«يوسف الرازي» يكتب: الصديق عند الضيق!
كان هناك أحد الأشراف، وكان يملك طائرا، حسن الصوت ذهبي الريش لامعه، وكان يسلي سيده بصوته الشجي، ويطرب كل الزائرين وأهل البيت، وكان مادحوه من الكثرة كأن الدنيا خلت من الطيور؛ كان مزهوا بنفسه، مغرورا بصوته، ولا يعلم أن هناك طائرا سواه، ولا يدري أنه نشأ في قفص، كان مسجونا ولم يكن يعلم، وأنى لمن ولد سجينا أن يفقه معنا للحرية.
والأمور تدرك بأضدادها، فلا لذة بلا ألم، ولن نحصل لذة اللقاء إلا بعد ألم الفراق، والارتواء لا يكون إلا بعد الظمأ، وطائرنا الذي لا يعلم الضد بعد، يعيش في غفلة، ثمل بمدح الناس، وثمل من ثمل الثاملين به.
ومع مرور الأيام، عزم السيد على الانتقال من المدينة إلى الريف طلبا للعيش الهانئ في جوار الطبيعة، فقد كان يشعر أنه كدر النفس، مشتت الذهن، من تعقيد المدينة، فنبذها كأنها خطأ، فالحياة فيها عبء ثقيل، والعمر فيها سرعان ما ينقضي.
والإنسان رغم أنه يحمل نفسه بين جنبيه، إلا أنه أبعد الناس عنها، ولا يغدو صاحب نفسه عالما بخفاياها إلا إذا تفرغ لها والتفت إليها قبل أن تفلت منه.
والزمان سارق الأعمار، وطارد النفوس من الأجساد.
وفي الريف ينتظر الطائر قدره، كان مسرورا بالانتقال، لأنه مل ناس المدينة ومدحهم، وصار يشعر بإعجابهم به كما تشعر الحس بإعجاب الأصم الكفيف بها، لا معنى له.
والرجل المعتاد على نوع على نوع من الخمر، يصير عنده والشاي سيان, فلا ثمل معه ولا انتشاء، وسرعان ما يبحث عن خمر أشد من الأول، فيتجدد ثمله ويستعيد نشوته.
وظن الطائر الجميل أنه سيجد ناسا آخرين، ومدحا آخر، وهناك تتجدد سعادته ويتجدد ثمله، فإذا به يوجد في الريف، لا إنسان هناك إلا سيده، ولا ثمل هناك إلا بالملل.
وشغل عنه السيد عند الوصول، فهو الآن في بيت جديد، وفي كنف الطبيعة، وصار لا يرى طائره إلا لماما، فالطيور كثيرة في الغابات المجاورة، وغناؤها متنوع، والمياه جارية.
وهكذا ظل طائرنا المسكين حبيسا، لا معجب، ولا منصت لغنائه، كان يحسب المكان جنة، فإذا به يسرق منه جنته، وكان يدخر جهده ويعد صوته من أجل السامعين، فصار الآن محزونا، ومن شدة ما لقي من الإهمال، أظناه جهده وبلع صوته وصار شارد الذهن مشدود اللسان.
والصديق عند الضيق، والرفيق لا يعرف إلا عند الشدة، والحب لا يكون حبا عند من ليس له بديل، والمحبوب حقا، من هام به حبيبه رغم وجود الانداد، والكثيرون أظنوا أنفسهم وهم يفكرون في صدود أحبابهم، ولم يعلموا أن خمرهم صارت والشاي سيان.ا
وحار الطائر في أمر سيده، لماذا يتركني وحيدا؟ وأين طربه بصوتي؟ مائة سؤال سرقت النوم من أجفانه، وبكى على خلو قلبه الذي مضى، وعلى ذهاب الريف بلذة نومه.
وبينما هو مستغرق في الحسرة على ماضيه، جالس في قفصه الجميل، إذا بطائر صغير يدخل البيت، ويحوم حول الطائر المغبون ومن صدمته لما انتبه، ورأى شبيهه يطير حرا طليقا، ارتعد وخر مغما عليه، وفر الطائر الصغير سريعا من هول ما رأى، وراح بعيدا عن هذا البيت.
كان بيتا للأحزان والمرارة عند الطائر، ومكانا للراحة والطمأنينة عند السيد.
وبعدما أخبر أهله وعشيرته بما رأى وما جرى، صاروا بين مصدق ومكذب، لأنهم سمعوا عجبا، وما رأوا قط طائرا في الأغلال، وأصروا أن يروه بأمهات أعينهم.
وبينما هم كذلك، كان الطائر سيئ الحظ، غارقا في إغمائه، ورأى فيما يرى النائم أن طيورا كثيرة حول ذلك المنزل، تسبح في فضاء لا حدود له، وكان معهم فرحا مطمئنا يلتذ طعم الحرية، ورأى أنه كان صديقا للطائر الصغير الذي رآه بدوره حبيبا وتوأما لروحه.
