الكاتبة التونسية "بسمة الجريبي" تكتب: أصلح للحياة ... لو استطعـت اليها سبيل!ا


طالت المسافات على وتيرة الصمت ونأت القلوب، كل تمسك بركنه وتظلّل بعذره. شمس الحب حارقة تلفح المشاعر ومطبات الطريق تتعـثر فيها الخطى فتتبعـثر الاحاسيس. كان هذا حالهم بعد سنة من لقائهم الأول، عاشا قصة حب عابرة للحدود، للثقافات وللقوانين المجتمعية. منى المرأة الشابة ذات العشرين سنة من اليمن، مضى على زواجها ست سنوات من رجل يكبرها بخمسة وعشرين سنة، أرمل متجلف لا يعرف الألف باء سوى ما حفظه عن ظهر قلب من الآيات التي لا يفقه منها سوى ما ردده مشايخ القرية على مسامعه. لحسن حظها درست منى الى سن الرابعة عشرة نهلت خلالها من الادب والتعليم ما استطاعـت اليه سبيلا مكـثفة جهودها وكأنها كانت على يقين ان هذا الحال لن يستمر طويلا سيما وهي ترى قريناتها وهن يتساقطن الواحدة تلو الاخرى في فخ الزواج المبكر ولا يستطعن ان يلوين عصا الطاعة في ايدي اولياء الامر من ذكـور العائلة. لم تخلق المرأة لتتحكم بمصيرها وما يكون لها ان تقرر متى تتزوج وبمن؛ واجبها هو طاعة الزوج واسعاده، هكذا يرددون ذكورا ونساء ذكـوريات في اليمن. أنجبت منى زهرتيـن من نبتة الصبّار تلك، ما تزال اشواكها مزروعة في جسدها كلما تأوّهت اردفها بحمرة من آثار الضّرب. العائلة لا تأبه لحالها، لولا الكتب التي تخفيها من براثن يدي زوجها الغليظة والهاتف الذي تتنفس منه لترى العالم لرمت بنفسها امام اول سيارة. فكرت منى في الانتحار مرارا وهي ترى طريق التحرر مستحيلا لعصفور في قـفص من نار. 

أنساها عالم الانترنت الفسيح ضيق عيشتها وفتح امامها نوافذ النزهة من وراء الأبواب المغلقة واعانها على التسلي عن حالها. بدأت منى تكـتب كشكل من اشكال تفريغ ما بداخلها في شكل خواطر حتى لفتت انتباه صابر، شاب بعمر الثماني والعشرين سنة متزوج ومنفصل عن زوجته، كلاهما يقيم ببيت مستقل. لم يستطع صابر ان يطلق زوجته، الفتاة الثرية ابنة الارستقراطية. عندما عاد من دراسته من امريكا كمهندس طرقات لم يكن يعرف من نساء الإسكندرية اي امرأة. انتقت له والدته الفتاة "لينا" ابنة الحسب والنسب، جميلة الوجه ممشوقة القوام. استمر تعرفه عليها زهاء السنة، مال بمشاعره نحوها ولم يجد في طباعها ما يعيب، متحضرة، أنيقة ومحبة للحياة. تزوج صابر ولينا، لم تمض أشهر قليلة على هذا الزواج حتى بدأت المشاكل تطفـو على سطح علاقـتهما. تعاني لينا من اختلال نفسي لم يتفطن اليه صابر في فترة التعارف، بل لم يكن ممكـنا التفطن إليه بتاتا حتى عاشرها. عندما أراد عرضها على طبيب نفساني اتهمته عائلتها بالتّحامل على ابنتهم. بعد سنة من مأساة زواجه تلك والشدّ والجذب قرر أخيرا ان يطلقها. بيد ان ابنة الحسب والنسب قد كتبوا لها في مؤخر الصداق ثلاث مائة ألف جنيه. حين وضعوا ذلك الرقم في عقد الصداق همّ بالاحتجاج ولكـنه أخرس الصوت الثائر بداخله وقال مبررا "وهل نحن ننوي الطلاق؟ سيبقى مجرد رقم مكتوب على ورق ..." او كما قالوا له هو رقم توزن به قيمة الزوجة ويقاس به مدى الثقة بالزوج. اليوم أضحى هذا المبلغ في حياة صابر هو الرقم الأصعب الذي لا يمكن جمعه ماديا ولا طرحه من حساباته، من أين يأتي بالمال وهو مازال في بداية حياته العملية، لا أموال لديه ولا أطيان. 

