في حدود الخدمة..خدمة الرّأس الكبير..وقد تجمّد رأس سلوى من الخدمة و قلة المعرفة.
إذن كيف ستكون الثورة هي الأخيرة من عقل بليد لايريد التّطوّر متأثّرة هي الأخرى بموروث قديم عفى عليه الزّمن ،!
كيف ستكون سوى أنّها ستخلق مزيد من الإنقسامات...
رمت الصّحن الأخير أمامه بإسراع تاركتا إيّاه قبل أن يرسو على الطّاولة ببضع ملّمترات..صحن متنوّع من الّسلطة النّيئة إندُسّت فيها وريقات الخسّ في الوسط ،سوى ورقة بقت واقفة عند الجانب بمفعول إصبع خيار أبى إلاّ أن يبقى في حالة خوزقة لتلك الورقة.
زمّ كمال بشفتيه،ومحلّ نظره عند سوق الخضار أمامه..أزاح الصّحن قليلا ورمى بيده إلى القصعة يغرف بضع ملاعق من الكسكس الحار وعينه تتفقّد ردّت فعل زوجته..
يبدو شكل مائدة الطّعام بالحجم الذي تستطيع أن تمدّ يدك إلى وسطها وتغرف من أيّ طبق كان طاولة تسع ستّة أشخاص متحابّين:كرسيّين في الجانب الأيمن وكرسيّين في الجانب الأيسر وقد كانو ملتصقين لخصوصيّة الطاّولة،وآخران في الأمام والخلف.
أُحتُلّ الأخيران من قبل الزّوجين كما هي العادة عند أصحاب القرار وطرفي النّزاع الرّئيسيّين..حيث يكونا كلّ منهما على مسافة آمنة كي لا يشبّ شجار مادّي لحدةّ القضّيّة،وأن تكون زاوية الرّؤية مريحة وملمّة منهما على بقيّة الأفراد الذين أنقسمو إلى دبلماسيّين وأوراق ضغط يُستعملو من أحدهما على الآخر.
نظرت للقصعة المعدّة بسهم يريد أن يوقف حصد الأب للكسكس،ولكن مازالت لم تبلغ بعد القوّة الكافية لإقاف حركة يد شخص بنظرة واحدة..لم تبلغ تلك القوّة بعد و إن كانت نظرتها بالحدّة الكافية لإيقاف شفاه تريد التّمرّد،أثناء التّفوّه وأحيانا قبل النّبس بأي كلمة،على الأقل نجحت مع إبنتيها،خاصّتا الكبرى..وإبنها الذي يبدو أنّه قد ولد مهيّء لها تماما وغير قابل للسّيطرة أكثر..لكن نظرة تقف بها حركة جسديّة ليس بعد
أما إن تمكّنت فلن تستطيع مع هيكل تعوّد إن وضع على المائدة أن يتحرّك بصفة دوريّة ملتهما دون إنقطاع..عادة تتوارثها شجرة الأب من عرقها الأرضي إلى أعلى ورقة في غصنها..انتهاءا بالإبنة الصّغرى آية التي لبّت نداء الواجب فور سماعها صفّارة الأم عندما تحوّل صوتها إلى ناقوز خطر يُنذر بقرب إنتهاء المؤونة،ليس من المائدة فقط بل من المملكة بكاملها.
جلست آية قبالت جدّها قرب صحن الخضار، يبدو أنّ ألوان ما في الصّحن تغري من في مثل سنّها،راحت تقطف بضعا من ورق الخس وبعضا من شرائح الجزر وقليلا من خوازيق الخيار دون ان ينبس الأب بكلمة،بل وفعل العجب عندما إلتقط عجلة من جزرة سقطت من يد آية على الطّاولة ووضعها في فيه بإبتسامة قاومتها بقيّة ملامحه الخشبيّة،كأنّه يرسل ظرفا مختوما عبر إبنته للطّرف المقابل فحواه كلمتان فقط :
"مازلتُ بشرا "
لم تستلم الرّسالة،كانت نظراتها إحتقاريّة تشيّان بإهتمام هستيري.أشاحت يمنة ويسْرة للكرسيْين الباقيين ورقتا ضغطها لم يأتيا بعد.وصيحة ثانية أحرقت بها الرّسالة و نثرت رمادها على كامل الغرفة..لازلت وحشا ذئبا يريد أكل العنزات، شيطان تريد الغواية..غول المملكة الذي يجب الإتّحاد من أجله وطرده مهما كلّف الأمر..
