الكاتب الجزائري "بوعزة عبيد حبيب" يكتب: الحمامة و اليتيم

 


على الساعة العاشرة و النصف تقريبا ذات صباح من يوم أحد ،و كان الجو مشرقا و صافي الاجواء و النّسمات ،عاد التلميذ الصغير عبد الرحيم من مدرسته الابتدائية التي تقع على بعد مائتي متر من منزله المتواضع بجانب المسجد الكبير للقرية بخطوات متوالية و مسرعة و ترك وراءه أعزّ أصدقاءه ياسين وأكثر من عام يناديه و يحاول اللّحاق به كي يرافقه في العودة إلى منزليهما ،من تمّ يلعبا مع بعضهما كباقي الايام .

وما إن اقترب من الباب الحديدي الخارجي للمنزل حتى امتدت يده إلى قبعته و فتحه بسرعة مذهلة لفتت انتباه أمّه التي كانت فرغت من غسل الملابس التي تراكمت طيلة أيام الاسبوع .

لقد كان دور سكان الحي الذي يتواجد بين دياره منزل عائلته لأخذ حصتهم من الماء الصالح للشرب و الاستعمال المنزلي .

فهي لم تكثرت للأمر و انصرفت الى تحضير الفطور فالوقت قد حان لذلك ، لأنها تعلم السبب الذي جعل وليدها الصغير يعود بهذه السرعة هو شوقه لحمامته الصغيرة الجميلة التي تركها في القفص و هو الان اتيا ليتفقدها و يطمئن عليها .

ففتح الباب و قلبه يخفق من شدة السرور وألقى بمحفظته الصغيرة على أقرب عتبة من عتبات المنزل الذي يشبه منازل جنين بفلسطين الجريح الابيّ.

و من دون أن يلقي على أمّه السلام و يتبادلا أطراف الحديث حول موضوع درس اليوم كما جرت العادة ، توجه إلى إحدى الزوايا الموجودة في فناء المنزل بابتسامة مشرقه واقترب من القفص القديم كانت جدّته تضع فيه بعض الارانب كانوا لها فيما مضى ،و فتح بابه بحذر شديد و أدخل يده اليمنى داخله و أ مسك حمامته الصغيرة من جناحيها حيث كانت منزوية بالداخل و هي الان تحاول الفرار .

فأخرجها بلطف و قبلها على رأسها المغزلي و هو يخاطبها :لقد عدت إليك يا حمامتي الجميلة ، وكم اشتقت إليك رغم قصر المدة التي ابتعدنا فيها عن بعضنا البعض حقا إنها حمامة جميلة و رائعة الشكل و اللّون ،ريشها أزرق فاتح يتّخلله بعض النقط البيضاء و القليل من البقع الرمادية الساحرة .

كان إذا مرّ سرب في السماء عاليا ، هذا النوع من الحمام هو الذي يجلب النظر بسرعة كحمام القدس إنها حمامة صغيرة امسكها أحد عمّال البلدية الذين يكنسون الشوارع و الطرقات ،وقعت يده الشريفة عليها في أحد الايام صباحا عندما كان يقوم بعمله الشريف ككل صباح .

و ما إن استقرت في يديه حتى خطر بباله عبد الرحيم و قرّر أن يهديها له عساها تفرحه و تسعده خصوصا بعد وفاة والده قبل بضعة شهور .

لقد كان الصّبي دائما كلّ ما مرّ بجانب عمّه الكانس يزيد يسلّم عليه و يدعوا له الله عزّ و جل أن يعينه و يحفظه و يسأله عن أحواله و أحوال عائلته ، وإذا مرّ بالقرب من منزله يخرج له الماء المنعش كي يزيل عنه التعب و العرق .

وفي بعض الحالات يخرج له فنجان قهوة أو شاي و ينتظره حتى يفرغ من الشرب ثم يعيد الاواني بسرعة إلى البيت .

إنه يعلم أن الوقت لا يسمح له ان يطيل الحديث معه حتى يستطيع هذا الاخير إنهاء عمله قبل أن تشتدّ حرارة الشمس أكثر .

كل هذه التصرّفات أدخلت السّعادة في قلب الكانس و افرحته كثيرا .

