في قلبي وردة| قصة للكاتبة اللبنانية: ريان ماجد



يستيقظ أهالي الحي الذهبي الراقي في البلدة على منبهاتهم الذكية المتنوعة كل صباح ، إلا قصر 'آل محسن' فيستيقظ أهله على منبه مميز خاص، ألا وهو صوت أم جاد وهي تسأل ابنها : "متى سأفرح بك؟
للسيدة فيروز شاب في الثلاثين من عمره اسمه جاد ، وسيم جدا، وذو طلة بهية سمراء. كان يكبر كل يوم ٍ أمام مقلتيها وكانت تكبر مع ذلك أمنية حياتها البرّاقة، فهي تريد أن ترى ابنها جاد وأولاده يملأون غرف القصر الباردة والتي ازدادت برودة بعد وفاة زوجها. أرادتهم أن يلونوا زوايا القصر بريشة الحياة الفاتنة الزاهية.
جاد يكره كل شيء يمت للعادات والتقاليد بصلة، فقد كان يرفض كل مرة فكرة الزواج التقليدي خصوصا على طريقة السيدة فيروز التي كانت بدورها تبحث عن بنت الذوات المرصعة بجواهرها المتلألئة. أخبر جاد أمه أنه سيظل على تلك الحالة حتى يدق ذاك الفؤاد وتحظى عيناه على صورة فتاة الأحلام، فيعزف قلبه "سيمفونية الحب" المنتظرة.
في يوم من الأيام وبينما جاد مستلقٍ تحت شجرة الصنوبر المفضلة لديه في حديقة البلدة، مستسلماً لكلمات روايته، سمع جاد صوت أحدهم يستنجد من الخلف:
-" النجدة! النجدة! ساعدوني.... لقد سرق هذا اللص حقيبتي!"
ركض جاد مسرعا نحو السارق الملثم بالسواد، انقض عليه، أخذ الحقيبة منه وبخفة يد خلع اللثام عن وجهه. ذهل جاد بالجمال الذي رأته عيناه، فراح يغوص في أعماق بحر عينا الفتاة الزرقاوان اللتان سحرتاه من اللحظة الأولى، وهنا راحت غصون الأشجار تتراقص، والورود الحمراء الجورية تتمايل، ورياح الحب تستمع لألحان القلب الذي عزف على وتر الوله والهيام.
-"أيعقل هذا!؟ أنت فتاة؟" جاد مذهولاً.
لم تحرك الفتاة ساكناً وقد ارتعدت مفاصلها خوفا من جاد، وبينما هو محدق هكذا حتى رمت الحقيبة في وجهه وهمت بالفرار. لم يعد هم جاد الحقيبة أبدا، بل تلك الحسناء التي سحرته بجمالها الأخّاذ. ركض خلفها وتتبع خطواتها وصمم أن يكتشف سرها المكنون. وبعد رحلة التتبع السرية وصل جاد عند أعتاب بيت الفتاة الموجود في حيٍّ بائسٍ فقير، والذي يختلف كثيرا عن حيّه الذي اعتاد على لمعته الذهبية الساحرة.
اختبأ جاد وراء العامود، وحاول أن يسرق النظر من نافذة المنزل علّه يرى أي شيء أو يلمح الفتاة حتى، وبينما هو كذلك حتى رأى رجلا ضخماً، متسخا، يلعب بلحيته الطويلة قد دخل الغرفة ومعه البنت الحسناء، وضعها أمامه وانهال بها ضرباً مبرحاً ليوقعها على الأرض مغشيًّا عليها.
إنكسر قلب جاد عندما رأى هذا المشهد الأليم أمامه، لم يستطع أن يغادر المكان وكأن وجهه قد التصق بنافذة الغرفة وظل ينظر إلى تلك الفتاة المرمية على الأرض.
بعد ساعات، عاد الرجل الضخم إلى الغرفة مجددا، حاملا بيده إبريق ماء بارد فسكبه على وجهها حتى استفاقت من غيبوبتها الزمنية.
-"إسمعيني جيدا، ما حصل الآن هو لا شيء بالنسبة لما سيحصل غداً إن عدت فارغة اليدين."