دخلت سميرة يليها أخيها أيمن بخطوات مهملة من الطّرفين،إلاّ أن أيمن تدارك الموقف وأنعرج بسرعة نحو الكرسي الذي هيّأت له سميرة نفسها للجلوس عليه..وقفت و أخذ سواد عينها يتحرّك في ثلاث إتّجاهات متتالية:شكل مثلث متقايس الضّلعين أو بالأصح شكل مثلّث برمودا..مثلّث الموت،عين على كرسيّها الذي أُخذ منها وعين على أمّها القابعة بجانبها ونظراتها التي لا تسمح برؤية شجار تافه عن الأحقّية الأولى في المجلس.وعين ثالثة متّجهة للكرسي المجانب للشّرهة آية،فكّ الكمّاشة الثّاني..وقد بدى الكرسي كمكان لإحتضان لوزة قبل تهشيمها..أو ككرسي الإعدام المستعمل في القرون الوسطى و أمامه على الطّاولة منديل يشبه المناديل المعدّة لمسح رأس المجني قبل إعدامه بقضيبي كهرباء..أتّصلا القضيبين سلفا بالمولّدان..وقفت سميرة وقد لاحظت عيني أمّها التي تحوّلت نظراتها إلى إستغراب غير متفهّم لإضطراب إبنتها،تلتها بقيّة العيون الأخرى التي بدأت تتّجه إليها.تحرّكت ساقيها بطريقة لا إراديّة نحو المنصّة مختلقة نوعا من السّكون تزامنا مع خطواتها البطيئة،وقليل من الهواء الخفيف الذي أًثير عبر حركتها الدّائريّة وراء أمّها نحو الكرسيّ والعيون الغفيرة تتابع.
وصلت للمنصّة وهفهفت تلك المنديل بمفعول النّسمات المثارة أثناء جر الكرسيِّ و الجلوس عليه..هفهفت المنديل مرحّبتا بالجثّة ومودّعة للرّوح..
رمت بإضطراب سهاما جانبيّة تستطلع بها حال أختها وسط ذلك الخضم،تكاد تكون نظرة صيّاد لا يستطيع مسك فريسته من كثرة إلتوائها وأمّها في الجهة اليمنى تغرف لها حصّتها بعزم شغّيل مجِد وسط عمل شاق لا يستطيع أحد غيرها فعله..يشبه جلوسها بينهما بجلوسها المعتاد في الفصل بين زميلتين نشيطتين رافعتا إصبعهما بإستمرار إلى الأستاذ،وهي في الوسط كلغم محكم كبته ينتظر أن يستشعره أحد حتّى ينفجر..أو كصندوق سحري لا يعلم ما يُخبّأ فيه حتّى تلمسه.. يبدو أنّ بؤس ذلك الإجتماع لن يُمحى بسهولة من ذاتها..كما يظهر من طريقة جلستها و تشنّج ساقيها من كثرة إلتصاقهما معا طوال الإجتماع بعزمها فيما بعد لإنتفاضة ليليّة فائقة الخطورة..!لا بدّ من الإطالة في المراودة هذه المرّة حتّى يتسارع نبظها من جديد..و بالتّأكيد إلى أكثر من مداعبة...
قاطع شيخ المدينة وحكيمها ضربات معول العامل على القصعة بسؤال جوهري للفرعون:
((كيف حال الشّغل معك ؟ ))
تفطّن المستبد لإنتباه العامل وتصنّته وهو العليم بمدى توسّع صيت الثّورة التي جمعت كل طبقات العمّال إلى أن وصل التّعنّت إلى الشحّاذين الطّالبين للقمة العيش.
((لابأس كالعادة ؟))..ردّ بدبلماسيّة هشّة لم تعد تُأتي أُكلها حتّى في العالم الثّالث
((ثمّا زيادات على قريب وإلاّ مازالو ما حنّش علاهم ربّي؟)) أردف الحكيم بسؤال آخر أبكم به الملك الذي كان يعلم تداعيات الإجابة في كلتا المخرجين.تظاهر إنشغاله بالأكل إيحاءا بعدم إرتياحه الحديث أثناء الطّعام..