وإذا رأى يتيما الصغير تبسّم في وجهه البريء و أخفى عنه همومه و احزانه ،لان الظروف اصبحت قاسية و صاحب المسكن طلب منه اخلاء البيت ،وهو ليس لديه المال الكافي لشراء بيت جديد له و لعائلته .

فهو لم ينس مرة ان ينصحه بالاعتناء بدراسته التي هي امانة في عنقه ، و من الواجب المحافظة عليها قبل اي شيء اخر تماما مثل ما اوصاه والده .

وقال له مرارا بأنه في مكان ابيه الذي رحل عنه الى الابد ، وهدا امر الله لا مفرّ منه و عليه ان يتم حلمه و هو ان يصير رجلا محترما و وقورا يفيد البلاد و العباد ، وفي اخر الحديث كان يسأله عن الحمامة و عن احوالها .

و ليست هي الهدية الوحيدة التي منحها اياه ،بل هناك اشياء اخرى عثر عليها و هو يقوم بعمله النبيل مثل اللّعب و اشياء اخرى جميلة.

لقد وجد في الكثير من المرّات حاجيات صالحة للاستعمال في بعض الاحيان ينساها الناس ، احيانا اخرى يلقونها بسبب الاهمال و هي ما تزال صالحة للاستعمال .

لهذا خلال النصائح التي يعطيها لليتيم كان يركّز على التبذير لما لاحظه و هو مشغولا بعمله اليومي الدءوب.

فكان يضع يده على راس اليتيم و يشير بيده الاخرى الى مواضع الاوساخ قائلا :لا يبني لا تبذّر مثل هؤلاء النّاس الغافلين ،فالتبذير حرّمه الله علينا في كتابه العزيز ،وقال ان المبذرين اخوان الشياطين ، والشيطان لا يحبه الله ،و هو عمل شنيع و مضر بالصحة كذلك .

ثم سكت بعض اللّحظات وقال: كيف هي الحمامة الصغيرة ؟هل هي بخير؟

فيجيبه عبد الرّحيم بفرح وسرور :نعم انها على احسن ما يرام ،وكل يوم اطعمها و اسقيها ، ثم ارمي لها بعض حبّات القمح على الارض لتتعلّم الاكل لوحدها و تشرب ايضا ،و عندما تأخذ حاجتها من الطعام اضعها على كتفي كي تفرش جناحيها الصغيرين و تحاول الطيران ،كما اتركها تمشي على الارض حتي تتعوّد على المنزل جيدا ،و بعد ذلك أعيدها إلى بيتها الصغير داخل القفص .

و قال له الكانس :اعتني بها جيدا ،الان لم يبق لها أحد سواك بعد الله ،فهي اليوم كاليتيمة مثلك يا عبد الرحيم ،فأنت كذلك يتيم ،و من واجب الناس الكرام و المؤمنين أن يعتنوا بك و يحسنوا اليك و إلى جميع اليتامى في العالم .

فأجابه قائلا: نعم ،و الله أمرنا بالرفق على اليتيم ، هكذا قال المعلّم ذات يوم في القسم .

لقد حذّرنا من الاساءة إليه و لو بالكلمة حثى لا نجرح له مشاعره الرهيفة .

و الحال هكذا طيلة أيام وأيام، و المحبة تقوى و تزداد بين الولد والحمامة.لقد أصبحا لا يفترقان إلاّ قليلا ، وتعوّدا على طباع بعضهما البعض .

و في أحد الايام بالمدرسة و هو جالسا على مقعده الصغير و باله مصوبا نحو المعلم ،و إلى ما يقوله، وقد كان الدّرس لذلك اليوم يدور حول الطيور المهاجرة كاللقالق و السنونو و غيرها ،حثى طرح سؤالا لتلاميذه الاعزاء كالعادة قائلا : من منكم حدث له أن ربّى طيرا أو عصفورا ؟

و هذه المرّة لم يتوقع انه سوف لن يأتيه الجواب من طرف التلاميذ النجباء ككل يوم ،فرفع عبد الرحيم أصبعه الصغير بصورة مفاجئة أدهشت الجميع داخل القسم و هو يقول :أنا يا سيدي ،أنا يا سيدي ...

فنظر المعلّمه إليه مبتسما وقد سعد بذلك كثيرا ثم قال له :أنت يا عبد الرحيم آذنا له بالإجابة .

فقال اليتيم أنا يا سيدي عندي حمامة صغيرة.

ثم سأله مرّة أخرى حثى يشجعه أكثر : من أعطاك إياها أو من أين حصلت عليها؟

أرجو ألاّ تكون قد أخذتها من عش أمّها و هي لا تزال صغيرة.

.فأجابه بدوره باندفاع و اعتراض شديدين:لا يا سيدي لا، لقد أهداني إياها أحد عمّال البلدية الذين يقومون بتنظيف الشوارع و الطرقات.

لقد وجدها عمي يزيد واقعة على الارض ذات صباح عندما كانت تحاول الطيران في السماء ، ويصمت قليلا ليلتقط أنفاسه ثم يواصل الكلام بفرح شديد :إن جناحيها الضعيفين لم يستطيعا حملها في الهواء عاليا ،ثم فكر قليلا و قال :لقد حاول عمي أن يعيدها إلى عشها عدّة مرات لكنه لم يستطع لان مكانه عاليا جدا.

 فقال له معلمه الطّيّب:حسنا حسنا اعتني بها جيدا و لا تترك باب القفص مفتوحا حتى لا يفترسها أحد القطط الجائعة بالليل، فهي صغيرة و لا تعرف بعد مصادر الخطر و الموت.

و بعد لحظات سمعت صفارة الناظر معلنة عن نهاية الدّرس.

و عند خروج التلاميذ من القسم التفوا حول اليتيم يسألونه عن حمامته الجميلة بشغف كبير .

ثم طرحوا له سؤالا حيّرهم كلهم ،فقالوا له :لما أعطاك العم الكانس أنت الحمامة بالذات و لم يعطيها لأحد غيرك ؟مع أننا نمرّ عليه كل يوم تقريبا مثلك .

فقال لهم :إنني كل يوم ،بل كل مرّة أمر عليه ألقي عليه السّلام و ادعوا له الله بأن يحفظه و يعينه ،وإذا مر بالقرب من منزلنا أعطيه الماء المنعش كي يزيل عنه التعب و العرق ،وفي بعض الحالات أخرج له فنجان قهوة او شاي ،فتنهّد الاولاد من أعماق قلوبهم معبّرين عن ندمهم و حصرتهم على المعاملة الغير اللائقة التي عاملوه بها .

كما تمنّوا لو عاملوه جيدا و لاطفوه لحصلوا منه على مثل حصل عليه صديقهم اليتيم ،لقد طلب مرارا ان يعطوه القليل من الماء لكنهم رفضوا جميعهم و ادركوا أن المعاملة الحسنة لا تتطلب جهدا و لا مشقة متعبة ،و لكن ثمارها كثيرة و غزيرة .

و بعد ذلك قرر جميعهم معاملة جميع النّاس بالخلق الكريم و ليس العمال فقط.

و منذ ذلك الحين لوحظت طباع الاطفال تتهذّب و سلوكهم يتحسن يوم بعد يوم ،و تمر الايام على هذا النوع بسرعة و الصلة تزداد بين الحمامة و صاحبها حتى أصبحت صديقه الاول و شغله الشاغل ،طبعا بعد دراسته كما أوصاه والده الراحل .

و مرّة الايام و هو يرمي لها بعض حبات القمح في الصباح الباكر إذ سمع صوتا رقيقا و حنينا غير غريب عنه إلاّ أنه لم يسمعه منذ أيام يقول له :ما أجمل هذه الحمامة ،من أين لك بها يا عبد الرحيم ؟ صاح أخوه الاصغر عبد القادر مكلّما إياه ،لقد حضر منذ قليل من عند جدّته بالبادية .

لقد كانت مريضة فذهب لزيارتها وقضى هناك عدة أيام .

فأجابه أخوه الاكبر مبتسما : إن العم يزيد هو الذي منحني إياها ذات صباح بينما كنت أنت غائبا عن المنزل .

