«أنا والروتين» قصة للكاتبة اللبنانية: ملاك بلال ناصر




  إنها التاسعة صباحا من يوم الأربعاء، نهارا جديدا مع امل جديد. استيقظت منذ قليل لأحضر امتعة زوجي، فهو ذاهب الى العمل كالعادة.

  قبلةٌ و ابتسامة، ثم أغلقت الباب خلفه. بعد ذهابه أعددت كوبا دافئ لأواسي روحي في الغربة، فالدفء في الصباح يعادل رومانسية الليل. أنظر إلى الفنجان أتعمقه، وتارة انظر يمينا و يسارا. غريبة انا كيف اتلذذ في مجالسة نفسي، فأنا اعتدت ذلك من الصغر! و لا زلت هكذا! 

  و من ثم اوقظ مدينة افكاري لأنها ما تزال غارقة في النوم و أسالها:
_"ماذا سنفعل الآن؟ "
فتقول :" اذهبي و استرخي على فراشك". 

_" اوف، قد ضاق صدري من الاسترخاء، ساكره اليوم كالعادة." 
***
  هو قبيح جدا، يوسوس لي في وسط وسط اذناي كالشيطان الرجيم، ظاناً انه سيمتلكني! يحاول ممارسة اللياقة معي، بعنوان الضمير الغائب! اجل. ورغم عدم حضوره الا انه ماهر في الإغراء. 
  هو ليس رجلا، هو أشبه بالرجاء. قوي و ماكر اذ انه لا يمل من الاصرار. يحاول دائما سحبي، و لكني ادفعه دائما الى الوراء ثم الوراء. لكنه لا يسقط! فهذا الشيئ يعود ليقف من جديد و كأني هدف حياته. مستعد. للقتال حتى النيل مني و التلبس داخلي. 
  تقدم رويدا رويدا كمقاتل في وسط الميدان حائرا كيف يبدأ مطاحنتي! و عندما انوي لانشغال نفسي  بشيئ عنه، يختفي. 
  فالآن مثلا وقت الرياضة بحسب توقيت جدول أعمالي النهاري. 
واحد، اثنان، ثلاثة…. عشرة. 
ماهذا الصوت؟ إنه خافت بعيد، يصدر من النافذة و غير واضح، لن أكترث سأكمل ما اقوم به. 
  إنها الآن الحادية عشر، سأسترخي قليلا قبل الاستحمام. 
ما اجمل الهدوء و الاستمتاع بالوحدة. مممم! و كأني اشعر ان هناك صوت يصدر من داخل المنزل للمرة الثانية!! 
_من هناك؟ 
لا احد يجيبني، ولكني متأكده من ما سمعته اذناي، فقد رن الصوت في داخلهم. أهي أقدام متسلسل؟ او سارق؟! و لكن لما؟ فلا كنز في بيتي! 
_من هناك؟ 
  وبينما انا جالسة و حائرة حول الذي يدور بالخارج، و اذ به يدخل غرفتي مبتسما واثقا من نفسه. 
-هذا انت! ماذا تريد مني؟ دع عنك مرادك  فلن تفوز. 
-اتيت لأتغلغل في اعماقك الرقيقة هذه، فأنت يا حبيبتي في الغربة وحدك، وليس هناك من يؤنس هذا الجمال يا حلوتي
  واقترب مني حتى كاد ان ينقض علي كالدب الجائع… ماذا سأفعل اذا اقترب اكثر، ليس امامي سوى النيل منه قبل ان ينال مني. 
  ثم وقفت محاولة إظهار قوتي و صلابتي عسى ان يخاف مني. فنظرت إليه بجدية و تجهمت بوجهه و قلت بأعلى صوتي:
-ابتعد ايها النسناس عني، اتحسب اني سأستسلم لمكرك؟ و سأرقص في وعرك؟ انظر الي، دقق في ملامحي، هل ترى وجهي شاحب؟ هل روحي يسيل الدمع منها؟ 
-"كلا، وجهك يتلألأ، و ارى روحك في ذاك الحقل، حقل الرييع تمرح مع الاطفال، تسير خلف الفراشات و الأزهار، ولكن ايتها الطفلة سينتهي الربيع بعد حين و ستذبل الأزهار و تسقط وتسقطين معها، وحينها سأكون جزءا لا يتجزء  من روحك الحزينة، و قلبك المغبرفالبدر لن يطول في السماء، سيأتي يوما و يتفكك ليهوي على ارضي…"
 كان يحدثني بكل ثقة و قوة، شعرت بأن فؤادي سيقف عن النبض. كان يحدق في عيني حتى شعرت اني سأسقط و أُعلن هزيمتي. فثقته ترعبني في نهاري. ثم رحل كعادته من غير تحديد موعد للقاء الآخر. لم أفكر بشيئ فجسمي كان مخدر،اغمضت عيناي علني انسى حلقة الرعب تلك، أحاول الهروب ولكن سرعان ما اتذكر اني احلم! لذلك ابصرت من جديد ووضعت رأسي تحت المغسلة لأبدو افضل، فبدءت مرآتي تحدثني:
-اوف، اوف، ماذا يريد بعد، كيف السبيل الى النجاة، ماهذا البلاء؟ 
-يا الهي، مازال الوقت مبكرا ليعود زوجي من عمله، فما العمل؟ سيأتي مرة أخرى بلا شك. 