المجتمع الذي ورطه بهذا الزواج على هذا النحو قدم له أخيرا الحـل، مزيد من التوريط، ربما يصبح نسخة غير منقحة، تمحى كل آثار ما تعلمه طيلة حياته وحتى ما عايشه في امريكا من تفتح. قالت له والدته ذات مرة، وأيدها في ذلك بعض الأصدقاء، لا تتعب نفسك وتزوج بثانية وأشارت عليه بابنة خالته حسناء. امتقع وجه صابر و أحس بغصة في حلقة و مرارة تحت لسانه و شريط زواجه الأول يمر أمامه و صرخ بأعلى صوته "لا .. لا ..." .. .

بعد فترة من العزلة تطل منى من وراء الحدود من خلال الشبكة العنكبوتية ليعْـلق كل منهما بالآخر وينبض قلباهما المرهـف بالحب النابع من حلم التحرر. جلبه إليها نشيج حروفها، كانت كتاباتها تتخذ أحيانا أخرى أشكالا من التعبير الساخر فيزداد انجذابا اليها وتتحول آلامه الى ابتسامة. عشقها صابر وهو الذي لم يرها قط ولم يختبر مشاعره نحوها وجها لوجه، لكنه كان يحس انه أقوى حب عاشه. جمعت صابر ومنى مأساة متشابهة وأحلام متوقفة تنتظر قرارا بالإفراج عنها، مؤجلة الى اجل غير محدد. كان الخوف يخيم على حياة منى منذ ان بدأت صداقـتها بصابر، إذا اكـتُـشِفت حواراتها مع هذا الرفـيق سيكون نتيجتها جريمة قتل على اقل تقدير، هي لا تعبأ بالحياة ان رحلت عنها فـقـد خبرت من اساها ما يكفي لكيلا تحزن على فراقها ولكن لمن تترك البنات في مجتمع لا يقدس سوى الذكر.

عاشت منى صراعا مريرا وتمزقا بين زواج ترفضه في الدنيا والآخرة، زوج طالق من قلبها ومن عقلها، بل مجرد شبح يسد افق حياتها. في الكـفة الاخرى ابنتان في كـفالتها لا تستطيع عنهما بعدا إضافة الى شبابها الذي تريد ان توشّحه بقصة حب حقيقية لشخص يناسبها وتختاره هي، قلبها الذي هـفا لهذا القادم الذي اخترق جدران سجنها المسلحة بالقوانين والثقافات البالية فـتسربت معه خيوط الامل مخترقة الابواب المؤصدة.

عندما صارحها صابر بحبه ذات حوار رفضت رفضا قطعيا هذا التصريح، لكن قلبها كان يكذبها ويصرخ عشقا. عرض عليها صابر ان يحميها بكل ما يستطيع من قوة لتنفصل عن زوجها ريثما يجمع هو المال لسداد خطيئته. رفضت منى وهددته ان لم ينته عن هذا الامران تنقطع عن الكلام معه...

كان آخر ما كتبت ولم تعد بعد لتظهر على الشبكة ... "حين قررت الرحيل لم آخذ معي سوى نور هذا الحلم وأقباس من وجهك ... صرت اعرف الآن انني أصلح للحياة لو استطعت إليها سبيلا... "
















إرسال تعليق

0 تعليقات