لَيْلَةُ أَنِيْنٍ فِيْ بَيْتِ بَدَوِيِّ الجَبَلِ| قصة للكاتب اللبناني: الشيخ. شادي عبده مرعي



نَامَتْ عَلَى سَرِيْرِيْ، وَقَدْ كانَتْ هَذِهِ المَرَّةُ الرَّابِعَةُ الَّتِيْ تَنَامُ فِيْها عِنْدِيْ..
أُمِّي المَوْجُوْعَةُ مِنَ الأَيَّامِ، غَفَتْ وَاسْتَسْلَمَتْ لآلامِ السَّرَطَان..
كَانَتْ أَصْوَاتُ الدَّرَاجَاتِ النَّارِيَّةِ تَخْتَرَقُ جِدَارَ السَّهَرِ الصَّاحِي فيْ لَيْلاهُ عَلَى رَجْعِ أَغَانٍ يَرْتَفِعُ صَدَاهَا وَيْنْخَفِضُ، بَيْنَ صَخَبٍ وَرُوْمَانْسِيَّةٍ... 
وَعِواءُ الكِلابِ تَحْتَ شُرْفَتِيْ تَحْرِسُ مُخَيَّمَ المَنْكُوْبِيْنَ، وَالقَمَرُ جَارَيْ فَوْقَ  قِمَّةِ جَبَلِ تُرْبُل..
وأَنَا فِيْ مَطْبَخِي، حَيْثُ حَجَزَتْ زَوْجَتِيْ مَكَانَاً لَفَوْضَويَّتِيْ، أَجْلَسُ جَنْبَ النَّافِذَةِ المَفْتُوْحَةِ المُشتَاقَةِ لِنَسْمَةٍ صَيْفِيَّةٍ تُبَرِّدُ حَرَّ زُجَاجِها..
وَالحَاسُوْبُ أَمَامِيْ، تُحِيْطُ بِهِ تِلالُ الكُتُبِ، وَأَكْوَامُ الوَرَقِ، وَرَفِيْقَتِي المَتَّةُ تُثْلِجُ صَدْرِيْ بِمِيَاهِهَا السَّاخِنَةِ..
وَشَلاَّلاتُ الأَفْكَارِ تَنْصَبُّ عَلَى مَائِدَتِيْ فَتُبَعْثِرُّ كُلَّ أَشْيَائِيْ..
قُمْتُ أُلَمْلِمُ ما تَبَقَّى مِنْ أَشْلائِيَ المُنْهَارَةِ عَلَى سَرِيْرِي، فَسَمِعْتُ أَنِيْناً دَفِيْنَاً، يُحَاوِلُ أَنْ يَكْتُمَ أنْفَاسَهُ كَيْلا يُزْعِجَ الآخَرِيْن.. قَادَنِيْ صَدَاهُ لأُشَنِّفَ أُذُنَايَ إِلَى قَلْبِهِ.. تَقَدَّمْتُ نَحْوَهُ باضْطِرَابٍ فإِذا هُوَ يَخْرِجُ مِنْ تَحْتِ رِدَاءٍ تَغَطَّتْ بِهِ أُمِّيْ...
حَتَّى فِيْ وَجَعِهَا أَنِيْقَةٌ أَمِّي..
أُمِّيْ الّتِيْ تَعَامَلَتْ بِحَنَانٍ مَعْ كُلِّ قَسْوَةٍ، حَتَّى مَعْ سَرَطَانِهَا كَانَتْ لَطِيْفَةً، فَاسْتَقْبَلَتْهُ - فَجَأَةً - بِكُلِّ حُبٍّ.. 
أُمِّيْ الَّتيْ لَمْ تَقْوَ عَلَيْهَا النَّكَبَاتُ، لَنْ يَقْوَى عَلَيْهَا سَرَطَانٌ..
قَدْ أَنَامَتْهُ فِي نَقِيِّ عِظَامِها، وَطَرَدَتِ الكُّلَّ حُرْمَةً لَهُ، فَلَمْ تَصْرُخْ حَتَّى لا يَسْمَعَ مِنْهَا:" تَأَوُّهَاً وَشَهِيْقَا".
اِسْتَلْقَيْتُ خَلْفَها، وَضَمَمْتُها إِلَى صَدْرِي، وَهِيْ تَئِنُّ وَتَئِنُّ..
كَمْ دَعَوْتُ لَيْلَتَها وَرَجُوْتُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهَا، وَهَلْ أَنَا أَمْلِكُ إِلاَّ هَذَا القَلْبَ القَلِقَ؟!