  رن هاتفي، فها قد حلت الصلاة، بادرت بالوضوء و جعلت الماء تكاغي و تقبل أناملي، و فرشت سجادة الطهر ثم كبرت لأتحرر من منازعاتي اليومية و أقمت الصلاة. 
  و بعدها اردت تحضير الغذاء، فهنا عقرب الساعه بطيئ جدا. دخلت المطبخ وحضرت ما علي تحضيره، ولم يزل هناك متسع كبير من الوقت، او كأن العقرب لم يتحرك من أساسه! سأنتظر زوجي، وانتظرت زوجي ، ومازلت انتظر! اشعر بأن عمري يضيع مع كل دقة، لاشيئ هنا لا شيئ! 
   نظرت إلى المرآة لأقتل بعض الدقائق، فخط عريض فوق عيني وقلم بارز على الشفاه، هي دقائق تفصلني عن المسرح فماذا البس؟ و الآن علي العودة إلى الطاولة لترتيب المائدة قبل حضور زوجي. وبينما كنت منهمكة في ترتيب السفرة، لاحت سترتي عن كتفي، وشعرت ببرودة جسدي رغم لهيب الشمس. 
  إنني الان لست بجانب الطاولة، فأنا أرجع الى الوراء تارة ثم أخرى. هناك مغناطيس خلفي أقترب منه شيئا فآخر. صرخت بأعلي صوتي لكن لا يوجد أحد هنا غير جدران المنزل، فصدى صوتي عاد الي رصاصة في قلبي حتى غبت عن الوعي. 
  اين انا الان؟ حاولت النهوض ولم استطع، نظرت خلفي باتجاه ذلك النور القوي، فأغشي علي مرة أخرى. 
-من هذا الذي يمشي امامي؟ 
كنت اسأل نفسي بعد ان ابصرت من غيبوبة لا اعلم كم لبثت، يوما؟ اثنين؟ دهرا او اكثر؟ "لا اعلم" 

  هجمت عليه و مشاعري مشوشة مابين خوف وقوة و الم.
-ماذا تريد بعد كل هذا العذاب وكيف أضع حدا لك؟ لو كنت انسانا لوضعت اصابعي العشرة في صدرك و اقتلعت قلبك الاسود. 
ثم نظر الي حتى شعرت قد شل جسدي الضعيف وقال :هدئي من روعك!
بدت ملامح الاستهزاء واضحة على وجهه، ثم عرض علي الاستسلام بسخرية. أغمضت عيناي وتقدمت نحوه وقلت بنفسي"عليك مني السلام". 
   وفجأة سمعت صوت اشخاص و ضحكات اطفال، فاستيقظت فإذا انا نائمة على الأريكة في غرفة الجلوس، و التلفاز يصدر اصواتا و حركات. فشكرت ربي اني كنت احلم ولم استسلم! و من ثم وقفت على قدماي لاكمل ماتبقى من نهاري و رغم شعوري بالتعب الشديد و الارهاق ركضت لاضع اللمسات الاخيرة على الطعام قبل حلول الخامسة عصرا. فأنا مازلت جديدة هنا، احب كل شيئ بتفاصيله الصغيرة. 

