«أميرة أحمد عبدالعزيز» تكتب: الخطيئة!


        إنه منتصف اليوم الدراسي حين كانت  نورا تلتصق بالنافذة واضعة يديها أسفل ذقنها، سانده كوعها على الطاولة  أمامها، تنقل عينيها بين  الزملاء والمدرسة حينا وتنظرإلى فناء المدرسة تشرد بفكرها حينا، وفي الحالتين هو أمر واحد يشغل بالها، تلك القصة التى تنهيها مدرسة اللغة الانجليزية اليوم وهي الخاصة بمنهج الصف الأول الثانوي والتى شغلت بالها طوال فترة دراستها حتى انتهت اليوم، وقد حاولت نورا  أن تسرع من قرائتها ولكن مع كل محاولتها لترجمتها  بنفسها وبمساعدة القاموس ظل لديها ما ينقص فهمه، وحتى الوقت التى أنهت فيه المدرسة القصة كانت آملة أن تجد أجوبة لأسئلتها وتجد نهاية تراها عادلة، إلا أن الوضع لم ينتهى لما  تراءى لها.

        وملخص القصة عن راهب عاش حتى منتصف العمر طاهر لم يمس امرأة ولم تلحقه أية خطيئة وكان مثال العفة والشرف في البلدة، ذلك حين قررت إغوائه غانية، وما إن انكشف الأمر بتدبير  الغانية التى كان مبتغاها أن تسقط جلالة الراهب عند الجمع وتثبت أنه ذو فضيلة زائفة لكى تساويه بالآخرين الذين يسقطون وتثبت أن لا أحد  مبرىء من الخطيئة والسقوط فيها. وباكتشاف الأمر اختفى الراهب وتم القبض على الغانية، التى تعاملوا معها باعتبارها من بنات سالم التى سحرت راهب طاهر لتوقعه دون أنفه في الخطيئة ولذا جرموها ووضعوا لها عقاب مماثل فأحروقها، أما الراهب المختفى فقد ذرفت  القرية  دموعا عليه وقيل في خبر اختفائه الكثير، فقيل أنه  قرر أن يبتعد عن الجميع ليسكن وحده يتضرع بطلب المغفرة من الله أو أنه قتل نفسه التى لم تتحمل الخطيئة، أو قد ترهب في مكان آخر، وأصبح مع الوقت قديس وضحية الغواية في نظر الجميع.

        وكانت نورا طيلت الحصة تتطلع في نظر المدرسة والبنات والأولاد وتشهد تأثرهم بحال الراهب  الشهيد، وقد ترقرقت عين عدة فتيات بالدموع وقت تحدثت معلمتهم عن جهل مصير الراهب وعدم معرفة ما آل إليه المسكين التى لم تكتفى الغانية بإغوائه بل فضحته أمام من يحترموه لتسلبه ماضيه الشريف وتقتل روحه الطيبة، أما حين كان يأتى الحديث عن التنكيل بالغانية وحرقها كانت تبدو على وجوه الجميع بشاشة وفرحة بالنصر وبعدالة العقوبة، أما نورا فكانت تجد ان ما حل بالغانية هو أمر ظالم، فهم لم يقتلوها لأنها غانية بل لأنها أغوت راهب، ولكن أما لهذا الراهب إرادة حرة يمتلكها؟! ومن قال أنها من أغوته! فالقصة لا تتصدر للتفاصيل الدقيقة.

 وتتذكر نورا حين كانت  أمها تذهب لتقضي حاجات  مع أبنة عمها  وتتركها حتى عودتهما  مع زوج  أبنة عمها،  وكانت نورا لم تكمل الثانية عشر من عمرها، حين حاول هذا الرجل الفظ   أن يتحرش بها لولا أنها تداركت الأمر وقررت أن تخرج لتنتظر أمها بمدخل البناية،  ولما أخبرت  أمها عنفتها وقالت أن لابد أن طريقتها هى ما  جعلته يتصرف هكذا، ولم تتحدث الأم مع أبنة عمها في الأمر واكتفت أن قصرت الزيارة عنها، ولم تعترف الأم بخطأها بترك نورا مع هذا الرجل الغريب بل حاولت التحرر من ثقل خطأها  برفع التهمة عن المجرم الحقيقى وإلصاق الذنب برقبة نورا، ولم تعلم نورا ما قد تكون فعلته فتاة مثلها وفي عمرها، يبرر جريمة هذا الرجل؟!  ولكن تعلمت من حينها إنها ما أن تعرضت في الطريق لمضايقة أو تحرش وحتى إن لم تستطع تدارك الأمر فلن تخبر أمها، والآن هي تفكر، أليس من الممكن أن يكون هذا الراهب هو من بدأ بإغواء الغانية وأن قدومها لم يكن سوي للاستتابة.

