«وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي!» قصة قصيرة للكاتبة السعودية: أمل الحربي

 


كنتُ اجلس بالقرب من أمي وعيني مثبته على الشاشة الموجودة إلى جانب سريرها ، وميض الشاشة السوداء بدأ يتباطأ (طــــــــــــــوط)، تجمدت الدماء بعروقي ، شُعرت بجفاف بفمي وكأني ابتعلت قطعة من الصوف، بسرعة ضربتُ الجرس على لممرضة المناوبة ، ودموعي الساخنة تحرق وجنتي .

(أمي، لا أُريد منك إلا كلمة واحدة) .

رفعت لي رأسها بكل ما استطاعت من قوة وهي ترمقني بنفس النظرة الحادة التي اعتدت عليها منذ ثلاثين سنة ،بكل ثقل رفعت يدها التي يخترقها سلك المغذي ،و بصوت بالكاد سمعته التفت نحوي وهي تضع أصبعها على شفتيها الجافة وقالت : ( اسكتي لا، أحد يسمعك ).

أمي أرجوك ردي علي .

حينها دخلت الممرضة مسرعة وطلبت مني الخروج ، اقتربتُ من أمي أضمها إلى صدري .

لكنها اغمضت عينها ، تحسستُ يديها كانتا مرتختين ، وقدميها باردتين ، وحتى أنفساها أخذت تتلاشى تدرجياً

( يمة... يمة ...كلميني ) .

اقتربت مني الممرضة وهمست : فضلاً يمكنك مغادرة الغرفة.

 ( أمسكتُ يديها متوسله )الله يخليك خليني معها بس دقيقة .

( افلت يدي )وهي تقول :أمك تعبانة كثير لازم ترتاح .

وقفت في الخارج امتثالاً لطلبها بعد دقيقة خرجت الممرضة وعلى وجهها تترسم علامات الأسى وهي تقول:

 أسفة يا مدام أمك ...أمك، عظم الله أجرك.

عجزتُ عن الصراخ وكأن يد امتدت من الخلف و كممتُ فمي ، توقفتُ عن الحركة وكأن قدمي شدتا بحبل ، نظرتُ إلى وجه الممرضة مرة أخرى ربتت على كتفي وهي تردد رحمها الله ثم مضت .

وقفتُ في ذلك الممر الطويل وكأنه الشارع الذي سرت به يوماً للمجهول وعدتُ أحمل خيبة الثلاثين سنه . 

ثلاثون عاماً وأنا أغرق في التيه ، مُترنحة في وحل الشك ، اتهاوى بين الحقيقة والوهم . 

كانت كل سنوات عمري تمر من خلال سنوات عمري السته حينها كنتُ في الصف الأول الابتدائي الطفلة الوحيدة لأبوي هدية الأقدار لهما بعد انتظار عشر سنوات ، فكانت فرحتهما بي بحجم كواكب الكون مجتمعه . 

كانت أمي تدخر كل ما يعطيها إياه أبي لتنفقها علي ، كانت خزانه ملابسي تغص بالفساتين الزاهية والتي تشبه فساتين الأميرات في الروايات .

ذات الشيء كان يفعل أبي فكان يحمل معه القصص ،وأقلام الرسم ،والتلوين عند عودته للمنزل نهاية اليوم .

لم ينتبه أبي حينها أن شخصيات قصصه غافلته وخرجت دون أن يشعر بها وسكنت في غرفتي للأبد ، وأن الذئب كان يتظاهر بالموت ومازال ينهشني في أنيابه دون أن يراه ، ومازالت الجميلة سجينة الوحش وكل محاولاتها بالإفلات باءت بالفشل ،وسندريلا عادت لقصرها بعد أن فقدت الأمل بالحذاء .

كنتُ أجد سعادتي مع ( عائشة بنت جيرانا ) والتي تكبرني في عامين ،وتدرس في الصف الثالث الابتدائي كنتُ انتظر مجيئها بفارغ الصبر بعد أن تفرغ من حل الواجبات لندخل في (كهف العجائب) كما سمته عائشة ، ونمضي وقتنا باللعب ، وأحاديث طفولية لا تخرج عن سور المدرسة وتفاصيل يومنا الدراسي البسيط في الغالب .

لا يفسد سعادتنا إلا رنين جرس الباب حين يأتِ( أحمد) أخو( عائشة) ليصحبها للمنزل .

وقبل أن تخرج تُعيد جملتها المعهودة، وهي تلوح بيدها ( بكرا بجي بيتكم ).