   جاء زوجي في نفس المعاد "الخامسة عصرا" فأنا انتطره كل يوم بحرارة الطفل الذي ينتظر عودة أمه من السوق. انتظر قدومه بفارغ الصبر، فهناك في حقيبتي صندوقا من الاحاديث خبئتها لعودته. ينتابني سرور لوجوده بجانبي، فهو يطبطب فراغا عميقا اصارعه طيله مكوثي وحدي. 
  دخل لاداء فريضة الضهر فقصدت ارتب غرفة الجلوس لنجلس امام فيلم معين وندردش. فهناك روحا أخرى في المنزل!! و من شدة فرحي بوجوده وقفت خلف الحائط اراقب قيامه و قعوده بسرور عميق. أحيانا اظن اني ما زلت طفلة، ولكن سرعان ما اقول العكس، فأنا هنا احارب الملل طيلة النهار و اتصدى طلقاته، فهو يدفعني للجنون. أجاهد في سبيل سعادتنا طيلة الوقت، احارب وحدتي علّني اتأقلم. 
  بعد انتهاء زوجي فريضته اقبل الي وقبلني بحرارة، ثم جلسنا على الكنبة و بدءنا بحوارنا اليومي: "كيف كان نهاركِ؟ وماذا فعلتي؟ هل تعبتَ؟ هل تعبتِ؟"  غربال من الأسئلة نوجهها لبعضنا. 
 ومن الامور التقليدية عند زوجي، الاستلقاء قليلا بعد نهار متعب، ومن الامور التقليدية عندي انتظاره لكي يستلقي حتى أضع رأسي في وطني لأبسلم يُتم غيابه عني. 
  رغم عدم بوح زوجي بكلمات تشق البدن شقا، الا اني اعلم جيدا بل اكثر ما يكمن لي في داخله، حيث في قلبه روايات الحب وقصائد الإحترام. اني يقظة لكل كلمة يود قولها لي ولا يستطيع.. فأنا انظر الى عينيه جيدا، فأعلم كل شيئ. 

  أحب زوجي كثيرا فهو يتعب ويكد لاجل حاضرنا ومستقبلنا. اشعر بالحزن كثيرا عندما أرى يداه الخشنتان، فأثار التعب ممزوجة بكل خيط رفيع على يده، ومن ثم انظر الى يداي فأرى كم يحبني. نحن لا نمل من الغزل فما زلنا عريسين جديدين، لم نصل الخمسة اشهر، نعيش في بلاد الغربة تحت مظلتنا الجميلة. 

  وبينما كنت امعن النظر الى عينيه، كنت افكر في نفسي كيف ابوح له بسري؟ حبذا لو استطيع ان افتح صندوق يومياتي ويكون هو المفتاح. يجب علي ان اعلمه ليدرك ماذا يحصل. ولكن كيف ابدء بالحديث معه؟ وماذا انثر؟ أأقول انه ينتظر خروجه من المنزل؟ او انه يلاحقني كخيال ساطع رغم الظلام؟ او أروي له الاحداث ليظنها حلقة من حلقات المسلسلات؟ 

_عزيزتي ما بك؟ 
  همس في أذناي، فاستيقظت من شرودي، واخذت دور العاشقة وجعلت من الحب بصيرتي كي لا يتفشى مرضي في حضور زوجي. 

 هكذا مر النهار مسرعا لصفحة جديدة، وصار وقت النوم، وها انا اجهز الفراش ورائد يغسل وجهه. وبينما نحن كذلك، انتابني شعور البؤس، كدت اخرج دمعات لا اعلم مصدرها. نعم، اصبحت مزاجية باحتراف، الان اضحك وبعد حين اغضب، وما بين هذه وتلك تقلبات لا ادري من اين تأتي. 
انني في هذه البلد شخصية أخرى عن ما كنت في بلدي، كل شيئ تغير، داخلي و خارجي، لم ارد ذلك ولكني تغيرت! حتى تجمعات البشر باتت لا تليق بي، فالوحدة اختياري. 
 ماذا لو كنت اعيش في منزل وسط ماء؟ لا شيئ، عند الجوع اقطف فاكهة عن الاشجار، و وقت النوم اغمض عيني بدون التفكير. اجلس في منزلي بدون خوف، فلا بشر هنا! 
شعرت وكان جن لمسني، او كانه متحكم بحواسي عن بعد، حتى امسيت كئيبة، باهتة اللون. دخل زوجي ليراني في هكذا حالة فسألني "ما بك؟" و كان ردي "لا شيئ" 
كان جوابي غير لائق، ولكنه وليد مزاجيتي الصماء المبعثرة، إستغرب كثيرا لما سمع، فلاح عيناه عني وتمدد على الفراش، كما انه قدم ظهره لي. 