       ضرب جرس الحصة فأغلقت الكتاب ونزلت إلى الفناء هى  وأسئلتها  العالقة معها، وحين كانت تمشي بجوار زميلتها رقية التى كانت تذرف الدموع بالفصل بجوارها على الراهب والآن هي منشغلة بالتهام فطورها عن أمر الراهب والغانية، في حين أرهق الأمر ذهن نورا مما أنساها أن تأخذ وجبتها ،  فذهبت مع رقية لشراء  بعض الحلوى من داخل المدرسة.  

وعند المكان المخصص للشراء  تقابلت  نورا وزميلتها رقية بأخت رقية وأصدقائها من طلبة الصف الثالث الثانوى،  وفي الوقت التى كانت تقف منتظرة دور للشراء، فتح حديث عن القصة حين وصفت رقية لأختها وأصدقائها  كيف  لم تستطع إيقاف دموعها مما جعل نورا تشعر بالتملل أكثر، حتى قالت هدى صديقة أخت رقية: آه، القصة دى على فكرة احنا درسناها مختصرة، هى اكبر من كده.

      فتنبهت نورا فجأة وقالت: فعلا، طيب فين القصة الكاملة؟

     هدى: انا مقرتهاش بس أختي الكبيرة غاوية قراية وفاكرة انها كانت عندها،  وكانت مترجمة كمان.

    وقد طلبت نورا بتهلف من الفتاة إن استطاعت أن تجلب لها القصة من أختها إن وجدتها مازلت عندها، وتأملت في الأمر رغم أن الفتاة لم تعدها بأنها ستجدها.


        وبعد نهاية اليوم الدراسى وفي طريق العودة ، تفرقت عن صديقتها في منتصف الطريق وظلت تمشي في الشارع وهي شاردة متفكرة  شاغلة عن كل شيء حتى عن موضع قدمها، وإذا بسيارة تأتى مسرعة للغاية  لتجدها  نورا أمامها فجأة وسط الشارع حتى كانت ستدهسها، حين قفزت نورا على  الرصيف لا تستوعب ماذا حل بها وتتعجب كيف لم تلقي حتفها، وحين كانت تلتقط أنفاسها اجتمع  الناس حولها فيما كانت السيارة قد أختفت، وذلك ليلقوا عليها بعد أن تأكدوا من سلامتها، كلمات العبر والمواعظ وضرورة الاحتراس، وهي تنظر إليهم  تبدو كفاقدة الوعي إلا أنها بمجرد استعادة رشدها وتأكدت من أنها مازلت حية، وبعد انصراف الجمع، أخذت تفكر وتتعجب من أمر هؤلاء، تأتى سيارة مسرعة للغاية بسرعة لا تناسب الطريق، كانت ستدهسها وقد أكمل السائق طريقة دون أن يهتم بما حدث لها، ورغم ذلك لم يأتى الناس بجملة ولا كلمة تخص السيارة والسائق وقد ألقوا اللوم كله عليها،  وظلت تسير على الرصيف  آخذة  جانب الحائط  حين وجدت  أمامها مكتبة لبيع الكتب فأملت وقررت الدخول لتسأل عن القصة وحين دخلت ووجدت الرواية مترجمة بالمكتبة سعدت وقررت شرائها بمبلغ من ضمن مبلغ كان بحوزتها تستعد لشراء به هدية عيد الأم.

     وبعد أن وصلت لمنزلها  أبدلت ملابسها وقامت للغذاء وكانت تتسرع فيه لتقوم وتلتقي الحقيقة، قامت ودخلت حجرتها وأغلقت بابها ومكثت لمتأخر الليل تقرأ الرواية حتى أتت الفقرة جعلتها تقفز مهللة سعيدة وتقول: أنا صح، أنا صح، لقيتها، بكرة الصبح هقول للمدرسة وللطلبة الحقيقة، العمى ميعرفوش الحقيقة، أنا ذكية، أنا بحثت........ 

   وفي اليوم التالي  بمجرد  دخول المعلمة وتأدية التحية استأذت نورا المدرسة والفرحة تملأ وجهها المنتصر فأعطتها مدرستها الإذن بالتكلم لتبدأ حديثها في البدء بتريب: إمبارح يا ميس انتهت  القصة، وواضح إنها كانت نهاية مرضية للجميع بحرق الغانية.

