القاص المغربي "هشام وهبي" يكتب: "الواقعية" والأدب الجديد: رؤية ضبابية لمفهوم الأدب




    عندما كان "العقاد" يواجه مستميتا بردوده الحادة التي عرف بها، دعوات التجديد في الأدب، والتي بدأت تظهر حينذاك. كان جيل كامل من الأدباء الجدد، قد رسم طريقا جديدة ينحوها الأدب، بعيدا عن الثقافة الجامدة التي خلقها التعلق بمخلفات كتب التراث الأدبي والنقدي القديمة، والتي صنعت أدبا نمطيا يمتح من التاريخ، وحصر تصوراته الجمالية في حدود شكلية ثابتة.
   المشهد اليوم مختلف.. بل ضبابي حقا، بل حتى الحديث عن "مشهد ثقافي" أو "وسط أدبي" قد أصبح متجاوزا نوعا ما، فقد كسرت إمكانات التواصل الهائلة ووفرة وسائل التثقيف والمثاقفة هذه الحدود "الرسمية" التي كانت تحيط بالأدب، وخرجت به إلى ساحة "المتاح" في عالم يقيس كل شيء –بما فيه الإنسان- بمقاييس الاقتصاد.
ولئن كان هذا التحول مناسبا للأدباء الجدد، فإنه يجعل باب السؤال مواربا.. ألم يدفن هذا الوضع خصوصية الأدب.. ويبتعد به عن خانة الفن التي تسمو به؟. يبدو هذا السؤال مشروعا، في ظل خفوت صوت الأدب بمقوماته الفنية الحقة، وارتفاع أصوات "الأدب" الرديء، الذي يفرض نفسه بحيثيات تجارية محضة، بدءا بتقنيات كتابة النص ووسائل الترويج له، وانتهاء بشكل تقديمه للمتلقي أو القارئ. إذ صرنا نصطدم -بالنسبة للكتب التي تمثل هذا الأدب مثلا- مقدمات تلعب بمشاعر القارئ، وتفسد عليه ذوقه الفني حتى قبل أن يقرأ الكتاب.
    لقد أغرى هذا الوضع الجديد أدباء شباب ممن يهتمون بالكتابة، فانبروا لها دون ضوابط فنية قد توجه كتاباتهم أو تصورات جمالية يبنون على أساسها نمطا فنيا ما يميزهم. لكن الملاحظ أن التوجه البارز الذي يطبع "أدب الشباب" اليوم، والذي صنعه هذا الوضع، هو الانحياز للواقعية، والتي تقترب كثيرا من ذاك المفهوم الذي انبثق عن تصورات النقد الاجتماعي في القرن الماضي، والذي يربط النص الأدبي بالمجتمع، حيث يقوم على  تصوير تجربة الإنسان الحية في محيطه دون تزييف أو اجتهاد، وذلك بعرض تجارب ومشكلات خاصة بالإنسان ومعيشه اليومي..
     إن هذه الخصائص التي تميز هذا التوجه لا عيب فيها، بل تكاد تكون مطلوبة، مادام الأدب الجيد نابعا من تجربة إنسانية أو فكرية أصيلة. غير أن هذا كله غير كاف، مادمنا لا نلمس في هذه النصوص ما قال عنه الشكلانيون الروس يوما : "ما يخلق أدبية الأدب" .. فلن  يكتسب النص هذه السمة، ولن يكون أساسه الفني حقيقيا، إلا إذا بني على قدر كبير من الموهبة والتجربة والثقافة، دون انفصال أو تنافر، حيث يقوم الأديب كالصائغ بتذويب كميات محددة- حسب العمل الأدبي- من موهبته وتجربته وثقافته، ليصنع خلقا جديدا مختلفا ومتوازنا، حتى يكون الناظر إلى العمل كالناظر إلى تحفة متكاملة الأجزاء بشكل حقيقي ومبهر. فحين يتجاهل الأديب كل هذه الشروط مقصرا غايته على نقل التجربة، فإنه يحد من أدبية الأدب، ويلحق النص الأدبي بمجالات تنأى به عن الفن.
    والواقعية هاته التي ينحوها هؤلاء الأدباء، لا ينبغي أن تكون إلا وسيلة في يد الأدب وموضوعا من الموضوعات المختلفة التي يشتغل عليها، لا غاية يتلاشى أمامها النص.
    لابد إذن من الارتفاع بالأدب إلى أسمى المراتب، لأنه كان وسيظل أداة تعبير فنية راقية، فليس جدولا سائرا يغترف منه كل عابر سبيل في الأدب أجاد تقنيات الكتابة أم لم يجدها.  

إرسال تعليق

0 تعليقات