لبّت العاملة نداء الثّورة لمّا تراءت لها تهرّب المستبدّ من الإجابة وفسرّته ضعفا تستطيع الولوج منه،فخاطبت أباها عن مشروعها الموقّف والغير مصادق عليه إلى الآن في التّرميم والتّعديل في المملكة..إلتفت الحكيم بدوره للملك يأخذ منه رأيا حول المقترحات المقدّمة وحسما إن أمكن بالقبول أو الرّفض..
هنالك نوعا من البلادة والمماطلة المفتعلة دائما من الدكتاتوريين والمستبدّين حتّى إن كان الأمر يستدع العجلة في إتّخاذ القرار والنّفر إلى التّنفيذ الفوري.لكن للسّلطة إغراءات عميقة لا يستشعرها إلا من سُلّطت عليه الأضواء وأصبح محل طلب وإستفسار..
((تو نشوف..عندي برشا حاجات..؟ ))
إجابة مبهمة إكتظّت لها الثّائرة وهاجت سرائرها وأضحت تتيقّن مع الوقت أنّ الأمور تطال أكثر من اللاّزم..ماج بحر عاطفتها وبدأت أمواجه تضطرب شيئا فشيئا..وبإضطرابه تتوقّف السّفُن عن التّجارة وتتحوّل مع القوارب الصّغيرة إلى الميناء.كما يُحجّر المعهد الوطني للملاحة والصّيد البحري السّباحة وسط هذه الظّروف..وإلاّ الغرقُ والهلاك...
***
ويبدو في ظلّ هذه الدّول النّامية:التي تعاني دنوِّ المعيشة والفقر الرّوحي المدقع ،والجفاء والقحط في المعاملة،لا تقع في تلك الدّول ثورات نزيهة بحكم دناءة وجهل المجتمع..سوى الإنقلابات المسلّحة والإغتيالات السّرّية وأسلوب العصابات الرّخيص..ويبدو من شكل النّفوس التي تتراوح هيئة وإيابا حول الطّاولة تزامنا مع إيقاع نفير نفس أمِّ الدّنيا كما تتملًقها حياة عندما تريد منها شيء..
لا يبدو من سبيل آخر تتجه نحوه الثّورة التي طالت زهاء عدّة سنين بمسيرة نضال محترمة بأن لا تُختم إلاّ بنجاح مهما كلّف الأمر وإلاّ لذهب زهاء النِّضال سُدى كما ستذهب مجلاّت تلك المملكة إلى وريقات صغيرة مع نجاحها.
أمّا عندما تتعمًق في وجوههم فإنك ترى فيهم الإستسلام والإنسحاب بأيّ طريقة، لكنّ العناد والأنانيّة يجعل كلّ واحد منهم يرى الآخر بمظهر المنافس الشّرس وأحيانا العدو،ولا يتعلّم المرأ من مسيرة نضاله سوى شيء واحد وهو ألاّ يُظهر ضعفه لعدوّه فيغتنمه؛
وأيّ عدوّ ذاك الذي يطمس أهمّ ماتملك .. ذاتك.
وأيّ شيء أحبّ للمرء من نفسه سوى نفسه..
وماذا يكون الذي يريد طمسها سوى أنّه ألدّ أعدائك.حتّى وإن كان صديق أو أخ أم عسى الأب له خصوصيّاته..! بل حتّى وإن كانت الأم فلا فرق بين قريب وبعيد إن أصبح محلُّ الأذى القلب..فما الرأي إن أضحى بلُبِّ ما في القلب..
لملمت أمِّ الدّنيا شتات مائدة الطّعام،وأنفضّ المجلس.
________________________________________
ملاحظة :
((مازالو ماحنش علاهم ربي؟ )) : قولة متوارثة في الدارجة التونسية تعني " هل لازالو لم يرأفو للحال ؟ "
((تو نشوف عندي برشا حاجات؟)) :قولة متوارثة لدى الأواسط الشعبية التونسية تعني " سأرى فلديّ الكثير من المشاغل"
إرسال تعليق
0 تعليقات