«أميرة أحمد عبد العزيز» تكتب: شلل مؤقت.


 

الدكتور واصف جلال، دكتور مهندس وأستاذا جامعيا بكلية الهندسة، مشهود له بين طلابه  وأقرانه والأهل والمعارف بجود العلم والسلوك الرفيع والضمير الحي، تجده يبلغ قصاري جهده للمساعدة دون أن  يهتم كثيرا بالملابسات، فإن  وجد  حادثة على الطريق تقدم لتقديم العون، وتجده دوما  في صف المساعدين المسعفين حين ينشغل آخرين بعمل يراه هو  سلبيا في حينه وهو  معرفة  المتسبب وعلى من تقع المسئولية ومن يتحمل الخسائر؟ ولأنه يشعر بأنه يعمل  قصاري جهده كمعلم وكإنسان في بيئته الصغيرة، فنومه لذلك هادئا، عاشت زوجته معه ثلاثون عاما  لم تسمع منه أنين ولا شخير ولم يستيقظ  أثناء  نومه  إلا مع  صوت العصافير والديكة  فكانوا هم  ساعته البيولوجية.   

لما اقترب من الستون  تولي وزراة النقل في مصرالعربية، وقد ذهب لإلقاء القسم ومقابلة رئيس الوزراء وكان عليه أن يستلم مهام وظيفته خلال بضعة أيام، حين قرر في صباح يوم  أن يقود سيارته للمرة الأخيرة قبل أن يرتاد عربة الوزارة محاطا  بالحراس، ولم يكن نزوله من بيته بنية التنزه بقدر ما كان بنية التحضير للعمل، ذلك أنه قد حدد  موعدا مع الوزير السابق ليجلس معه جلسة ودية بقصد التعلم من الخبرات والأخطاء.

أمام  البناية التى يسكن فيها الدكتور في كمبوند بمدينة زايد، كانت جارته التى تشبه ارستقراط الاربعينات  -وهي أمرأة ستينية-  تقود  كلبها الصغير التى تمسك به بسلسلة، وجدها منشغلة مع كلبها فأبعد نظره وانصرف حين انتبهت فنادته وقالت:  صباح الخير يا سيادة الوزير

كررت النداء عندما  لم ينتبه للكلمة وحين  انتبه التف إليها وقال: صباح الخير يا مدام علية، عاملة إيه؟.. يارب يكون أستاذنا الفاضل زوج حضرتك بخير...

علية: الحمد لله بخير.. حضرتك  نازل الوزارة؟

الدكتور جلال (بضحكة وقورة): معقول من غير زفة وحرس

فضحكت علية  ضحكة ارستقراطية وقالت وهي تشير لكلبها فجلس طائعا الأوامر: قبل ما تنزل يا دكتور سمعت مرات شاكر البواب بتقوله الدكتور واصف  أمه كانت أكيد كانت دعياله...ثم حين تداركت فقالت: أووه متأسفة..  قصدي سيادة الوالدة كانت بتدعي لحضرتك... وأكملت وهي تضحك بوقار:  فقالها كده تبقي داعية عليه أنه يمسك وزارة زي النقل، مش هينوب الدكتور منها إلا الهم والتعب ومحدش هيقدر تعبه ولا عمله ودايما الناس هتبقي بصه عليه وتقول مقصر وتحمله مسئولية أخطاء سنين وناس غيره.. 

ضحك الدكتور جلال وقال: داعية عليا.. الله يسامحك يا شاكر . ثم بدا عليه التفكر فابتسم وقال: بس حكيم شاكر في كلامه..  يالله ربنا يستر يا مدام عليه..

توجه الدكتور جلال لسيارته مودعا جارته التى عادت لعملها وشغلها  بترويض كلبها وتنزهه، وبدأ يفكر في كلام جارته وشاكر البواب ليزداد هما.. فمنذ عرف بترشحه للوزارة التى كما سعد بها وشعر أن هذا يمثل تكريما واجلالا له ولعائلته فيكفي كلمة سيادة الوزير وحرم سيادة الوزير وأبناء سيادة الوزير، ولكن للأمر أيضا هيبته.

