«ذاكرة أسرة من العالم الثالث» قصة طويلة للكاتب التونسي: عادل البيجاوي (الحلقة الرابعة_ العائلة السعيدة)



الحلقة الرابعة : العائلة السّعيدة
 11:21 صباحا

سمعتْ أصواتاً متشابكة ، أصواتا تبدو لها مُزعجة ، ونشازٌ مقلقٌ لنومها . أيّام الآحاد .. الأيّام التي تريد فيها سميرة النّوم كامل النّهار  ولكن أُمنية رغم تجدُّدِها كلّ أسبوع إلاّ أنّها لا تتحقق ..!  دنا إلى مسمعها صوت أختها الصُّغرى آية ، الصَّوتُ الذي يزيد من حناقها  ويأجِّج بعفويَّة لحنه كآبتها . وضعتْ الوسادة فوق الشّقِّ الأيْمنِ لوجْهها ولطخت بكفِّ يدِها تثبِّتُ الوِسادة فوق رأْسها  وتزيدها عصرا كلّما إقترب الصَّوتُ أكثر. فبدأت الوسادة تتقلّصُ في المنْتَصَفِ كأنّها تُحْشُر قسرا في أُذُنها.

((أحضرت عرائسي ..!)) قالت آية بعدما فتحت باب بيت أختها الكُبرى بإندفاعٍ صباحي ملوّحتا بلعبها

نظرت سميرة لملامح وجْه أُختِها المُشرق،بذلك الحاجب المُتعرِّج البارز بروزا متناسقا مع شكل إبتسامتها،وأنْفِها الذي يتفطّر بنسق موازٍ لدائرة وجهِها الصّغير،
نظرت سميرة نظرة معمّقة وسريعة  لتفاصيل وجه أُختها الثّري المناقض تناقضا صريحا مع تفاصيل وجهها.وصرخت بصوت أجش وأكثر غرقا عند صحوها ((أُخرجي أُريد أن أنام .! ) ..
تبدو العائلة عند إصطفافها في صورة جماعية منقسمة السّحنات،بحسب جينات الوالدين؛فقد أخذت البنتُ الكبرى والإبنُ الأصغر سحنات وجه أُمّهما الباهت  أمّا آية فتبدو كالبنت الضَّالّة المتطرّفة عن الحشد أو المتبنّية اللّقيطة لو فُقِد الأب من الصُّورة،حيث أخذت كلّ سحنات أبيها البارزة بما فيها لون الوجه القمحي المشرق،المخالف لبقيّة وجوه العائلة القفر الخالي من الدّماء. وقد أجّج هذا حناق البنْت الكُبرى وجُعلت تخزّن برامل غيض في سِرّها،أثّرت على علاقتها بباقي شجرة العائلة حتى الموسّعة منها التي مع الوقت أصبحت مقتطفة من جلِّ أوراق نسل أبيها.وقد كانت علاقتها بأُخْتها الصُّغرى قاحلة كقحول بشرتها: بما أنّها البنْتُ الكُبرى فقد كانت تجِدُ تذبذُبا بين طبيعة المستوى العائلي الذي فُرِض عليها في أن تكون الأولى وصاحبة التّجارُب في الحياة (وهي الخاليةُ من أيّ حياة ) وبين ما تراه هي من مُستوى نظوجُ شخصيّتها وما وصل إليه و الذي إلى الآن لم يتجاوز الصِّفْر بالمئة.ولم يُسنّى لها الحظّ بعد في أن تبلُغ به مراتِب أعلى من ذلك مع جفاف كلّ شيء محيطٍ بها،فكانت تجدُ تناقضا صريحا في كلّ فعل أو ردّة فعل تقوم به،وقد بدئ تناقضها من أسرتها وهي التي لا تستطيع أن  تفكّ نفسها من سلاسلهم الخانقة خاصّتا أمّها التي توحي كل تصرّفاتها معها بالملكية القهريّة والجفاء في المعاملة..كأنّها جزء صغير من مملكتها المنشودة تقاس فيها طورا بجارية،و تتدهور في أطوار أخرى درجتها لتُصبح المتبنّية اللّقيطة لإفتقارها المهنيّة في أن تكون جارية ماهرة فطبيعتها الإتّكاليّة وكآبتها المفرطة تمنعها من أن تكون متقنة لأي شيء. إذ ترى نفسها البائسة الوحيدة في تلك المملكة كأنّها طفيليّة مهدّدة بالإنتزاع لشدّة بؤس مالكها. لشدّ ما أرادت التّشجّع و مصارحة أُمّها بحقيقة مشاعرها وأنّها كبُرت ولم تعد تلك الجارية أو اللّقيطة التي لا تُسمع دائما ما حاولت أن تميل تعاطفها و أن تذكرها بأنّها إنسان ومن حقّها أن تُعامل كإنسان ..!ولكن كيف وهي التي لم تُستشعر لا من قريب ولا من بعيد،فحتّى نظريّتها هذه تُصبح في أحيان كثيرة غير قابلة للتّصديق منها هي شخصيّا،فما بالك من أمّها التي لها تصوّراتها الخاصّة عن الأمومة أو بالأحرى عن الأحقّيّة الملكيّة ... تبدئ إستغاثتها من هناك .. وتُكمِل أُختها الصّغرى في عصر ما تبقّى لها من جهد عبر حركتها الدّائمة والعفوية السّاخطة عندها حتّى أصبحت سميرة في حالة صدٍّ مستمر لأُخْتها بطرق متنوّعة
 _ هذا وبقت تنتظر من يخلّصها من كآبتها
 _ وألفت تنتظر رسالة من السّماء تخلّصها حقّا من عذابها وهي التي من كثرة كآبتها أضحت مستبعدة أن يتمّ ترمِيم ما بُعثِر من نفسِها برسالة واحدة..

