«محمد الخزري» يكتب: الوريث.
#قصة
اعتدت أن أقضّي الاجازات في قريتنا، حيث اشعر بالراحة والحرية والطفولة والبراءة، ودون تخطيط مسبق تنقسم الأيام القليلة التي أحصل عليها بين زيارة الأقارب والجلوس في المقهى، وبسبب الحجر الصحي تأخرت في الحصول على إجازة إلى أن تحسنت الأوضاع نسبيا وتم تخفيف القيود ذات صيف. أخذت والدتي إلى المدينة كي تزور خالتي، وكالعادة كانت فرصة بالنسبة لي للتجوال واستعادة ذكريات الماضي، تركت السيارة بعيدا نظرا لزحمة السّير التي عمّت جميع مدن البلاد، ربما بسبب ضخامة أسطول السيّارات أو بسبب ضعف البنية التحتية، مررت عبر الجسر ثم السوق ثم السكة الحديدية، كلّ شيء يتغير بسرعة والبنايات باتت شاهقة والمقاهي في كلّ مكان وفي كلّ ركن وكلّها مزدحمة، شارع واحد بقي هادئا وحافظ على صمته وظلّ غارقا وسط غابة الاشجار التي توشح جانبيه هو الشارع المؤدي إلى المعهد الثانوي حيث درست سابقا، وطبعا لابدّ من السير على خطى لازلت ألمحها كرسم دارس على تراب ذلك الشارع الحالم الذي توجد في آخره فسحة كأنها ساحة عمومية ومن حسن الحظّ أنّها لم تتغير كثيرا ولم تغزوها محلات الفواكه الجافة او قاعات الشاي ، فقط فيها متجر على نمط المساحات التجارية الكبرى يسمّى "سوبرات" .
مع اقترابي من الساحة رأيت سيارات فخمة بلوحات أجنبية تشير إلى ان أصحابها من العاملين بالخارج تقف منظمة أمام دكّان اعرفه جيدا إنه دكّان عم لزهر الحلّاق أو "الحجام" كما نسميه بلهجتنا، فراودتني فكرة زيارته والتعلّل بالحلاقة ان سألوني عن سبب تطفلي.
العم لزهر الحلاق هو في الأصل من وسط ريفي فلاحي امتهن الحلاقة منذ زمن بعيد كهواية حيث كان يضع كرسي امام المدرسة ويحلق للتلاميذ تحت ظلّ شجرة الزيتون بالمجّان ويأخذ أجرته فيما بعد من بعض الميسورين من ذويهم ، ولمّا بلغ أبناؤه سنّ الدراسة باع أرضه ومواشيه لاخوته وخلع جلباب ابيه ليترك الفلاحة، وبعد حصوله على شهادة في الحلاقة فتح دكّانا خاصّا به ونذر حياته لمهنته الجديدة ولتعليم ابنائه، أمّا مهنته فقد كان يتقنها ويعتني جيدا بدكانه وبزبائنه كما كان يخصّص تعريفة منخفضة للتلاميذ، أما تعليم أبنائه فلم يكن يبخل بأي شيء من أجل ذلك فقد كان يتابعهم عن قرب ويعرف كلّ كبيرة وصغيرة عن دروسهم ونتائجهم لقد كان حريصا على زيارتهم في مدارسهم كلّما سنحت الفرصة، حيث يربط العلاقة مع كلّ الاطار التربوي من العامل والحارس إلى القيم والمدرّس والناظر والمدير، ليس من باب المحاباة إنما من أجل أن يكون ملمّا بكلّ التفاصيل حول سلوكهم داخل وخارج المدرسة، في ذلك الزمن في منطقتنا كان قلّة هم الأولياء الذين يعتنون بدراسة أولادهم، اذ كان أبناء العم لزهر الحلاّق دائما من الأوائل والمتفوقين في كلّ المراحل والمناظرات الوطنيّة ولم يخيبوا ظنّه الّا ولده الصّغير آخر العنقود ربّما لأنه من جيل مختلف عن اخوته ولم يعد ينفع معه أسلوب والده في تنشئة الأبناء، أو ربما لانه أنجبه في عمر متأخر ولم يكن قادرا على السيطرة عليه وتحديد مصيره، الولد غادر مقاعد الدراسة مبكرا وزاول تكوينا في الحلاقة نزولا عند رغبة والده واخوته الذين أغدقوا عليه بالهدايا، وبعد حصوله على شهادة في الحلاقة حاول في مناسبات متعددةة "الحرقة" أي الابحار خلسة نحو ايطاليا، ثم استقرّ به الحال في قاعة حلاقة فخمة في ضواحي العاصمة، لكنّه غادر بسرعة بسبب الاستغلال فالقاعة التي اشتغل بها رغم مداخيلها الضخمة لم تكن تدفع للعمّال الا الفتات، ولعلّ الجشع في القطاع الخاصّ هو سبب من أسباب تمسّك الناس بالتشغيل في الوظيفة العموميّة. الولد الصغير خاطر عدة مرات من أجل "الحرقة" أما اخوته الكبار وهم ثلاثة فقد كانت "حرقتهم" نحو أوروبا بشكل أكثر أمانا ونعومة فقد سافرو بفضل تفوقهم في الدراسة، حيث تحصلوا على أعلى المراتب في الباكالوريا واستكملوا دراستهم الجامعية بفرنسا وتخرّجوا واستقرّوا هناك وطبعا هنا لا يمكن الحديث عن العودة للبلد لاسباب يطول شرحها فلنقل إنهم بقوا هناك من أجل المال وهذا تحليل سطحي مريح، المهمّ أن فرنسا استفادت من عم لزهر الحلاق مرتين، الأولى عندما باع أبقاره وفسح المجال لألبانها كي تغزو أسواقنا والثانية عندما ثابر واجتهد في تعليم أبنائه كي يذهبوا إليها جاهزين متعلمين متفوقين زبدة ميسورة، فالأوّل مدير موارد بشرية في مجمع صناعي، والأوسط طبيب مختص في مصحّة كبرى تعالج كبار الشخصيات من إفريقيا والشرق الأوسط والأصغر وليس الصغير مدير شبكات وسلامة معلوماتية بشركة تحتكر سوق الهوائيات والخوادم الإعلامية بشمال إفريقيا.
وصلت إلى دكّان العم لزهر الحلّاق بخطى متثاقلة وحذر كبير فالوجوه الحاضرة والسيارات الفخمة والملابس والعطور المتضوعة توحي بأن الأجواء عائلية خاصّة لا تحتمل وجود أشخاص يفتقدون الأناقة وملامح الثراء، ومع ذلك تشجعت واقتحمت الدكّان، فوجدت أبناء العم لزهر يقفون بملابسهم الأنيقة ونظاراتهم الطبية الشفافة المتشابهة التي بالكاد يشع منها بعض اللمعان، بادلوني التحية والابتسامة من بعيد فقد رفعت عنهم الاجراءات الاستثنائية للكورونا والتباعد الحرج حتى يتفادوا مصافحة الأقارب والجيران وتقبيلهم وعناقهم عند عودتهم للبلد، لجأت إلى ركن حيث يجلس أصدقاء العم لزهر وهم من رواد دكانه منذ زمن بعيد يشربون قهوتهم عنده ويقرأون الجرائد والمجلات التي يحرص على اقتنائها باستمرار منذ فتح دكّانه، كان العم لزهر يتحرّك بارتباك رغم الابتسامة التي يحاول اظهارها وتوزيعها في كلّ الاتجاهات وأحفاده يرفلون حوله مرحين في ملابس باهضة الثمن وأيديهم مرصّعة بساعات الكترونية ذكية ويحملون حواسيب لوحيّة خاصّة بأحدث وأشهر ألعاب الفيديو، عندها رحلت بي الذاكرة إلى زمن بعيد حيث كان الأطفال يمرحون حفاة وألعابهم من القصب ومن لحاء أشجار الفلين. سلمت على العم لزهر وأوهمتهم أني جئت من أجل الحلاقة، رغم أني متأكد من أن الوضع لا يسمح بذلك، فتجاذبت أطراف الحديث مع الموجودين واندمجت معهم فيما كانوا يدبّرون بنهار وليس بليل.
اقتربت من الدكّان شاحنة صغيرة تشبه شاحنات نقل الاثاث في الأفلام الأمريكية، وصندوقها ملون بالكامل وعليه رمز شركة ديكور معروفة ومكتوب على جانبيه عناوين الشركة الرسمية وأرقام الهواتف والموقع الرسمي على الانترنت وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، الشركة معروفة ومقرّها بالعاصمة ومشهورة بالتبرّع بتزويق بعض المنازل مجانا في اطار ومضات اشهارية متلفزة، نزل من الشاحنة شباب يافعين في لباس عمل موحد بنفس ألوان صندوق السيارة وأنزلوا معدّاتهم واقتحموا الدكّان ومباشرة استقبلهم الابن الأكبر للعم لزهر فتحدث معهم بلباقة وطالبهم بأن يفعلوا كلّ ما في وسعهم ولا يكترثوا بالتكاليف، في الأثناء دخل ولد عم لزهر الصغير مصحوبا بأترابه في لباسهم المواكب للموضة حيث السراويل الجينز ممزقة بعناية، والقمصان ملونة والقلائد الخشنة والأساور وشعورهم المصففة في اتجاه الأعلى، نظر له العم لزهر بحنان أبوي صافي فالولد في سنّ تبعث الرّوح والشباب في أي أب مهما كان عمره.
