الاديبة التونسية «تبر العرباوي» تكتب: من أيّام السّندباد

 


حطّ السّندبادُ يومًا رحالهُ في مدينة لا يعرفُها , تجوّلَ في شوارعها , فرأى زينةَ تكسوها و حين سـألَ أخبروهُ بأنّها أيّام السّباق .

فرحَ السّندبادُ , سيشهدُ حدثًا يُحبّهُ كثيرًا و سيُراهنُ على الجواد الذي يُعجبُهُ .

قصدَ ميدانَ السّباق , الطّبولُ تدُقُّ و المزاميرُ يُحسّها تجرحُ الجوّ تُدمي الفضاء .

متى ينتهي كُلُّ هذا ليُمتّعَ القابعَ في صدره , السّجين منذُ بدأ ترحاله ؟ و ابتسَمَ : لكأنّهُ يومُ داحسَ و الغبراء .

انقَطَعَ العزفُ و أُعلنَ عن البدء و رُفعت السّتُرُ فإذا طابورٌ من الأحمرة الهزيلة , بعضُها أجرب و بعضُها أعرج و البعضُ الآخرُ , يرفُسُ بحوافره و يعضُّ جلده و كلّ من اقتربَ منهُ ... رُبّما هُو مُصابٌ بداء الكلَب , عافى اللهُ الجميع .

أحسَّ السّندبادُ بالدّوار , أهذه البلادُ الزّاهيةُ الجميلةُ لا تعرفُ الخيلَ , و تُسمّي هذه الحُمُر سابقات .

أعيانُ تلكَ المدينة يُراهنونَ و الحُمُرُ تترنّحُ في مشيتها و الرّعاعُ يهتفونَ ... ما أعجَبَك أيّتُها البلاد .. ؟

انتهي السّباقُ سريعًا , فالميدانُ قصيرٌ جدًّا , بضعُ خُطوات أو لا خُطوة كما يراها السّندباد الذي جابَ الأرض طولاً و عرضًا .

تٌوّجَ المُتفوّق , إنّهُ الحمارُ الأخير : هكذا في تلكَ المدينة يُتوّجُ آخر الواصلين .

ضرَبَ السّندبادُ كفًّا بكفّ و خاطَبَ القابعَ في صدره :

- عُد و لن أُفسدَ عليكَ سُباتكَ مرّةً أُخرى .

- عُد و سامحني يا صديقي , فلا مكانَ لكَ هُنا و همَّ بالرّحيل فاستَوقفَهُ أحدُهم :

- أيُّها الغريبُ , ما رأيُكَ في السّباق , و لم يدعهُ ينطقُ حرفًا واحدًا و استطرَدَ أعجبكَ كثيرًا نعرفُ ذلكَ و سباقُ الغد , سيُعجبُك أكثر , إنّهُ سباقُ الطّيور .

و في الغد عاد السّندبادُ إلى الميدان , دونَ أ يوقظَ صديقهُ النّائم.

و جاءت الطّيورُ , و لم يستغرب : دجاجٌ و بطٌّ و غربان , قُصّت أجنحتُها و بعض الدّيوك الرّوميّة منزوعةٌ أعرافُها و كالأمس تُوّجت الدّجاجةُ الأخيرة و كالأمس , سُئلَ السّندبادُ و إذا صديقُهُ النّائمُ مُستيقظٌ , يبصُقُ في وجه السّائل و يصفَعُهُ .

- غاضبٌ لأنّ الطّائرَ الذي راهنتَ عليه لم يكسب السّبَقَ , ما ذنبُنا ؟ لكنّ السّباقَ يُعجبُكَ و هذا هوَ المُهمّ , فَأصيبَ السّندبادُ بالصّرع و حينَ استفاقَ وجَدَ نفسهُ في قصر أمير المدينة .

جيءَ به ليُدليَ بإعجابه و شُكره للأمير ,عَلى ما تفتَّقَ عنه ذهنُهُ الوقّاد , فَبصَقَ النّائمُ مرّةً أُخرى في وجه الأمير , فاستشاطَ غَضبًا و أمرَ بسجنه في حظيرة الحَمير إلى أن يقضي في أمره فَخَسارتُهُ الرّهان لا تُخوّلُ لهُ التجرؤ على جلالته .

و حينَ أُغلقَ البابُ الحديديّ ذو الصّرير الصّاخب , كادَ السّندَبادُ أن يَصابَ بالصّرع مرّةً أخرى ...

أهذه حُمُرُهم ... خيولٌ مُطهّمةٌ أصيلةٌ , تُدميها القُيود و أللجم , و حمائمٌ و بواز , تُعمي ظُلمةُ المكان عُيونَها , لكنَّ أجنحَتَها , تظلُّ تخفقُ و تصدعُ سمع الحارسين و حمحمة الخيُول , تخترقُ الجُدران المتينة .

_______

تونس 1995 







إرسال تعليق

0 تعليقات