لم تكن أمي تسمح لي بالذهاب لأي بيت إلا في رفقتها حتي بيوت خالاتي، لذا (عائشة )كانت هي دائما من يأتي لمنزلنا رفضت أمي كل محاولاتي في زيارتها معلله ذلك بصغر حجم منزلها المحشور بالبشر . 

كنتُ أكره الأيام التي تذهب فيها عائشة مع أسرتها للقرية لزيارة جدتها ، حيث يتملكني الملل والفراغ ، وانفجر بالصراخ على أمي لماذا لا يكون عندي أخوة العب معهم مثل عائشة ؟

تعودت أن تأتي عائشة لتلعب معي بعد صلاة المغرب حيث تجُهز لنا أمي في ( كهف العجائب ) العصير ،والفطائر ،والبسكويت 

(أمي اليوم عائشة بتجي ونلعب في الكهف ) .

جات من القرية .

ايه شفتها اليوم بالمدرسة .

اصابني الانتظار بالضجر لذا عدت متذمرة لأمي .

يمه تأخرت عائشة .

أمي ( متذمرة ) أف منك من بنية .

طيب بفتح الباب وبجلس عند العتبة انتظرها .

رغم انهماك أمي في غسل الملابس، وإعداد طعام العشاء إلا أنها التفت نحوي وهي تقول :

وين فيه ؟

عند الباب بس والله العظيم ما اتحرك .

كنتُ اعرف نقطة ضعف أمي التي تكره إعادة الكلام أكثر من مرة على مسامعها لذا واصلتُ الإلحاح عليها كانت هذه طريقتي في الوصول لما أُريد 

كنتُ سعيدة بأمر الافراج التي منحتني إياها أمي اسرعت (لكهف العجائب) ، وأخذت دميتي ذات الشعر الأشقر ،والعينين الخضراوين وجلسنا نتخيل ردة فعل عائشة عند رؤيتنا بعد غياب الأسبوع .

بدأ الظلام بالهبوط التدريجي على الأرض واخذت الشمس تلملم بقايا خيوطها من خلف الأفق ، أصحاب المحلات يهمون في إغلاقها استعداداً للصلاة بدأت حركة المارة تتوقف في الشارع ، كان الملل قد بلغ مني مبلغة ، وعيني المحلقة على نهاية الشارع بدأ يداعبها النعاس ، مع مرور أصبح الشارع خالياً من المارة سوى خيال قادم من بعيد .

حين اقترب أكثر اتضحت معالمة كان رجل متوسط القامة يلبس إزار بخطوط زرقاء يستر فيه الجزء الأسفل من جسده، عاري الصدر ذا بشرة سمراء وعينين حمراوين ،كان يبدو من شكله أنه أحد العمال الأسيويين والذين يعملون في البناء ، أو البيع في الدكاكين الموجودة في الحارة .

كانت عيونه تتسع أكثر كلما أقترب ، وكان عينيه سدت كل وجه ، أنفاسه تصعد وتهبط ، خطواته سريعة وكأنه يطير على الأرض ، لم تمض ثواني حتى وجدتُ نفسي أمام رجل متجهم الملامح ، رغم ذلك أفرج عن ابتسامة خفيفة وهو يقول بعربية ركيكة تشبه العربية التي يتحدث فيها العمالة الآسيوية في الخليج :

من أنت ؟

هدى .

ليه أنت يجلس هنا ما فيه داخل بيت ؟.

(أطرقت رأسي للأرض) وأنا أقول :انتظر صديقتي عائشة .

رد بسرعة البنت اللي واقف هناك .

بلهفة ردت :عائشة واقفه هناك .

ايه فيه بنت صغير واقف هناك أنا فيه شوف ( وأشار بيده ) لنهاية الشارع .

في هذه اللحظة اجتمعت داخلي أطنان البلاهة ممزوجة بالعجلة ومدفوعة باللهفة دفعة واحدة حتى قفزتُ لمنتصف الشارع أُسرع الخطى والعامل يسير معي جنب إلى جنب . 

التف نحوي وأمسك يدي التي انصهرت في حرارة يده ، وما لبثت أن اشتعل كل جسدي بالحرارة ، العرق يتصبب من كل المنافذ في جسدي ،دقات قلبي تؤشك أن تشق صدري ، الخوف يزلزل كل جزء مني ، حاولتُ أن أفلت يدي لكنها قبض عليها بشدة فزادت الحرارة داخلي ، أقدامي لم تستطيع أن تحملني وقعت على الأرض توقف وحملني بين ذراعيه ، وواصل السير ، حتى وصلنا لتلك البناية المهجورة ،والتي كنا نمر عليها في طريقنا لحديقة الحيوانات في عطلة نهاية الأسبوع .