 _ايتها المشاكسة، ما بك والانفصام يلاحقك؟ كفي عن الهذيان واستقيمي قبل فوات الاوان. اجعلي من خوفك قوتك! كلمت نفسي عسى نفسي تجيبني، ثم اقتربت منه على مهل، ولكن قبل ان اتكلم، قال"كفي ندك عني" و غفى… 

   ما اجمل ان توقظك الشمس وهي تستدل بشعرها الذهبي على وجهك في فجر تعرّ لارتداء ثوبا جديد. قمت و هرولت الى الداخل لاعد فنجان بدايه النهار او ربما فنجان الصلحة!! 
-صباح الخير يا دوائي علتي، ورائحة شتائي و الموطن الذي لا مثيل له، ومسكن حبي و قافيتي. 
-صباحك احلى من السكر يا سكرتي. 

قضينا نصف ساعة تقريبا في الكلام ما بين اليوم و الامس، ثم حلق بالرحيل. فدنوت انفض غبار احزاني كي اضع الأحرف على السطور و أحِدُ خاتمة بنقطتي و اخراجي. نظرت حولي، دققت في اصغر التفاصيل، التفت  الى كل شيئ بعمق، ثم قدمت نفسي للحلقة الأخيرة، ابطالها انا و من؟ انا و انا ايضا! فلن يشاركني البطولة احد. 

  انا الان بعيدة، لا ادري اين و كيف وصلت؟ فقط اعلم ان جسدي مازال في المنزل مستلقيا على الاريكة في غرفة الجلوس يحدق ما كان يحدق، ويبصر ما كان يبصر. أنا الان اقف على جبل صلب و انتظر اندماج  العواصف بنسائم الريح. أرى بإحكام و عناية تلك الاشجار الطويلة و الورود الذابلة، و لون الرماد مسيطر على كل شيئ، وانا انتظر عدو اليوم، اخر جزء من التعب و عدم الاستقرار. 

   حربي الطويلة مع" الروتين "الذي سقم بدني و شل روحي. فأنا كلما حاولت التغيير جاء يذكرني انني لا استطيع. هوحقا ماكر، مرض يتفشى في المنزل ليكسر العلاقات. شيّم الروتين امراض في قلبي فاوقف عقلي عن العمل، وابعدني عن الحب و الدنيا. بت  لا اناسب المرح ولا ارغب في الحياة، فأيامي في الغربة محدودة التصرفات. حتى اني اخاف على نفسي منه، وعلى زوجي من نفسي، بل على كل شيئ، كنت ابعد عن الدنيا بمراحل. 
  هاهي اصوات الحرب تعلوا، وروح المنافسة تغدو، فأين انت؟ أقبل بحلة جديدة، ورغم الجو المشحوب جاء مرتديا ثوب الربيع! كان مزينا بالزهور و الدونتيل، و كان يبتسم الي من يعيد ويقول:اهلا بك في ربيعي. كدت انسى الحرب! وانسى الشتاء وعواصفه، فالربيع يروقني ساركض نحو حقوله، كلا، هذا فخ! فهذا ليس الربيع. فنظرت جيدا فوجدت محتالا يريد النيل من فريسته بأي طريقة، يريد الاستيلاء على شبابها. لن يحصل هذا ما دام النبض قائم. كنت انظر اليه التهمه افكر من اين ابدء، فما وجدت نفسي الا و هي تركض و اركض حتى عزلته بكل قواي وجعلت من الروتين ذرات تلاشت وسقطت على الارض. ان قوتي قد تعبت، قد غرقت، ولكن لا بأس، وقفت ابحث عن الشمس ثم  صرخت و قلت "انا الان حرة." 


إرسال تعليق

0 تعليقات