فصبّت جام تركيزها على شخصٍ يكون على مقاسها وفي سذاجة عقلها:
1_ شخصًا يُنسيها ماضيها المنسيِّ بطبعه
2_ويُملئ حاضرها الشّفاف الأملس الذي لا يستمرّ فيه أحد
3_ و لما لا يخلِّصها من كابوس المستقبل!

فهل تجد..؟
أرجعت بقبضة يدها الوسادة بعدما أطلقت غرغرتها،فخرجت آية من الغرفة وقد فشلت محاولتها الإستئناس بأختها القاسية وقد تجرّعت أنواعا من الصّدِّ الغير مبرّر،حتى أصبحت مع الوقت تراقب نفسها وتُصلح من أخطاءها الإفتراضيّة علّ أنّها ترضيها ولكن سرعان ما تنسى مراقبتها وتأخذها غرائز  براءت فكرها في اللّعب والغناء بصوتها الرّنّان،رمت عروستها على فراشها وألقت نظرة لغرفتها المجانبة لغرفة أختها تستقصي عدستها أخيها أيمن، ظالّتها لقتل الوقت رغم أنّها أحيانا كثيرة لا تسشعر بالمتعة المفروضة بها أن تشعر عند اللّعب  لقلة تجاوب أخيها معها،حتى في أحلك أوقات اللّعبة وشدّتها و ذروة الصِّراع ونشوة المنتصر،تجد تجاوبا محتشما من أيمن  بطبعه النيئ المنقوص من كل التّفاعلات الإيجابيّة
هل  هكذا يكون  اللّعب مع الأولاد بتلك الدّرجة من الذبول والتّخاذل ..؟ أم أنّ النّموذج الموجود في الأسرة ليس بالنّموذج الصّحّي كي يُأخذ مثال يُقاس عليه...؟أسئلة تتكوّن في عقل آية  بتطوّر منتظم و بلا وعي تتحوّل إلى مواقف سلبيّة عن الجنس الآخر،وفي الميل أكثر للبنات كلّما إستدرجتها الظّروف إلى اللّعب مع أخيها ، خاصّتا وأنّ ثقافة الأسرة لا تسمح معنويّا بخلق صداقات مختلفة،إذا فاللّعب معهم ليست  بالمُمتعة والعفويّة قياسا بمتعة اللّعب مع الأخت وخاصّتا إن كانت الكبرى حيث النّشوة في ذروتها عند الإنتصار،والتّقبُّل الرّحِب في الهزيمة.ولكن كيف السّبيل و جدار الصّد يعلو ببؤسه وكآبته تماما مثل الجدار الفاصل بين الغرفتين النّاصع بالبياض بطّبقات الطّلاء المتراكمة فوق بعض و صدع وشروخ يتخلّله من كلتا الجانبين.
 وقد توزّعت الشروخ  في الحقيقة على كامل جدران المنزل أشبه بسدود فاصلة بين كلّ ضغط عالي وآخر،ولولا التّعديلات المتفرّقة كلّ حين لبانت جميع الشّروخ بشكل أوضح وأكثر بروز، لكن طبقات الطّلاء تغطّي جزءا واسعا منها خاصّة في غرفة المعيشة حيث بُرزت فيها التّعديلات بشكل أوضح عن باقي الغرف  بالفوارق الضّوئيّة  لنفس لون الطّلاء في جميع جوانبه،فلم يعد للأثاث أي قيمة في إضفاء جماليّة على القاعة مع خظمّ الإشعاع المنبثق شمالا وشرقا وبين الجنبين.إذ بدت الطّاولة و كراسيّها أو تلك الأريكة المتطرّفة في ركن القاعة بوسائدها الكثيرة كالشّيء المظلم وسط نور منبثق ولم تزد لسلوى سوى تعب عند تنظيف الوسائد بظربات إنتقاميّة لتنفضها تماما من الغبار،أو في تعديل الأثاث عندما يتراء للملكة في إستعمالها أمّا كمال فلم تضف له تلك القاعة سوى بعدا عنها وإشمئزازا كلّما مرّ من خلالها..