 بدأ يتحرك بسيارته داخل  المدينة، وقد أصبحت عينيه ملقاط يلتقط الصغيرة قبل الكبيرة فيما يخص حركة السير والسيارات والطرق  فانتبه لسيارة تسقط من منزل بسرعة شديدة كانت ستصدم سيدة وتزهق روحا في المدينة الهادئة لولا سترا من الله،  لينتفض هو  من مجلسه وترتعد سيارته ويقول  محدثا نفسه: لو كانت ماتت الست كان قاله وزير النقل، طيب ماله وزير النقل ومال واحد بيسوق بسرعة كده على منزل... وحين أصبح خارج المدينة وعلي الطريق الموصل  لكوبري أكتوبر وجد سباق للموتوسكلات عكس اتجاه سيارته، وسط الطريق المزدحم بين السيارات ووسائل النقل المختلفة، ظل متأهبا لحدوث الكارثة على الطريق السريع حتى اختفى السباق صوتا وحركة..أما على كوبري اكتوبر فلم يكن  العجب وقوع حادثة بل في عدم وقوع كارثة وسط جنون سير السيارات والميكروبصات التى  تندفع أمامك ومن خلفك كطلقات مجنونة لا تعلم من أين تطلق الرصاصات وإلى أين تتجه، إن لم تحدث هو ستر الله، أما إن حدثت الكارثة فلن يقال سائق متهور ومارا غير منتبه لخطورة الموقف بل سيقولون وزير النقل، وكيف لا يجعل وزير النقل على كل شبر بالكوبرى ناقلا للمارة، وكيف لا تخطط  الوزارة لكوبرى يمنع طلقات مدافع السيارات ضد بعضهم البعض.... على الوزارة إذا أن تصنع طرقا وكباري  تمثل عمل إلهي لتشهد معجزة عدم وقوع كارثة في ظل وجود كل مسببات حدوثها، ولكن يا عزيزي عملنا صناعة بشرية لن يصنع المعجزات.. هكذا فكر دكتور واصف حين كان في الطريق.

 وصل لمنطقة وسط البلد وفكر أن يركن سيارته بالجراج ويركب المترو وصولا للدقي وهو محل سكن الوزير السابق، وبعد ان دخل محطة المترو وأتى القطار، رأى عدم  إلتزام النازل والصاعد  بالأبواب المخصصة لهم.. وقد  ظن في البداية أن العربات مزدحمة، لكن بعد انتهاء التدافع وجد أنها مجرد جعجعة بلا طحن وأن العربة تعتبر غير متكدسة، وبمجرد بدأ غلق الباب لاحظ عدد من الصاعدين  يصعدوا ويحاولوا فتح الباب ويساعدهم الركاب في عدم غلقه وهم متأففين من السائق الذي يغلق الباب استعداد للحركة. 

وصل لبيت الوزير السابق بالدقي والذي كان بانتظاره مرتديا الزي الرسمى كأنه لقاء وزير لوزير في دولة صديقة وليس مع وزير سابق، بعد الضيافة والترحيب بدأ حديثهم عن فترة توليه الوزارة وما أثير حوله، ولما أشار الدكتور واصف للحادثة  التى كان يجدها سبب تغيير الوزير السابق وترشحه مكانه صدمه  الوزير السابق بأنه لا يري علاقة بين الحادثة والتغيير الوزاراى، بل ما حدث هو مجرد تجديد دم للوزارة،  وذلك مقبولا ويحدث من حين لآخر، وإن معدل الحوادث الكبيرة في وزارته خلال أربعة أعوام لم تزد عن أربعة بمعدل واحدة بالعام، بالإضافة إلى اللم كما وصفه الوزير السابق والذي لا يحتسب طبقا لحسبته، وهو الحوادث التى لم تتعدى وفياتها عشرون  شخصا،  كما أنه لا يستبعد  توليه وزارة أخرى قادمة فهو  يمثل الوزير المثالي...  فتعجب الدكتور واصف،  فكيف له أن يكون  مع كم هذه الحوادث وزيرا مثاليا، كان هذا سؤالا تهكميا من دكتور واصف للوزير السابق الذي اعتدل في جلسته بهيئة الحكيم وقال: ببساطة لأني كنت فاهم  معنى أن تكون وزيرا، في وزراء  كتير بيدخلوا الوزارة فاكرين إنهم داخلين يعدلوا المايلة، دوول بيسبوا كراسيهم بدري إلا لو حد فيهم لحق نفسه وفهم..

