«محمد الخزري» يكتب: الضحايا
غير بعيد عن المستشفى وقرب النهر المحاذي للغابة يتربّع المصبّ البلدي المرخّص له من قبل الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات "أنجاد ANGED" ، من الناحية القانونية الأمور تسير على ما يرام، وطبعا عاداتنا الاستهلاكيّة العصريّة جعلتنا منبعا للنفايات بمختلف أنواعها، وبالتالي لابدّ من مصبّ لاحتوائها و مع ذلك يظلّ التساؤل قائما، أين ومتى وكيف ولماذا؟؟؟؟.
اقتحمت المصبّ سيارة قرمزية فخمة بالكاد يمكن رؤيتها لولا لمعانها وسط سحابات الدخان الكثيفة ،إذ لا أحد في تونس يعرف مبرّرا واحدا لإشعال النار في كامل مصبّات النفايات في البلاد، والغبار المتناثر من شاحنات نقل ركام البناء التي تأبى إلّا أن تفرغ شحنتها قرب اللافتة التي كتب عليها "ممنوع وضع فواضل البناء"، ثم توقفت في مكان آمن ونزل منها رجل أنيق بطريقة هوليوديّة مثيرة وهرعت خلفه ابنته ممسكة بتلابيبه وراحت تتوسّل وتحاول منعه من الحركة، دفعها بيد وفتح باب السيارة باليد الأخرى وأخرج كلبا من نوع "كانيش" مغمورا بفروه ناصع البياض، ثم غادرت السيارة بمن فيها مسرعة وألقى عليها الكلب نظرة وداع حزينة وبقي يجرّ أذيال الخيبة ومغلولا بقيد جلدي وسلسلة معدنية صغيرة مناسبة لحجمه، أو ربما مناسبة لأنامل الفتاة الثرية التي كانت تتنزه معه عبر الكورنيش.
بعد زمن من الدهشة والذهول والصدمة غادر الكلب مكانه محاولا البحث عن مخرج من المصبّ وراح يتدحرج ككومة صوف حيث لا يمكن تمييزه عن الأكياس البلاستيكية التي تتلاعب بها الرياح في كل الاتجاهات، فكادت تنسفه شاحنة نفايات تحت عجلاتها لولا قفزة رشيقة منه أوقعته في بركة ماء آسنة أحالت لونه من الأبيض إلى البنّي ثم انتفض محاولا تجفيف فروه إلى أن مرّت جرافة أخرى تدفع أمامها أطنانا من الرّكام فتغير لونه إلى الرّمادي. بعد رحلة مضنية انتهى به المطاف على الضفة الأخرى من المصبّ على حاشية الغابة حيث المسلك المؤدّي إلى المستشفى وما ان اقترب من الشجرة بحثا عن الظلّ حتى علقت السلسلة التي يجرّها بقارورة غاز فارغة من بقايا القوارير المستعملة في شحن المكيفات، حاول يائسا التخلّص منها ثمّ استسلم للنوم بعد نوبة من العواء والأنين.
بعد قيلولة مليئة بالكوابيس أفاق الكلب جائعا ضمآنا وحزينا، فكّر مرّة أخرى في التخلّص من القيد لكن دون جدوى بل انغرزت في قدمه ابرة حقن من بقايا نفايات المستشفى التي يلقيها عمّال التنظيف أحيانا في المصبّ، فازداد ألمه ونحيبه، وبينما هو في حالته المؤلمة تلك، مرّ "المنقذ" فهبّ لنجدته، حيث سحب من حقيبته أدوات طبية نزع بها الابرة من ساق الكلب وعالج جروحه ثمّ خلّصه من القيد وحمله بين ذراعيه وشقّ به المصبّ متجها إلى وسط الغابة. "المنقذ" هو إنسان يدير مشروع فلاحي وإقامة ريفية لهواة الطبيعة بجوار المصبّ وناشط بيئي بحكم تكوينه العلمي فهو قد تخرج من كلّية العلوم بتونس في اختصاص علوم الحياة والأرض عام 2005 ولمّا يئس آنذاك من الحصول على فرصة عمل دون واسطة أو رشوة "كاباس" سافر إلى السنغال وواصل دراساته العليا في المجال البيئي في جامعة الشيخ انتا ديوب بداكار، وبعد سنوات من العمل بالخارج رجع للبلد لفتح مشروعه الخاصّ ومواصلة نشاطاته البيئية.
وصل "المنقذ" وبين أحضانه الكلب الجريح إلى فسحة وسط الغابة في طرف المصبّ بعيدا عن الدخان والغبار، وضعه برفق على الأرض ثم راح يعالج كلابا آخرين، المكان بات عبارة عن مستشفى ميداني لعلاج الحيوانات البرية والأهلية والمتشردة الّتي تتعرّض لإصابات وحوادث أثناء دخولها للمصبّ بحثا عن بقايا الطعام وسط النفايات، أو عند مرورها بصفة عفوية إلى مكان آخر، شعر الكلب بالأمان وجلس على قطعة خفاف وراح يحرّك ذيله بمرح ويجول بوجهه الطفولي ونظراته البريئة في أرجاء الغابة محاولا تجاهل الجوع الذي يداعب أحشاءه. في وقت وجيز تفرّغ له "المنقذ" وقدّم له طعاما يسدّ به رمقه وماءً يطفئ عطشه، وفي الأثناء اقتحم المكان مجموعة من الشباب من هواة الرحلات الجبلية والتخييم حيث نالت إعجابهم الفكرة وتطوعوا لمساعدة "المنقذ" حيث اتّصل أحدهم بجمعية بياطرة ووصف لهم الكلب فطلبوا منه أن يأخذه إليهم.
قضى الكلب أمسية ممتعة ومثيرة مع "المنقذ" وأصدقائه رأى فيها عدة عمليات إنقاذ لضحايا مصبّ النفايات، طائر مهاجر علقت أجنحته بعجلة مطاطية من بقايا حطام لعبة أطفال، بقرة جبلية تورّمت ساقها وانتفخت لمّا داست بالخطأ على علبة مربّى فارغة، سلحفاة عالقة داخل خزان تسخين مياه بيوت الاستحمام من مخلفات نفايات النزل، هذا إضافة إلى إصابات وجروح مختلفة أخرى، وفي اليوم الموالي أخذه الشاب الى ملجأ للكلاب المتشردة بضواحي العاصمة أين حضي بالرعاية والعلاج والأمان بقية عمره.
إرسال تعليق
0 تعليقات