والأحباء يتواصلون ويشعرون ببعضهم رغم بعد الشقة وفواصل المكان، والأرواح تعرف بعضها في اللامكان، والحب ليس له مكان ولا زمان، وبينما كان يفيق من إغمائه، وصل ذلك الحشد الطائر، المدهوش المتعطش لرؤية ما سمع، فدخلوا جميعا، وقد انتبه لتوه، فسأله الطائر الصغير: ما قصتك؟ ولم أغمي عليك عندما رأيتني؟
فقال بكل حزن وأسى: ساءت أحوالي وهزل جسدي وتساقط ريشي الذي كان يوما سر جمالي ومبعث سعادتي، وذهب صوتي الذي كانت تخشع الأصوات لنغمه؛ أيها الأصدقاء إني مشتاق لكم، وقد شاء القدر أن أكون حبيسا، أطلب منكم الغوث، وأسألكم أن تفكوا عقالي! أ يليق أسلم الروح اشتياقا وأموت هنا من الفراق؟
وهل يجوز أن أكون في هذا الغل الثقيل، وأنتم حينا فوق الخضرة وحين فوق الأشجار؟!
ولما بث شكواه وهدأ نواحه، حكا قصته مع سيده وكيف صار إلى هذه الحال؛ فثقل ما قال على قلوبهم، وأخد الجمع في البكاء، و حزن الجميع مما رأوا وسمعوا.
وعلم الآن لم خلقت جناحيه، وعلم أن سيده لم يكن يوما حبيبا ولا صديقا، وبعد أن كان مغتاظا من انشغال السيد عنه، صار أكثر غيظا من أن السيد كان سجانا له.
وفي بعض الأحيان يكون الجهل أرحم من العلم، ويكون الوهم والخيال أرحم للكثيرين من الناس من الحق والحقيقية، والحق مر، وقد يرديك قتيلا، إلا أن مرارة الحق يكون لها مفعول الدواء، والوهم قد يكون لذيذا، وسرعان ما يصير مدمرا، ومن قتل من أجل الحق، فقد مات بدل الكثيرين إذا انتشر طاعون الوهم، وكلما استفحلت الجذور صعب اجتثاثها، فاقض على بذور الكذب يا أخي العزيز، قبل أن يفوت الأوان وتصير من الهالكين.
وقد كان الطائر واهما، وأصابه طائر الحقيقة فجأة؛ ودعا صديقه الطيب نفرا من الجمع، وشرعوا في فك أغلال الطائر العليل الذي جار عليه الزمان وضاق عليه المكان.
فقال: يا أحبابي حسبكم، لقد فات الأوان بدنو منيتي وكسوف شمسي، فارتعد وخر صريعا وبرد جسده؛ فما علموا بموته حتى شخصت أبصارهم، وكادت قلوبهم أن تخرج من صدورهم؛ ونزل هذا الموت على صديقه كالصاعقة، فسقط أرضا وفاضت روحه الطاهرة، كأن القدر لا يسمح ببقاء أحد الحبيبين.
والأحباء في الحياة، هم أكثر حبا بعد الممات، وقال الرسول عليه السلام: المرء مع من أحب، وزوجتك في الدنيا، هي كذلك في الآخرة.
وبعد الغياب، دخل السيد بيته، وبينما هو يقترب من القفص والعجب من حشد الطيور آخذ منه كل مأخذ، فر الطيور جميعا، تاركين وراءهم الصديقين، وحاملين أحزانهم، وما أن رأى طائره طريحا حتى بدأ ينتحب على موته: ” أيها الطائر حسن التغريد، ماذا جرى لك؟! وكيف صرت على هذه الحال؟! وا أسفا على طائري جميل الصوت ناعم الريش، أين بهاءك وأين غناؤك؟! وا أسفا على ما فرطت في طائري، أنا من قتلك، وأنا من ذهب بجمال صوتك ونور أيامك! “ومضى السيد ينوح، ولكن فات الأوان. والمرء عادة لا يدرك قيمة الصديق إلا بفقدانه، والصداقة تكون وبالا على من علم معناها بعد فقد الصديق، ويكون الحب عذابا بعد موت الحبيب، والحب صديقي العزيز، فهمه السيد على أنه أخد، ولكنه عطاء، والمحب لمن أحب مطيع كما يقول المثل.
وقال السيد: لو أني أعطيت طائري حريته وما هو خليق به، لكان خيرا له ولي، إنه خلق لكي يطير، أما أنا، فلن أجلب طائرا بعد اليوم، فاللهم اغفر لي تقصيري في حق هذا المسكين.
والسلام.
_____
يوسف الرازي _ المغرب
إرسال تعليق
0 تعليقات