فرد الدكتور واصف: بس هي فعلا بتبقي مايلة

فقال الوزير المثالي بهدوء: ماشي مايلة.. بس مش دورك تعدلها، لو داخل عشان تعدلها انصحك متشتغلهاش وتخليك أحسن في جامعتك يا دكتور.. عشان تبقي الوزير المثالي لازم  تعي لفكرة إن المايلة هتفضل مايلة وإن دورك أن ميزدش ميلها في وجود وزارتك بشكل ملاحظ.. يعنى التغيير لو نسبي يكون طفيف وغير ملحوظ

فقال واصف بضيق: يعنى التغيير هنا يكون للأسوأ مش للأحسن، بس المهم ميكنش ملحوظ.. ده بقي دور الوزير المثالي!

فرد الوزير السابق بهدوء العارف الواثق وبدأ يتعامل مع واصف على أنه دكتور وليس وزيرا: قطعا يا دكتور، أنت فاهم إن التغيير بمعنى للأحسن والتطور للأمام  بيحصل من داخل دواوين الوزارة.. بعتذر منك.. بس دي سذاجه لا تليق بعمر ومكانة حضرتك العلمية وحاليا كمان الوظيفية..

وبدأ الغضب يتمكن من الدكتور واصف  ولكنه  حاول أن يحفظ هدوئه فقال: سذاجة..التفكير في التطور سذاجة.. حضرتك مش ملاحظ أن خطة الدولة كلها قايمة على التطور للأمام.. 

الوزير السابق: أديك قلتها أهو بنفسك يا دكتور، خطة الدولة.. مش الوزارة.. وهنا مربط الفرس.. أنت أما قبلت الوزارة وحلفت اليمين حلفت إنك تحترم الدستور والقانون وتحافظ على النظام وبناءا عليه فدورك  ينحصر في تنفيذ خطة الدولة.. وأوعي  تصدق وتغتر في الكلام البراق بتاع الوزير الفلاني عامل انقلاب في وزارته.. والعلاني بيعمل تطهير والكلام الفارغ ده.. صدقنى محدش بيشتغل إلا في إطار خطة الدولة.. احنا مش زى ما بيظهر للناس إننا جزر منعزله ..مش صحيح.. الحقيقة إن احنا كل واحد فينا واخد السكربت بتاعه وبيشتغل عليه من الدولة.. واذا كان يبدو إن في تناقض بين أعمال الوزارات، فده مش بسبب الوزير.. ده سببه السكربت الرئيسي الخاص بخطة الدولة، وتذكر يا دكتور إنك وزير نقل في دولة وإنك مش دولة لوحدك..ومفيش تغيير بيجى حقيقي إلا بإرادة  شعب.. يعنى ثورة.. ربنا يكفينا ويكفيك شرها.. أو إن اللى ماسك زمام الدولة يقرر التغيير للأحسن أو الأسوء...

في طريق العودة بعد  زيارته الغير مثالية  للوزير المثالي كان يغلبه الفكر والهم.. وظل يفكر وهو مترجلا.. ثم وهو في سيارته فيما عليه ويجب أن يفعله حين يكون وزيرا مسئولا وليس مثاليا كما يقول هذا الوغد.. فعليه أولا أن يعيد إعداد السائقين أو يغيرهم وكذلك الناقلات وتغيير المتهالكة منها وعلى من يتسبب في حادثة سير نتيجة سرعة أو استهتار بالناس أو بالقانون، كالمرور العكسي فمع الحبس والغرامة  يمنع من قيادة  أية سيارة، ثم تذكر أن ما يعتقد فيها أفكاره  كثيرا منها يبدو ان لها مكانا في القانون بالفعل.. ولكن يبدو أنه لا ينفذ..إذن فعليه تنفيذه.. ثم  فكر لماذا لا ينفذ.. أهي الغفلة أم صعوبة في التنفيذ؟

ثم اخترق خياله  صور من المستقبل تمثل.. صورة لرئيس الوزراء، وهو يجلس في  مكتبه موجها حديثه لدكتور واصف ويقول: مش معقول يا دكتور انت بتطلب طلبات كتير ومستحيلة، وانت عليك انك تلتزم بخطة الوزارة اللي هي خطة الدولة..