فأشارت المعلمة بالموافقة وكذلك الطلاب فأكملت نورا: بس أنا جبت إمبارح أصل القصة مترجمة طبعا عشان أفهمها كويس وقرتها كلها أما عرفت أن القصة اللي بناخدها ملخص. 

فأشارت المدرسة بصحة القول برأسها، وبعيناها استفسار (ماذا بعد أو إلى أين تريدين الوصول بنا؟!).

ثم بدأت نور تأخذ نفسا عميقا لتكمل بثبات هيئة المدعى العام وفحوى محامى المتهم،  وهي تعلن ملابسات الحكم لتنقضه، ورغم ثباتها إلا أن دقات قلبها بدأت تتسارع حيث أنها ستفأجا الجميع برأى مغاير وحساس لا تعلم ردة فعلهم نحوه حين قالت: الحقيقة يا ميس إن الغانية فعلا قررت إنها تغوى الراهب

المدرسة بابتسامة تعجب:  بالضبط، مده اللى احنا درسناه.

فأكملت  نورا ومازلت دقات قلبها تتسارع: أيوة يا ميس، بس في سبب، خلاها تعمل كده.

وحين انتبه الطلاب بتشوق منتظرين الاكتشاف، قالت المدرسة التى ازداد تعجبها: إيه السبب والتفسير لجريمة زى دى يا نورا! إنتي هتبرري الخطيئة؟

فقالت نورا وبدأت تشعر بالندية للمعلمة: متنسيش يا ميس، إن القصة فيها تبرير لخطيئة الراهب اللي بقى قديس رغم خطيئته.

المدرسة: عايزة تقولي إيه؟ كملى

ولما لاحظت نورا انتباه معلمتها لها واهتمامها بما تقول أعطاها هذا  ثقة خفت من ضربات قلبها وقالت: المختصر اللى بندرسه مفهوش وصف للراهب كأن الرهبنة شكل في حد ذاته 

المدرسة: ولا فيه وصف للغانية يا نورا؟

نورا بسخرية: آه فعلا، باعتبار برده إن ليها شكل بالضرورة ونموذج محفوظ، بس الرواية بتوصف الاتنين بدقة، وفيها الغانية مكنتش شديدة الجمال، دى كمان كانت بها بدانة ووشها به نمش كتير، ومكنتش نموذج مارلين مونرو، والراهب كان دميم وده سببه دخوله سلك الرهبنة عشان يخفي بالفضيلة شعوره بالنقص في شكله. 

بدا إعجاب المعلمة بتلميذتها وطريقتها رغم عدم إعجابها بفحوى الكلام، وقالت بابتسامة: وده مكتوب في القصة، ولا وجهة نظرك يا نورا؟

فاشتد ظهر نورا وقد اختفت الرهبة وخفتت ضربات القلب نهائيا، وقالت: لا يا ميس، ده واضح في الرواية، الراهب من دمامته في صغره كان الناس بتنفر منه، بس بسبب بعده عن الناس خد طريق العلم وبالذات العلم الدينى وبقي ده طريقه للعزلة عن الناس والرهبانية اللي أعطته هالة وقدسية عند الناس خلت وجه اللى كان بينفر منه الناس محل إجلال ونور بس بسبب الفضيلة، وهو كان عارف ده وعارف إن  بدون الفضيلة مش هيكون مقبول والناس هتنفر منه تاني، وهذه  الخدعة اللي فهمتها الغانية وقررت تدخل المغامرة عشان تثبت للناس أنه صاحب فضيلة زائفة وسهلة ومش حقيقية. 

ولم تعلم نورا بعد ذلك من أين أتتها تلك الجرأة أمام زملائها والمعلمة  ولكن طاقة الزهو وتقمصها لدور المرافع والمدافع عن الحقيقة، فكأنها كانت تدافع عن فكرة تمتلكها وليس عن الغانية مما أعطاها  قوة فاستطردت في القول: والغانية عشان كده مدخلتش من باب  أنه راهب والنور اللي بيطل من عينه، لأ، من باب أنه راجل جذاب، والفكرة دى هي اللي خلته يرتكب الخطيئة، أنه حس أنه راجل جذاب مش راهب جذاب، هو كان منتظر وبيتمنى يكون كده وعشان كده سقط بسهولة.... والحقيقة إن الغانية معملتش غير إنها كشفته على حقيقته وأظهرت زيفه، وأهل القرية مفهوش ده. حتى أمر إختفائه، ممكن جدا بعد مجرب الخطيئة وشعر بأنه رجل ممكن تقع إمراة في حبه يكون غير طريقه، واللى هما صنعوا منه قديس واحتملوا موته في طريقه الى الله، يكون كان في وقتها على   طريق الشيطان. 