كما يتناهى في خضمّ الأصوات التي تتكاثر في ذلك اليوم من كلّ شطر في المنزل ومن كلّ ركن في بيت،ومن كلّ أثاث يحرّك ويجر.!يتناهى إلى كلّ مستمع مدقّق صوت جديد ،ليس ببعيد من لحن بقيّة أزيز الأثاث الموضوعة بطرق تشتّت أي عين معوّدة على تنظّم الأشياء.بل صوت يبدو في لحنه أكثر خشونة من خزانة عند جرّها أو خشخشة تلفاز بهوائي قديم كلّما فتحت على تذبذب ضعيف ..!صوت ليس بجديد على العائلة،بل هو محفّز لبعض من أفراده ومنفّر للبعض الآخر..! صوت يأتي مع صاحبه كلّ حين وحين حسب الجدول الزّمني، ليغيّر شيئا من طباع الأم التّهرّبيّة،ويعطي للأبناء نكهة التّجمّع على مائدة واحدة كأسرة عاديّة ويجد فيه كمال فرصة لإستنشاق نسيم هيبة الأب بدون عوائق وكلمة الزّوج المسموع في منزله .. هو المنصف أو كما يلقّبه زوج حياة "نصيّف"،كُنية للجد الذي أصبح سائح بين المنازل تتلقّفه بناته ككرة فراء ينقُص من فروها كلّما رميت،هذا فقد أصبح له خيار صعب بين أن يبقى وحيدا في منزله كالجبل الشامخ وراء ضباب معتم أو أن يرمي بنفسه بين عبيده ويرى كيف هي حال من كان تحت إمرته. فكان  كالضّيف الغير مرحّبا به بين فلذات أكباده حتّى جعلو له جدول زمني يقيهم إستمرارية بعبع القيصر الذي لطالما أرقهم في الماضي ،ويقيهم أيضا سخط أزواجهم عنهم لعدم تفاهمهم معه خاصةً حياة فحياتها مع زوجها لا تحتمل أيّ تدخّل خارجي،بالأخصّ إن كان أبيها الذي أضحى بعد تاريخه في السّبي حكيم المدينة بعقله الذي يبدو أنّه قد توقّف منذ زمن بعيد..