ثم سكت قليلا و قال له:آه بالمناسبة كيف حال جدّتي العزيزة ؟هل تحسنت حالها ؟و كيف أحوال أخوالي و خالاتي؟

فقال له:إن الجميع بخير و الحمد لله و هم يسلّمون على أمّي و عليك كثيرا، لقد قضيت لحظات جميلة هناك، تمنيت لو كنت معي يا أخي لكني أعلم أنك لا تستطيع ترك أمنا لوحدها.

ثم قال له عبد الرحيم الاخ الاكبر :لقد مكثت هناك هذه المرة أكثر من المرات السابقة .

فقال له :أجل ،و لولا شوقي لك وأمي لبقيت هناك مدة أطول .

ثم قال له كيف حال أمي ؟فأجابه أخوه الأكبر: إن أمي على ما يرام .

وقال له اخوه الاصغر :أعلم أنك اعتنيت بها جيدا ،فأنت المسؤول هنا رغم صغر سنّك ،و قد أوصاك والدي علينا قبل وفاته بقليل ،ولازلت أتذكر ذلك اليوم جيدا .

فقال له :أجل يا أخي و نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه و يرضاه .

ثم صمت قليلا و هو يسترجع تلك الصور الاخيرة لوالده و ه ويعظه و يوصيه للمرة الاخيرة .

ثم قال :لقد أعطاني إياها و قال لي أنها ليست لي وحدي ،بل هي لنا نحن الاثنين أنت وأنا ،هكذا حتى تعتني بها عندما أكون أنا في المدرسة و منذ تلك اللحظة زادت المحبّة و الاحترام بين الاخوين الصغيرين .

و حتى تلك الخلافات الصغيرة التي كثيرا ما تحدث بين الاخوة الصّغار لم يعد لها وجود بعد ذلك .

لقد أصبحا قريبين من بعضهما أفضل من ذي قبل ،و صارا يتكلمان بمسؤولية كبيرة و صرامة قوية .

و منذ ذلك اليوم أصبحا يأكلان و يمرحان و يطعمان حمامتهما سويةً ، وفي المساء يدخلانها قفصها و يغلقان عليها الباب ،و حتى بالليل ينامان بجانب بعضهما و ليس كالسابق .

و ذات صباح نهض عبد الرحيم باكرا كالعادة قبل أخيه و توجّه إلى القفص للاطمئنان عليها ،فوجده مفتوحا و هي غير موجودة بداخله فكاد أن يغمى عليه من شدّة الصّدمة .

و قبل أن يجمع أنفاسه لينادي على أخيه بأعلى صوته كي يخبره بالأمر ،حتى شعر برجلين صغيرتين يتوضّعان على كتفه الايمن الصغير ،ففرح فرحة شديدة لم يفرح مثلها منذ أن مات والده رحمه الله ..

و بعد ذلك تذكر أن البارحة نسي أخوه الصغير أن يغلق باب القفص و تركه مفتوحا لانشغاله بحفل المولد النبوي الشريف بالأمس مع صديقه إسماعيل في بيته المتواضع.

إنه الاخير الذي لمست انامله ريش الحمامة تلك الليل ،فباتت فوق غصن من أغصان الشجرة المثمرة .

و عندها أيقن ان جناحيها بدأت تقوى نوعا ما ، وما إن نهض أخوه حتى أخبره بالموضوع و حذّره من ترك بابه مفتوحا مرّة أخرى .

و بمرور الايام علم أصحاب الحي أن لجارهم الصغير حمامة جميلة و هو يرعاها كما ترعى الام و ليدها ،و اصبحوا ينادونه يا صاحب الحمامة و يسألونه عن أحوالها جميعهم .

و ذات جمعة صباحا و هي عطلة الاسبوع نهض صديقنا باكرا كالمعتاد و تناول فطور الصباح و اخذ أحد الاكياس الصغيرة التي يقوى على حملها ،و توجّه الى المزرعة المجاورة .

لقد غادر المنزل بعدما اوصى اخاه الصغير على الحمامة و حمايتها من القطط الجائعة .