فَيَا لَيْتَها تَنَامُ فِيْهِ:" وَلَوْ قَدِرْتُ مَنْعَتُ الـقَلْبَ حَتَّى تَقُرَّ فِيْهِ الخُفُوْقَا"...
كُلَّمَا أَنَّتْ، كُلَّما رَجَفَتْ، كَانَتِ الدُّنْيَا فِيْ عَيْنَيَّ تَصْغُرُ..
بَدَأَ شَرِيْطُ الأَيَّامِ يَكِرُّ ذَاكِرَتَهُ فِيْ عُتْمَةِ الغُرْفَةِ عَلَى وَقَعِ أَنِيْنٍ مَلائِكَيٍّ..
كانَتْ صُوْرَتُها وَهْيَ جَالِسَةٌ خَلْفَ مَاكِيْنَتِها وَقْفَةَ العِيْدِ، تَحِيْكُ مَلابِسَ أَهْل القَرْيَةِ بِسُرْعَةٍ كَيْ تُنْجِزَها قَبْلَ الصَّلاةِ، وَتَقْبِضَ مَا تَكْفِيْنَا فِيْهِ مَذَلَّةَ اليُتْمِ، وَعَنْجَهِيَّةِ بَعْضِ المُتَفَضِّلِيْنَ..
أُمِّي الشَّابَّةُ الأَرْمَلَةُ الَّتِيْ رَبَّتْ عَشْرَةَ أَوْلادٍ بِدُمُوْعِ الصَّابرَاتِ، بَعْدَ أَنِ اسْتُشْهِدَ زَوْجُها مُنْتَصَفَ الثَّمَانِيْنَاتِ، أَرْهَقَها الكِفَاحُ، وَأَضْنَاها المَسِيْرُ.. 
كَيْفَ تَغْفُوْ أُمِّيْ؟ أَيْنَ أَنَتَ يَا مَلاكَ النَّوْمِ؟
هَوَّنْ عَلَيْهَا...
وَأَنْتَ أَيَّها السَّاكِنُ فِيْ عِظَامِ أُمِّيْ، هَلاَّ تَرَكْتَهَا بِسَلامٍ؟
أَلَمْ تَتْعَبْ مِنَ السُّكْنَى هُنَاكَ؟ 
كَانَ الأَنِيْنُ يَشُقُّ طَرِيْقَهُ إِلَى قَلْبِيْ، حَتَّى اسْتَقَرَّ فِيْهِ، فَحَاوَلْتُ التَّفَاوُضَ مَعِ السَّرَطَانِ مِنْ خِلالِهِ..
أَغْرَيْتُهُ بِكُلِّ مَا أَمْلِكُ..
"أَدُموْعَاً تُرِيْدُها أَمْ رَحِيْقَا؟؟"
قُلْ أَيَّها السَّرَطَانُ المَلِكُ؟
ما الَّذِيْ يُرْضِيكَ.. " لا وَنُعْمَاكَ، مَا عَرَفْتُ العُقُوْقَا"..  
تَعَالَ وَاسْكُنْ فِيْ عَيْنَيَّ، إِنْ أَرَدْتَ:" فَقَدْ فَرَشْتُ لَكَ الأَحْلامَ مُخْضَلَّةَ الورُوْدِ طَرِيْقَا..
نَمْ بِعَيْنِيْ، أَرْجُوْكَ، وَغَادِرْهَا..
هَمُّ عَيْنِيْ: أَنْ تُشْفَى - أُمِّيْ مِنْكَ – وَتَرُوْقَا..
حَاوَلَتْ أَنْ أَشْتَرِيَهُ.. أَنْ أَرْشِيَهُ.. لَكِنَّهُ أَبَى وَتَمَّنَعَ..
فَمَنْ يَسْكُنُ فِيْ عِظَامِ أُمِّي الحَنَوْنَةِ، لنْ يَطِيْبَ لَهُ العَيْشُ بَعِيْدَاً عَنْه..
وَبَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، غَفَوْتُ عَلَى أَنِيْنِ أُمِّيْ، وَاسْتَفَقْتُ عِنْدَ الفَجْرِ، وإِذْ بِدِيْوَان بَدَوِيِّ الجَبَلِ قَدْ تَنَدَّى مِنْ شُرْفَتي وَقْتَ السَّحَر.. 
  

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. ليلة أنين........قصة في قمة الاحساس والمشاعر.
    أحسنت يا شيخ شادي

    ردحذف