الجريدة | قصة قصيرة للكاتبة: هبة حمدي



يعلو صوت المنادى عبر الميكرفون؛ مُعلنًا عن قيام القطار المتجه من القاهرة إلى الإسكندرية فى تمام السادسة مساءً.
تصطف جموع الناس على اختلاف مستوياتها وأشكالها وألوانها؛ تأهبًا للحاق به.
على رصيف المحطة يجلس (حاتم) فى هيئته الموقرة. رجل طويل القامة، رفيع البنية، قد زحفت الشعيرات البيضاء لتكسو معظم شعره الذي انزاح إلى الوراء.
يرتدى نظارة طبية ذات إطار أسود اللون، و بدلة رمادية. يرسم عقدة الجدية والصرامةبين حاجبيه و هو يطالع جريدته التى أغلقها لحظه سماع صو ت المنادى، ليضعها فى حقيبته، و ينهض واقفًا يتابع تبختر القطار للرسو أمام الرصيف.
عند الوصول ركب حاتم القطار و توجه إلى المقعد فى العربات المكيفة، وبمجرد جلوسه أسدل جفنيه و أرجع رأسه إلى الوراء، يعبىء أنفاسه بالهواء البارد.
تدور العجلات على القضبان محدثة صوت صرير من جراء تلامسها؛ يروِّع الطيور فى أعشاشها!
و إذ بصوت ناعم كهدأة الليل العليل؛ يخترق ذلك الصرير العال قائلة:
- لو سمحت يا أستاذ؟
لم ينتبه حاتم فى بداية الأمر فأعادت عليه الكلام قائلة:
- لو سمحت يا أستاذ؟
وفتح عينيه و كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، و تحدَّقت مقلتاه فى محاجرها، و هللت أسارير وجهه، وانفرجت عقدة الحاجبين بمجرد رؤيته لهذا الوجه الصبوح، الذى ارتسمتْ الرقة فى كل خلجة به و شعر كأنه أسير لذلك الثغر الصغير، وتلك العيون الواسعة برموشها الكحيلة، وهذا القِدّ الممشوق المتناسب مع قامتها.
و أنهى هذا الصمت و الشرود الذى اعتراه صوتها يقول له:
- بعد إذنك ارفع الحقيبة، لأجلس على الكرسى؟
فقال لها بإرتباك واضح:
- أسف!
وحمل الحقيبة فوق قدميه.
تجلس الفتاة و تضع سماعة الهاتف المحمول فى أذنيها، تشدو بصوت (عبدالحليم) وتخرج جريدة لتقرأها،
و بمجرد رؤيته للجريدة، وجدها فرصة سانحة له لتبادل أطراف الحديث معها؛
فأشار لها طلبًا لأخذ الجريدة، فأعطتها له قائلة:
- تفضّل؟
وظلت تضع السماعة فى أذنها تسمع أغنية (أعز الناس حبايبنا).
عندما طالع الجريدة و قعت عيناه على خبر فى أسفل الصفحة، عن هدم أقدم سينما فى مصر؛ سينما (ألومبيا) التي تم بنائها عام 1907 فمال بالجريدة ووضعها عنوة أمام عينيها قائلًا:
- هل قرأتِ هذا الخبر؟
فانتبهت له و نزعت السماعة من أُذنها قائلة وهى متعجبة من فعله:
- لا لم أقرأه بعد!
فرد عليها:
- لمّا تراث عمره مائة عام يتم هدمه لبناء عمارات شاهقة، فهذه مهزلة تاريخية!
فقالت له:
- انظر يا أستاذ...
فبدا كمراهق صغير تسأله مدرسته عن اسمه فى أول يوم من أيام الدراسة، قال:
اسمى (حاتم) -ثم باغتها- و حضرتك؟
فكان لابد لها من الاجابة:
- اسمى هند!
فراق له الاسم و غازلها:
- تسلم الأسامى يا أستاذة هند.
فخفضت عينيها خجلًا وابتسمت بحياء العذراء فى خدرها، وقالت له:
- نبنى قصورًا و نهدم تراثًا.
فرد عليها:
- تراثنا حضارتنا ماضينا مستقبلنا أين نحن لا شيء إلا بقايا شعب يحيا على الماضى، يحاول أن يحبو كالسلحفاه نحو مجهول لا نرى فيه إلا ضوء خافت، لا نقدر أن نسير على هداه فنتعثر دائمًا!
فقالت له:
- فهى أمنا و هل يكره الوليد أمه مهما كان شكلها أو يتضايق من عيوبها سيظل يحبها من المهد إلى الهرم!
ويقطع الحديث الدائر صوت الكمسرى طلبا للتذاكر، و تدور عجلات القطار محدثة صرير من جراء ملامسة العجلات للقضبان،
وشعرت هند بحلاوة الحديث بينهما فاختلفت الأجيال وتلاقت الأرواح فى لحظة ذابت معها كل الحدود وهامت المشاعر فى عالم ساحر، وبدا صوت صرير عجلات القطار كصوت موسيقى تعزف بين روحين ألتقيا على حافة النهر، وظل الاثنان يبحران فى شتى دروب الحياة، و شعابها يتعانقان و يتهامسان كأن كلا منهما وجد ضالته فى الأخر. و لكن اللحظات الحلوة قصيرة و دحانت لحظه الفراق وهدأ القطار من سرعته؛ تهيئا للحظة الوصول، فقامت هند من مجلسها وحملت حقيبتها.
فقال لها و عيونه تحمل شفقة وألم لفراقها:
- أين تذهبين؟
فتنهدت طويلًا وهى تحمل حزن نهاية تلك اللحظات السعيدة:
- آن الوقت للرحيل.
فتعلقت عيناه بها ومد يده لمصافحتها قائلًا:
- فرصة سعيدة لكنها قصيرة.
وظلت يده ممدوده لبعض الوقت، فشعرت بإحراج وصافحته على استحياء قائلة:
- هذه هى الحياة مثل القطار.
وعلا صوت المنادي عبر "الميكروفون" يعلن وصول القطار إلى المحطة، واهتزت العربات لحظة الوصول وانتفض حاتم من مقعده، تتسارع دقات قلبه لترتفع أهداب العيون الناعسة، ليجد نفسه ممسكًا بحقيبته، فحانت منه التفاته إلى الكرسى المجاور، فلم يجد سوى الجريدة ملقاه عليه، وقد كتب عليها:  ”لقد اعطيتنى الكثير فى وقت قصير، فكنت خير رفيق“ فابتسم و تعالت أسارير وجه، وانفكت عقدة حاجبيه... لقد كان خط يده!

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. قصه جميله ومعبرة عن واقع نعيشه يوميا
    أتنبئ بميلاد كاتبه مشهور باذن الله في القريب العاجل

    ردحذف