انه ذاهب الى بيت عمّه محمد شقيق والده المتوفى ،و هو يسكن بالبادية ،فما له من طعام لها قد قارب على النفاد ،لذا ذهب الى المزرعة لجلب لها كمية من القمح من عند الاقارب الكرماء و ما ان وصل و اخبر عمه بالأمر حتى سرّ هذا الاخير كثيرا بهذه المسؤولية ،ثم طلب منه التوجه الى داخل المنزل كي يسلّم على باقي العائلة و يتناول معهم الشاي و اللّبن الطازج مع الزبدة و خبز الشعير .

فقضى معهم لحظات ممتعة ،و في المساء قال له عمّه :توجّه الى الحظيرة و خذ حاجتك من القمح يا بنيّ العزيز.

عند غروب الشمس عاد الى البيت فرحا مسرورا و قد حصل على ما اراد كما جلب معه بعض بيضات الاوز و الديك الرومي و بعض الاشياء الاخرى يقوم عمّه بزرعها في مزرعته الصغيرة .

.و عند وصوله منح امه الهدايا و اخبرها عن احوال عائلته عمّه الكريمة .

رغم انه عاد متأخرا و الظلام قارب على الحلول ،إلا انه صمّم على الذهاب الى المقبرة عند قبر ابيه رفقة اخيه كي يقرا عليه الفاتحة ويدعوا له بالرحمة .

 منذ ان مات والده تعوّد فعل ذلك كل صباح ،لكن هذه المرة لم يكن له الوقت الكافي ،فعلى عجلة من امره دعا له الله سبحانه و تعالى ان يسكنه فسيح جنانه مع الانبياء و الشهداء و الصالحين .

و هكذا طيلة عدة ايام اصبح يتيمنا الصغير يمضي وقته بين الدراسة و لوازم البيت و بين الاعتناء بحمامته الصغيرة بمساعدة اخيه .

وفي يوم من الايام صباحا بعد ليلة كانت العاصفة فيها عنيفة تنذر بقدوم فصل الخريف ،استيقظ عبد الرّحيم و توجه الى القفص حتى تكون هي اول من تقع عينه عليها ،ومن بعيد شاهد باب القفص مفتوحا فشعر بان الحمامة غير موجودة و عندها تملّكه الخوف و الشك ،فاخذ يتطلع الى اعلى اغصان الشجرة ربما يجدها هناك .

فبقى واقفا يقول لنفسه :ربما تكون باتت البارحة على احد الاغصان كالمرة السابقة .

واستمر واقفا لعدة دقائق اخرى عساها تحط على كتفه كتلك الليلة ،لكن  بدون جدوى ،فشعر بحزن عميق .

فتوجه مسرعا الى الداخل فوجد اخاه يغطّ في النوم ،فأيقظه ثم اخبره بالأمر و امره بعد ذلك ان يذهب الى منزل صديقه اسماعيل ،ربما تكون هناك على احد الاغصان بالشجرة التي غرسها والده رحمه الله لها فروع و اغصان كثيرة تصل الى منازل الجيران ،و الجميع يستفيدون من ثمارها و ظلالها .

فبحث عبد القادر مع صديقه كثيرا لكن دون جدوى.

ثم عادا معا ليواصلا البحث مع عبد الرحيم ،وهذه المرة واصلوا التفتيش على بساط الارض عن الريش ، قد ضنوا ان احد القطط يكون افترسها البارحة ،و لكن هذه المرة ايضا بلا فائدة .

و عندما اقترب موعد الدرس بالقسم توجه الى مدرسته من دون ان يتناول فطور الصباح و الحزن الشديد باديا على وجهه .

فدقّ الجرس لتبدأ ساعة الجد في طلب العلم، دخل القاعة وجلس على مقعده بلا كلمة ولا حركة 

و ما ان لاحظ ذلك المعلّم الذّكي حتى فهم الامر فقال بصوت مرتفع : ايها التلاميذ انتبهوا جيدا ،درس اليوم هو الحرية ،فرفع رأسه الصّغير واخذ ينظر الى معلمه بدهشة و غرابة و بدا يفكّر و يقول في نفسه :لماذا قرّر ان يكون درس اليوم يدور حول هذا الموضوع بالذات؟   

فحدّثهم عنها كثيرا و عن مزاياها و بأنها لا تقدّر بثمن ،و كم ضحّى المجاهدون و الشهداء الابرار حتى نالت الجزائر كرامتها و نال الشعب عزّته اتناء حرب التحرير المباركة و اليوم يضحون بفلسطين العزيزة .