كان الظلام يملأ المكان ، والرائحة النته لجيف مُتعفنة تنشر فيه ، الفئران تدخل وتخرج من الحفر المنتشرة هنا وهناك ، وبقايا أطعمة ملقاة على الأرض .

انزلني من بين ذراعيه حاولت الإفلات لكنه جذبني من الخلف ،وضع يده على فمي، واليد الأخرى أحاط فيه خصري ثم القى بي على الأرض، حينها أقترب مني ورمى بقطعة القماش ذات الخطوط الزرقاء التي كان يلف بها نصف جسده على الأرض واغمضتُ عيني حينها .....

استفقت بعد أن فقدت الوعي لبعض الوقت كنتُ لازال مستلقيه على الأرض في تلك البناية المهجورة كان جسمي يئن من الوجع ، وجسدي يرتعش ، وعيني لا تستقر على مكان ، وليس للعامل الآسيوي أي أثر .

استبد بي الرعب عندما سماع صوت عواء الكلب يقترب من البناية ، وحركة الفئران التي تقفز حول رأسي ، وصوت صرصار الليل الذي ملاء المكان ، و الأكثر رعباً كان الدم الذي يسيل على فخذي .

لا اعلم كم مضى من الوقت وأنا على هذي الحال! ولا كيف عدتُ للمنزل! وكل ما جاء بعد ذلك هو استكمال لسلسلة لا اعلم التي بدأت أحداثها من تلك اللحظة !

لم يتكن الصعوبة في الكوابيس التي تنتظرني حين اغمض عيني لتشاركني سريري، ولا في تفاصيل تلك الليلة الحزينة التي كنتُ ارويها لأمي وأنا مغمضة العينين ، ولا في الألآم التي تنحر جسدي من أعلاه لأسفله .

كانت الكارثة الحقيقة في ردة فعل أمي بعد ذلك ،فمنذ تلك الحادثة وأمي تحاول إقناعي بإن ما حدث مجرد كابوس بغيض أنتهى بمجرد أن استيقظت من النوم ، ولن يتكرر مرة أخرى ، يجب أن أنساه ولا أعود للكلام فيه مهما حدث ،كان الموضوع يفزع أمي أكثر منى ، وتثور ثائرتها عندما أصر على الحديث وتضع يدها على فمي وهي تصرخ (أخرسي ).

ألهذا الحد كانت أمي تخاف علي من الحقيقة !

مع الوقت استحوذ على الصمت ،وعاهدت نفسي الا افتح الموضوع إلا معها (أي نفسي فقط )،واعتدت الألم حتى لم أعد أشعر به .

أخرستُ تلك الحروب التي تجري داخلي ، عقلي المتُيقن ، ثقتي المتأرجحة ،كابوس أمي ، شتات نفسي .

واكملت المسرحية الحزينة بدموع ضاحكة ، وارتديتُ القناع المبتسم لأبكي داخله ، واتشحت ُ بالبياض وأنا ممرغة في الوحل .

فهمتك يا أمي ومن ذلك اليوم خرست للأبد .

أمي في ليلتي الموحلة بملوحة الدموع، والتي أعلنت دقات الساعة موعد فراقك، 

كنتُ أُريد أن اسمع الحقيقة منك ، رغم يقيني بها ، ويقينك أنتِ بها مثلي ، كنتِ تخافين علي من الصدمة ، وكنتُ أخاف عليك من الحقيقة ، استحوذ علي الصمت ،واستحوذ عليك الخوف ،أرهقني اليقين ، وأرهقك الشتات . 

في تلك الساعات التي انتهت رحلة الشك واليقين ، أُريد أن يَطْمَئِنَّ قَلْبِي، هي حاجة في نفسي كحاجة نبي الله إبراهيم عندما قال : ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ا⁠هِـۧمُ رَبِّ أَرِنِی كَیۡفَ تُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّیَطۡمَىِٕنَّ قَلۡبِیۖ ࣱ﴾ البقرة ٢٦٠ 

....

رحمك الله يا أمي

بقلم الكاتبة 

أمل الحربي ..





إرسال تعليق

0 تعليقات