-"يا أخي إرحمني! لقد تعبت وسئمت من هذه الحياة ومن عمليات النصب والسرقة هذه! دعني ودع الناس رحمك الله!"
-"يا لك من بلهاء...!!" مستهزئاً بكلامها.
-"ناس! ؟أي ناس أيتها الوردة؟ هل ذاق أحدهم كأس مرار يوما؟ هل لبس أحدهم ثيابا مهترئة يوما؟ هل خلد أحدهم إلى النوم باكرا ليحافظ على ضوء شمعته الصغيرة المتبقية لديه ليوم آخر؟ وحتى لو خلدوا إلى النوم، هل أصاب أحدهم الأرق وفكر بقوت يومه المجهول؟"
-"ولكن يا أخي، اسمعني.. "
-" كفى! غدا تذهبين إلى الحي الراقي عند الساعة الرابعة، تقومين بالواجب على أكمل وجه، وإلا ستكونين من عداد الموتى."
عاد جاد إلى قصره حزينا، والغصة في قلبه، صار يفكر بطريقة ينقذ بها هذه الفتاة من أذى الحياة وسقمها. نعم، هناك فرصة ذهبية تنتظره غدا وبينما هو غارقٌ في تفكيره حتى لمعت في رأسه فكرة.
في اليوم التالي تجول جاد بسيارته وصار ينظر يمينا وشمالا، ولحسن حظه رأى الفتاة في آخر الشارع تحمل المناديل الملونة. همَّ إليها مسرعا، وعندما رأته أرادت الهروب، لكنه صرخ بأعلى صوته:
" -أرجوك، توقفي أنا هنا لأساعدك.. ثقي بي أرجوك.. "
لم تصدقه الفتاة ولكن عندما أكمل كلامه:
-" أعرف كل شيء، لا تستطيعين الذهاب إلا وبيدك شيء ثمين وإلا إنتهت حياتك! " توقفت عندها الفتاة واستمعت إلى جاد جيداً.
-" أنظري أيتها الحسناء، لم أنم ليلة البارحة، لا لأنني أفكر بقوت يومي، بل لأنني لم أستطع أن أمحي المشاهد من ذاكرتي، كأنك قدري الآسر، لدي منزل في جنوب البلاد يطل على بحيرة لامعة خضراء، لا أحد يعلم به إلا أنا، أذهب إليه عندما تضيق بي الدنيا!"
-"أوَ تضيق بكم الدنيا أنتم الأثرياء؟! "
-" نعم، ليس كل ما يلمع هو ذهب، انظري ستسكنين في هذا المنزل وسأعطيك المال كل شهر وأجزم لك أنه لن يعرف أحد مكانك إلا أنا. "
-" ولكن ما الذي يدفعك إلى ذلك؟ لم تريد مساعدتي؟ "
-" لنقل أنك مسحت فانوساً سحريا فغدوت أنا الجني الذي يحقق الأمنيات. "
مرت الأيام والأمور كلها على ما يرام، غرق 'جاد' في حب 'وردة'، كما أن وردة كانت قد تعلقت به كثيرا وعندما تيقن جاد من ذلك عرض عليها الزواج فوافقت على الفور....
عاش جاد ووردة أجمل أيام حياتهما في بيت الأحلام، حتى أن الأسماك كانت تنتظر قدومها إلى البحيرة، لينظروا إلى الصورة الجميلة التي تعكسها مرآة المياه النقية الخضراء، ألا وهي ملامح الحب على وجههما.
وفي يوم، كانت الفرحة لا تسع 'وردة' ،حضرت لنفسها كوبا من العصير الطازج، جلست عند البحيرة، حملت الساعة، وصارت تحدق في عقاربها بشغف، منتظرة قدوم جاد إليها..