و عندما انتهى من ذلك الشرح راى ان ملامح الحزن بدأت تزول قليلا من وجه اليتيم ،فحمد الله على ذلك .

ثم امر الجميع بالخروج مباشرة بعد سماع دقات  الجرس ،و توجه اليه ليأمره بالبقاء حتى يحدثه على انفراد .

فاقترب منه بخطوات ثقيلة نوعا ما تدل على تاثره بالصدمة 

وقال له :ما بك يا عبد الرحيم ؟اني اراك على غير ما يرام .

ثم اضاف قائلا و هو يحاول ان يخفف عنه :و انا لست الوحيد الذي لاحظ ذلك ،فأصدقائك التلاميذ ايضا شعروا نفس الشعور نحوك و هم جميعا قلقين بشأنك ،انهم يحبّونك كثيرا يا ولدي .

ثم سكت بعض اللّحظات ليعطيه وقتا حتى يجيبه لكنّه لم يستطع ذلك من شدة حزنه عليها ،و رأسه مطأطأ نحو الاسفل للمرة الثانية .

فسأله معلّمه الطّيب مرّة اخرى :اظن ان الامر يتعلق بالحمامة ؟عل طارت من قفصها الذي كانت تبيت فيه؟

فحرّك رأسه الصغير محاولا قول نعم.

فقال بعد ما جعل اليتيم يطمئن اليه اكثر:لقد علمت ذلك يا بني منذ ان رايتك هذا الصباح على غير ما يرام ،وكنت اريد ان احدثك عن موضوع الحرية حين قلت لي ان العم يزيد اهداها اليك منذ ايام قلائل و اضاف اليه قائلا:لقد اردت ان تدرك ذلك لوحدك مع مرور الوقت وإنها لا تقدر بثمن سواءا للإنسان او الحيوان .

و ملامح الحزن زالت تقريبا خاصة عندما قال له انه جعل الحرية عنوانا لدرس اليوم من اجله حتى يخفف عنه.

و قال له بعد ذلك موضحا له الموضوع جيدا : اعلم يا بني جيدا ان الحمامة مكانه في الهواء حرا طليقا و ليس في القفص .

و اضاف مفهّما اياه :هذا لا يعني انك لم تعتني بها ،بل بالعكس فجميعنا يعلم انك رعيتها كما ترعى الام طفلها بمساعدة اخيك الصّغير.

ولكن تبقى حريتها اغلى عندها من اي شيء في الوجود .

فقال عبد الرحيم بعدما استوعب الدرس جيدا :نعم يا سيدي  ان الامر كذلك تماما ،و انا ليس الحق ان احرمها من حاجة عزيزة عليها .

فقال له :احسنت لقد توقعت انك ستتفهّم الوضع بسرعة لأنك و لد ذكي و طيّب القلب .

و بعد قليل اصطحبه معه الى بيته ،و اتناء الطريق حكى له عن قصّة البلبل الذي كان عنده عندما كان في سنّه تقريبا .

و بعدما الفه و تعوّد السّماع الى صوته الجميل فرّ من القفص و لم يعد ابدا .

و في الاخير اهدى له كتكوتين صغيرين حتى يملأن الفراغ الذي تركه غياب الحمامة في نشاطه ،و قال له :خد انهما لك و اعتني بهما رفقة اخيك الصغير عبد القادر ،و اعلم ان مكان الدّجاج مع الانسان و ليس بعيدا عنه ،و هما لن يذهبا و يتركاك ابدا .

ففرح بهما كثيرا و عزم ان يعتني بهما كثيرا ،كما قرّر في المستقبل ان حدث له و عثر على عصفورة او حمامة اخرى صغيرة سوف يرعاها حتى تستعيد صحتها و تصبح قادرة على الطيران ، ثم يعيد لها حريتها من جديد كي تطير عاليا في السّماء حرّة طليقة.       

         

إرسال تعليق

0 تعليقات