ثم حين انتهت حل السكون والصمت في الفصل ونظرات عجزت عن تفسيرها  جعلتها ترتبك، فهل اقتنعوا وسوف يسفقوا لها؟ اما سيسبونها وقد يتمنوا  حرقها  كالغانية؟ وهل بهذا قد وضعت نفسها كفتاة موضع شبهة وسوء فهم؟ 

   في ذلك الوقت أخذت المعلمة تجىء الفصل ذهابا وأيابا تفكر وهى تنظر للطلبة حينا ولنورا حينا ثم اقتربت من النافذة تطل على الفناء لحوالي دقيقة، ثم التفتت للطلاب وهى تنظر لنورا  وقالت: إنت يانورا عايزة تقولى إن الغانية لم ترتكب جرم  وقت رأت إن في شخص واخد طريق الفضيلة عشان طريق الخطيئة مش ممهد له، لكن لو مهد له هياخد طريق الخطيئة وبالتالي ففضيلته مزيفة، صح كده؟

ترددت نورا ولكنها هزت رأسها بالموافقة، لتتابع المعلمة: ماشي كلام منطقي، بس فيه حاجة، احنا مش مهمتنا اختبار الناس بوضعهم في جو يخليهم يرتكبوا الخطيئة والجريمة، بل الصحيح ان احنا نعمل على منعها،  وقطع الطريق عليها، حتى لو كان الراهب واخد الفضيلة طريق لأنه  مش أمامه غيرها فده مش معناه ان اقرر بقصد  إغوائه عشان اختبره، احنا مش ربنا يا نورا،  وده اسمه مساعدة على ارتكاب جريمة بتهيأة ظروف لم تكن ستحدث لولا أن هيأت لها، وكده تبقي الغانية المتهم الأول. 

ثم وهي تنظر لبقية الطلبة: وعايزة ألفت نظرك ونظركم يا شباب  لحاجة كمان، الراهب في تاريخه لما شعر بدمامته اتخذ الرهبانية طريق للفضيلة، زي ما بتقوللي يا نورا كفضيلة سهلة،  بس كان ممكن برده يستخدم الإلحاد كطريقة سهلة ويكون شاعر هجائي لكل المقدسات ويكتب الكوميديا الإلهية، أو رسالة الغفران زى المعري، وياخد شهرة قوية رغم إعاقته  ونقصه،  أو تكون سبب لمهاجمة المجتمع والعدوانية ضده ويبقي حرامى أو قاطع طريق. خطيئة الراهب واحدة تمثل سقطته.

ثم نظرت لنورا وأكملت:  والواضح إن مبالغة أهل القرية بوضعه موضع قديس، استفزك يا نورا، وطبعا عندك حق في ده.

فابتسمت نورا للمعلمة حين  شعرت إنها تفهمت موقفها وأكملت المعلمة:  بس ده مش معناه أن لما  نستفز من تبرير خطأ أو نستفز من جهل،  فنقرر نبرر خطأ أكبر،  خطيئة الغانية أكبر يا نورا، هى مهدت الطريق لجريمة وخطيئة وصنعت لها الجو والظروف وفقدت المجتمع رجل شريف عشان تثبت إن الخطيئة أمر عادى بل أكثر من عادى، هو الطبيعى، وإن ما سواه غير طبيعى ولابد أن يكون له علة غير إرادية.

بمجرد إنتهاء المعلمة من خطابها صفق التلاميذ وطلبت  المعلمة من نورا الجلوس لتبدأ الدرس الجديد الذي أخذ كثيرا من وقته بهذه المناقشة.

 أما نورا فقد أصبحت منشغلة أكثر بموضوع الرواية  ليس لتبرئة الغانية وتجريم الراهب كما كانت في البداية، بل شغلها ما هو  أعمق واكثر ايمعانا من الجريمة أو الخطيئة التى حدثت.  وقد قررت قراءة الرواية مرة أخرى ولكن بتمعن دون أخذ موقف سابق، ودون الارتكاز على شخصية محددة بها والتركيز عليها، بل على الرواية كوحدة واحدة. 


إرسال تعليق

1 تعليقات