.. وصل جاد إلى المنزل، توجه نحو وردة التي لم تستطع أن تخفي سر فرحتها قائلة :"جاااد.. جااد.. أنتظرك بفارغ الصبر ... أنا حامل!! "
فرح جاد كثيرا بالخبر وكاد لا يصدق نفسه أنه أخيرا سيصبح أبا. مرت الأيام وأنجبت الزوجة وردة جميلة مثلها، سُحر جاد بسُكّرته الصغيرة، حملها بين يديه،قبلها، ثم قال لوردة:
-" سأسميها 'مرام'. "
مرت السنين بشكل هادئ ومستقر. الكل يتَّبع تعليمات الخطة والأمر سري بامتياز. ولكن لم يعلم جاد أن السيدة فيروز ستدق ناقوس الخطر فهي تريد أن تكحِّل ناظريها بأولاد جاد وتنتظر ذلك بفارغ الصبر. وفي يوم لم تستطع أن تتحمل إهمال جاد للموضوع فقالت له :
-"اسمعني يا بني.. العمر يمضي وأنا لن أدوم لك طويلا، حققتُ لك أمنياتك منذ نعومة أظفارك حتى الآن، ألا يحق لي أن تحقق لي أمنيتي الوحيدة؟اذا لم تقم بهذه الخطوة أنت فسأقوم بها أنا.. وعلى طريقتي."
انمزجت مشاعر جاد في كينونته، فمن جهة هو قد حقق لها هذه الأمنية، ومن جهة أخرى لا يستطيع الإفصاح عن الموضوع لأن وردة ليست فقط فتاة فقيرة، بل هي من عائلة محترفة بالنهب والسرقة، وبكل صراحة نسب الفتاة لا يشرّف العائلة المحترمة.تشابكت الأفكار في رأسه فقيّدته، كبّلته، وشلّت حركته، حتى جعلته سجين حيرته.ثم صمد وتحامل على نفسه قائلا : "هناك حل واحد لا غير.."
عاد جاد إلى وردة وقصَّ عليها النبأ الكاسر، ثم قال لها:
-"وردة لا حل عندنا غير ذلك وإلا ستنهي أمي كل شيء فهي السيدة فيروز والسيدة فيروز غنية عن التعريف..لا تخافي بعد أن أخبرها أني تبنيت 'مرام' سأبعث وراءك لتكوني حاضنتها وبعد فترة سأخبر أمي الحقيقة، فتكون قد تعلقت بحفديتها التي انتظرتها بشوق وتسير الأمور على ما يرام."
ودعت وردة ابنتها مرام بكسرة قلب، وغصة ألم، وأحست أن حلمها قد تحول إلى كابوس ظالم رديء. عاد جاد إلى القصر وأخبر أمه أنه لا يريد الزواج، وأنه قد تبنى هذه الفتاة لتكون حفيدة لها وابنة له. صعقت السيدة فيروز بالخبر فهذا عكس كل المبادئ والتقاليد ولكن عطشها للأولاد جعلها ترتوي الأمر ولو كان مرّاً.
مرت الأيام على وردة كالسنين ولكنها كانت تتحمل وتصبر فهي تثق بجاد كثيرا، ولأن الحياة غادرة حصل ما لم يكن بحسابانها. انقطعت أخبار جاد عنها نهائيا حتى أنه لم يعد يأتي ليطمئن عليها. أحست أنها قد طُعنت بخنجر خائن دامي. صبرت، صبرت، وصبرت ولكن للصبر حدود... وبعد أشهر نفذ مالها فوجدت نفسها تطرق باب أخيها جابر.
فتح جابر الضخم الباب، انصدم الرجل ولكن وردة سارعت بالحديث وقالت:
-" انظر، لن أعطيك أي جواب عن أي سؤال تريد طرحه علي ولكن كل ما أستطيع قوله أني في خدمتك لأي عمل تريده."
ضحك جابر :"يا لها من سخرية قدر، حسنا فأنت لست إلا أداة لأكسب منها المال،ضاعت مني يوما، ووجدتها الآن، أدخلي....." ماسكاً يدها بعزم ملقياً بها داخل المنزل.
" أيتها الوردة الجميلة اليوم عملنا في غاية الروعة والدهشة، سرقتنا لليوم شيء أثمن من المال والذهب، سرقتنا اليوم لمدللة ذاك الأحمق جاد"
-" ماذا تقصد؟ من هي مدللته؟؟!"