ثم صورة أخرى لوزير المالية وسط اجتماع الوزراء يوجه كلامه للدكتور واصف: يا سيادة وزير النقل احنا من ساعت حضرتك ما توليت الوزارة ومدخلش للمالية خردل من السكة  الحديد أو المواصلات العامة ودلوقتى داخل على الموانىء وبتطلب فلوس من الميزانية  وبس، الوزارة كده عبء على الدولة لازم تلتزم بخطة الدولة يا  دكتور..

وها هي صورة من الإعلام تظهر في وجهه: وهذه خامس حادثة عنيفة تحدث في فترة تولي  جلال واصف... 

وأخيرا وليس آخرا صورة من المستقبل  لحادثة تصادم لقطارين تشمل صورة قريبة لسيدة تحتضن إبنها الصغير وهو غارق في دمائه وهي تقول: يا حبيبي يا بنى، ربنا ينتقم منكم يا ظالمة قاتلته ابني... ربنا ياخده وزير النقل ويوجع قلبه على ضناه زي ما وجع قلبي على ضنايا.. ربنا ينتقم منه..

لينتفض فجأة الدكتور واصف وهو في سيارته وكأنه ناهضا من كابوس ويقول بصوت عالي وفزع أعلى: مش انا صدقينى يا ست.. صدقونى مش انا المسئول.. مش غلطتى.. دي الخطة.. دي الدولة...

وحين اقترب من مدخل زايد شعر بأن قدمه تثقل عليه فتوقف أو توقفت السيارة عند المدخل ليحاول أن يدفع بقدميه خارجها فلم تسعفه قدمه، ارتبك وارتعب واتصل بزوجته لكى تأتى بأبنه ليقله للمنزل...

قال الأطباء أن حالة الدكتور واصف جلال هي شلل مؤقت وأن مصدرها نفسي وسينتهي بزوال القلق والتوتر... أدى ذلك للتخلص من منصب الوزارة، وظل الدكتور واصف جالسا في المنزل على كرسي متحرك، لمدة عامين وأكثر،، وكان حين يجلس في استكانه مع عائلته يشاهد  التلفاز ثم يعرض فجأة خبر حادث للطرق، كان يتحدث بدفع الأمر عنه وهو يقول: مش أنا المسئول مش غلطتى دي الخطة.. دي الدولة... وكانوا دوما يضطروا لإعادة تذكيره أنه لم يعد الوزير ولا لائمة عليه، والحق أنه  لم يتولي الوزارة قط، وكانت زوجته تقول إنها تسمعه كثيرا يأن في النوم، وحين يسمع صوت فرامل سيارة بالخارج يستيقظ فزعا...

وفي تلك الليلة التي  شاهد خبرا عن حادثة صدام قطارين  أسفر عن موت المئات من الفقراء والمساكين والجنود  والكثير من المصابين، اهتلع الدكتور واصف كالعادة بنفس كلماته،  ولكن حدث ما غير الوضع وعدل نصابه، فقد  قدم وزير النقل  استقالته، وأعلن عنه  في الإعلام هكذا: ( وقد قدم وزير النقل  السيد أبو العنين غانم استقالته لسيادة رئيس الجمهورية) وكان هذا تنويرا  للدكتور واصف بأن مهام الوزارة وتلك المصائب لم يكن هو مسئولا عنها يوما وبدأ يسأل عن المصابين وحول كيفية تدبير المساعدة في مثل هذه الفاجعة، ثم حدث بعدها  تغيير وزارى على مستوى الوزارات كلها  وتولي فيه الوزير المثالي للنقل سابقا رئاسة الوزراء.

وبعد اسبوعين حل الصباح واستيقظ الدكتور والمنزل على شعور جديد بالنشاط واستطاع الوقوف والحركة ..وانتهى الشلل المؤقت.. ولكن مع توصية طبية بأن هذا الشخص غير مؤهل  لتولى المناصب الحكومية. 

_______ قصة ____

أميرة أحمد عبدالعزيز

مصر



إرسال تعليق

0 تعليقات