 ومع تفرّق الممالك قلّ إجتماع العائلة وقلّت موائدهم وأقتصر شملهم فقط على تعديل الدّستور المعد خصّيصا للجد،وقد شهد الدّستور منذ اقامته عدّة خروق في مدّة الإستضافة وكانت كلّ مرّة تتحمّل واحدة عبأ الخروقات بالإبقاء على أبيها وقتا إضافيّا عندها وإن قارنّا بين الواقع وما هو على الورق لوجدنا إختلافا كبيرا بينهما يكاد يصل حدّ التّناقض،كأنّهم يجسّدون القاعد المشهورة حول العرب بأنّهم إتفقو على ألاّ يتفقو  إن أعتبرناهم ممالك إستقلّو من هيمنة الواحد في سبيل أن يكونو دول ذات سيادة، وإن معّناّ النّظر أكثر لوجدنا من بينهم مملكة أحيط فيها الرّأي على أن تكون المملكة التي تقام فيها الإحتفالات و المآتم و تجتمع لديها بقيّة الممالك كلّما دعت الضّرورة،و تعيّن فيها الإجتماعت السرّية المغلقة أوالعلنيّة الزّائفة،ودائما ماتتحمّل تلك الدّولة خروقات جيرانها و تقوم بالسًتر أو بالتّشهير على أخطائهم حسب الظّروف والمعطيات...
وقد شهد بيت سلوى رغم وهن معماره العديد من الحلق السّرية في غرفه وزواياه،وبعضا من النّدوات النّسائية الهامّة التي تدور جلّها حول مواضيع مصيريّة،كأخبار الفنّانين والموضة عبر المجلاّت التي تأتي بها حياة من امكنة عدّة وترسو في الأخير في المملكة المتخاصم عليها،بالتدقيق في غرفة سميرة الضّحيّة الأولى في تلك المملكة وقد وجدت بهم ملاذا إفتراضيّا وفسحة لإستكشاف الذّات والتّرقّي،فتبدئ بواسطتهم  بالبحث عمّن  يشبهها،شيئا تواسي به تفرّدها عبر الصّور الأسبوعيّة المختلفة للفنّانين.قد تبدو صفحات تلك المجلاّت مهترئة من كثرة ما أستهلكت في النّدوات قبل أن تُفضى إليها ولكن رغم ذلك تقوم  بتخزينها بإستمرار  لتخرج حسب الطّلب دون التّخلّص منها  لسبب لا يعلمه أحد سوى هي،سرعان ما تفقد تلك المجلاّت رونقها فتلوذ بالأنترنت..ولعلّها في عدم التخلّص من المجلاّت تحسبُ حسابا للظّروف:فلا يعلم أحد ما الذي يطرأ على الشبكة العنكبوتيّة من فقدان للخط أو إنعدام رصيد لشّحنه من جديد..!وما شابهها من العراقيل...فالغوص في العالم الإفتراضي يريح قلبها حتّى تتيقّن أنّ شكل جسمها ليس بذلك الغرابة وبأنّها ليست الوحيدة بهذه السّحنات .سرعان ما يجرّها بحثها إلى أبعاد أخرى تختبر فيها أحاسيسها التي دفنت مع الوقت بالغوص في صور  بألوان مشعّة عن الجنس الآخر و كأنّها تتحضّر لخطوة واقعية جريئة إلى العالم دون أن تخطوها  بإغراءات تلك الصّور.تريد ان تصنع قضيّة وعنوانا يبرزها بين الناس،و تكوّن لذاتها ذوقا خاص فتذهب فرائس غرائزها لكلّ صورة مناقضة لصورتها وكلّ ملامح تكمّل ملامحها،كأنّها بذلك تفجّر دائرة عالمها المكبوت بالغوص في خيالها أكثر، وسرعان ما تأخذ تلك الصّور أشكالا مثيرة في زوايا مخيّلتها.. كما هو نوع من الهروب والتّخفّي تحتسيه على مشارف دولة منازع عليها:بين نظام قديم لا يريد التّزحزح،وثائر جاهل ضيّق الفكر لا يعتبر .
وما كان لبقيّة الرّعيّة سوى الهروب بطرق مختلفة
 وما أحلى الهروب عندما يمتزج شدّة البؤس بنشوة تعادله وتحويه..! حتى أصبح لهروبها وقت لا تخالفه..!
 بل وقت تنسى فيه كل شيء ولا تنساه ..!
تلك الدّقائق التي تراود فيها نفسها .. ثم تداعبها...

إرسال تعليق

0 تعليقات