-" لديه ابنة في غاية الجمال، سنقوم بخطفها مقابل فدية مالية كبيرة، إنها صفقة العمر يا وردة.."
في هذه اللحظات توقف عقرب ساعة وردة، دخلت إلى غرفتها، وذرفت الجراح على ابنتها مرام. أمضت ليلتها ودموعها قد رسمت خرائط على محياها، تتحسر على ابنتها التي رماها القدر بفخ وحشي. في الليلة التالية، جهزت العصابة نفسها، وتوجهت نحو قصر جاد. تمت العملية بنجاح، خُطفت الفتاة من سريرها وعاد الجميع إلى أدراجه.
استفاقت الفتاة فوجدت نفسها في حضن أمها، لم تتمالك نفسها فراحت تحضن أمها و تقبلها بجنون.
-"ماما... ماما... إشتقت إليك كثيرا يا ماما!! "
انهمر شلال الدموع، لم تتحمل وردة الأمر و صارت تلطم نفسها شاكية باكية. في نفس الليلة طلبت العصابة الفدية من العائلة وأصروا أن يأتي جاد وحده ليأخذ فتاته المدللة،وإلا لن تتم الصفقة و سيحصل مكروه لن يعجب الجميع.
حضر الجميع عند نقطة الإلتقاء، العيون كلها تترقب الأمر ووردة تمسك بمرام بقوة من شدة خوفها عليها. وفي هذه الأثناء، وصلت سيارة، ترجل رجل منها،وتوجه نحوهم حاملا حقيبة سوداء ولكن لم يكن هذا الرجل جاد.
"أين جاد...؟" صرخ جابر.
-"جاد مريض جدا، لا يقوى على الحراك، يصارع مرضه منذ أشهر.... أنا من العائلة هيا سلمني مرام وهذه أموالك أيها الحقير!!"
راود الحزن الأليم وردة، فالحبيب الأسمر في خطر، يعاني آلام الجسد وحده دون لمسة وردةٍ تضفي على روحه المريضة حياة. المعشوق لم يسلم على وردته لأنه قد ذَبُل،ولم يطل عليها بأبهى حلله لأنه قد ضعف وقلت حيلته.
-" الأمر ليس بهذه السهولة.. علك تكذب...! "قال جابر عاليا.
أحس جابر أن هناك شيء غير طبيعي بالموضوع و توقع أن يحضر جاد مع الشرطة بعد وقت، لذلك تحركت روحه الشريرة و اختلطت أفكاره الشيطانية، وضع يده على الزناد، وجّه المسدس نحو المدللة التي تختبئ في حضن أمها، نظرت وردة إلى عينيه التي تنبعث منهما شرارة الحقد، صرخت صرخة كادت أن تمزق أحشاءها....
-" لااااااا لا تفعل.... إياك يا جابر!!!! "
-"هذه ابنتي ابنتي يا جابر!!! "
لم تكمل كلامها حتى توجهت الرصاصة نحو قلب مرام لتصيبه بصميمه. غطت وردة مرام بذراعيها كالمظلة لتحمي ابنتها من شر جابر ولكنها لم تعرف أن قطرات الرصاص الذهبية تمزق أقوى المظلات حتى لو كانت مصنوعة من ذراعي أم.
سقط قلب مرام أرضاً ، لحق بها جسد وردة على الفور، وسافرت روح جاد نحو السماء. سافرت للتنتظر عند محطة العشق فهي على علم بوصول المعشوق إليها وبعد ساعات سلَّمت وردة قلبها لمرام، وتلاقت الأرواح العاشقة في جنة الحب والهيام وراحا ينظران إلى مدللتهما وهي تكبر من قصرهما الذهبي العالي في السماء. في النهاية استطاع جاد أن يهدي المدللة المال والثروة والجاه، ولكن عندما يلمع القلب داخل الجسد وعندما يقول جاد أن ليس كل ما يلمع ذهب، يقصد أن المال لا يمكن أن يهب حياة، ففي رصيد مرام مالا من جاد ، ولكن في قلبها وردة، فالأم أهدتها حياة.. "

إرسال تعليق

0 تعليقات