فتح المسؤول عن شركة الديكور مطويّة ووضعها على الطاولة وطلب رأي ولد عم لزهر الصغير في الألوان والمساحات وغيرها من التفاصيل، فمن الواضح أنّ الولد سيكون الوارث لدكّان أبيه ومهنة أبيه، وبعد احتفال صغير وزعت فيه الحلويات شرع عمّال الشركة في عملهم، وأخرجوا المرايا والكراسي وألقوا بها خارجا، العمّ لزهر أوقف نوبة الابتسامات وتغيّرت ملامحه فهرع إلى صندوق صغير وأخذ يجمع فيه مقاصّه وقوارير العطر والبخّاخات المعدنية القديمة ذات المضخات المطاطية المتدلية التي كان يرش بها العطر على أقفية حرفائه بعد كلّ حلاقة، راح يرفع الصندوق بين يديه وكأنّه ينقذ أغراضه الثمينة من سيل جارف، ثم طلب من أحد العمّال أن ينزل بحذر الصور المعلّقة فوق المرايا حيث كان يعلق صورة قطيع خيول تركض بحريّة في منحدر أخضر، صورة جندي يقف بشموخ كتب في أسفلها "البحرية الوطنية" هي صورته لمّا ادى الخدمة الوطنية في صفوف جيش البحر أيام شبابه ولوحة أخرى مكتوب عليها بخط عربي جميل حكم للشاعر الهندي طاغور تقول:" يا رب! اذا أعطيتني مالا لا تأخذ سعادتي واذا أعطيتني قوة لا تأخذ عقلي واذا أعطيتني نجاحا لا تأخذ تواضعي...".
أخرج العمّ لزهر صندوقه برفق وأودعه بعناية في سيارة أحد اولاده ووقف على قارعة الطريق ولحق به أصدقائه وكأنّهم يلجؤون إليه هربا من شيء مخيف، أشرف الحفل على النهاية وارتفعت وتيرة العمل وأخرج العمّال رزمة من الجرائد والمجلّات القوا بها في سلّة المهملات، كان أبناء العمّ لزهر في قمة السعادة مفتخرين بانجازهم فالكبار كانت فرصة بالنسبة لهم لاظهار نجاحهم وابراز حبّهم لوالدهم وسعيهم لردّ الجميل، والولد الصغير فقد كان مفتخرا أمام أترابه بسيارات اخوته وبالديكور الجديد لدكان والده.
غادر الجميع بما فيهم الوريث، وبقي العمّال في الدكّان أمّا العم لزهر فبقي مع أصدقائه الذين لم يقدروا على اخفاء حزنهم وتأثرهم رغم الأجواء الاحتفالية، فقد كان دكّان العم لزهر ملاذهم الأخير بعد التقاعد، ويدركون جيدا أنّ مصيرهم الفراغ والضياع، ومهما كان وضعهم المادي أو مهنهم السابقة أو حتى أسرهم التي تبدي رغبة في العناية بهم واحترامهم بدرجات متفاوتة، لا شيء يمكنه تعويض دكان "لزهر الحجام" حيث قراءة الجريدة وسماع الراديو وتبادل أخبار الطقس والزراعة والسياسة والنقاش حول قضايا الهند والسند، أمّا العم لزهر فقد كان في وضع لا يحسد عليه فمشاعره متأرجحة بين فرحه بعودة ابنه المدلّل الذي ورث عنه مهنة لم يكن أحد يتوقع في ذلك الزمن البعيد وتلك الأرض التي يملؤها الغبار أن يتعلّم فيها احد مهنة أخرى غير رعي الأغنام وحظائر البناء، وحزنه على مغادرة عالمه الجميل وترك أصدقائه بلا مأوى تائهين وسط الطريق، المهم أنّ الولد الذي "فشل" اجتماعيا حسب القوالب التي نقيم بها الفشل والنجاح قد أفلح في أن يكون وريث والده الوحيد.
______
تونس
إرسال تعليق
0 تعليقات