الأديبة التونسية «سحر النصراوي» تكتب: خُرافة!




في قديم الزّمان ..

و سالف العصر و الأوان ..

كانَ للمُلوك صولةٌ , يُشارُ لها بالبنان .

و كانَ للحُكماء , جولةٌ و دولةٌ , شارفت أن تُلامسَ للسّماء عنان .

و كانَ المُلوكُ ينتصرونَ بفضل مشورة الحُكماء ..

و على الحُكم يتناوَبون , دونَ أن تسيلَ على الأرض دماء .

هكَذا إلى أن بَرزَ من بين الجَماهير , رجلٌ , كريمُ الخَلق و الخُلُق , هاجَمَ في حَديثه الحُكَماء و انهالَ بسياط لسانه على من سَمُّوا أنفسَهُم عُظماء .

رجلٌ من العامّة , زاحمَ المُلوك في شُهرتهم , .. 

احتَكمَ إليه العامّةُ و النّبلاء , إلى أن سَحبَ البساط من تحت أقدام كُلّ الزّعماء .

أنصفَ المظلومين , دونَ مُحاكمة , و أعادَ حُقوق المضطهدين دونَ مُناظرة .

ذاعَ صيتُ الرّجل و كانَ يُدعى " تيران "  

كانت كلماتُهُ تَبُثُّ الدّفء في القلوب , دونَ أن يُشعلَ نيران و كانَ في صوته حدّةٌ و في حُضوره هيبةٌ , يحسبُ لها حسابَها الشُّجعان .

" تيران " كانَ رجُلاً من العامّة , لكن بأخلاقٍ يفتقرُ إليها حتّى أنبلُ النُّبلاء .

في البداية جَمعَ النّاس حولهُ , برجاحة عقله و سماحة أخلاقه , .. هكَذا إلى أن دُعيَ يومًا إلى  مُبارزة ,انتصرَ فيها , فاشتدّ إعجابُ الجمع بقٌوّته التي لم يَروا لها مثيلا و شجاعته التي صارت , تُلهمُ السّجّاعَ و الشُّعراء .

لا أحدَ يعرفُ من أينَ أتى و لا ما هيَ أٌصولُه .

تنقّلَ بينَ المُدن و الممالك , و في كُلّ مكانٍ حطّ فيه رحيلَهُ , كانَ الجميعُ يُقسمونَ أنّهٌ منهُم و أنّ أُصولهُ و أسلافهُ كانوا من بُناة ,تلكُم المُدن .

أحبّوهُ و آمنوا به , حتّى أرادوا جميعًا , نسبهُ إليهم .

وصَلت أخبارُ " تيران " إلى ممالكَ عديدة , و كانَ المُلوكُ يرونَ في وُجوده صخرةً عنيدة وجبَ إزاحَتُها و القضاءُ عليها , حتّى لا يَشتعلَ داءُ العظمة بالعامّة , فينقلبونَ عليهم .

هذا ما دفعَ بالبعض إلى رصد مُكافأةٍ إلى من ينالُ منهُ أو يجلبُهُ مُقيّدًا .

و كانَ أن قد صارَ ل " تيران " أتباعٌ في تلكُم الممالك , أقسَموا على حمايته بأرواحهم و قرّرَ بعضُهُم اللّحاق به و مُرافقَتهُ لحمايته من صيّادي الجوائز .

بَدأَ أتباعُهُ و مُريدوه , يجتمعون من مدينة إلى أُخرى , إلى أن صاروا جيشًا , يُضاهي في قُوّته , جيوشَ الممالك مُجتمعين .

اختاروا لهذا الجيش قائدًا ,و انتظموا ثُمّ عسكَروا في مكانٍ يستطيعونَ منهُ السّيطرة على أيّ عدُوٍّ و دحضه .

جبلٌ يقعُ في مُفترق طُرقٍ بينَ الممالك , سيطروا على الطّرق الفاصلة بينَ الممالك و لم يَسمحوا لأيّ قافلةٍ أن تَعبُرَ دونَ تفتيشها .

لم يَكُفّ كشّافوهُم عن البحث عن " تيران " الذي اختَفى فجأةً و لم يعُد للظُّهورِ أبَدا 

بَدأُ القلقُ يتسرّبُ إلى قٌلوب قادةِ جيش المُناصرين , الذي لم يتوقّفوا عن حشد النّاس للانضمام إليهم .

في سبيل ذلكَ و لجلبِ النّاس لهُم , كانوا في حاجةٍ إلى فكرةٍ تُحاكي وجدانَ العامّة , و تفتحُ أبوابَ قُلوبهم خاصّةُ .

العاطفةُ هيَ ما يجبُ التّركيزُ عليه , لأنّ العامّةَ لا تُحرّكُهم الأفكار و لا تُلينُ قُلوبَهُم الفلسفاتُ , مهما بَلغت عبقريَّتُها .

فجعلوا فِئةً منهم تتسرّبُ بينَ الجُموع و تُحدّثُهم عن الخلاص ,ثُمّ عن النّعيم , ثُمّ عن الخُلود في النّعيم .

و لكي تَكونَ الفكرةُ أكثرَ إقناعًا , ابتَدعوا لهُم طُقُوسًا و قداديس , تكون موعدًا يجتمعونَ فيه و يُنادونَ مُخلّصهُم .

هُنا و للحفاظ على لُحمة الحُشود , ظَهرَ من بين الأتباع مجموعةٌ من الحُكماء , كانَ من بينَ الحُكماء , حكيمٌ يُدعى    " أشير " و قد لمسوا جدوى نصائحه حينَ اقترحَ عليهم مُخاطبةَ عواطف النّاس و حينَ اقترَحَ عليهم مُناداتَهُم للالتفاف حولَ المُخلّص " تيران " , حتّى أنّهُ اقترحَ عليهم تحويلَ الفكرة إلى مذهب أو ديانة .

هُنا رأى القادةُ و الذينَ كانوا قد صاروا أربعة , كُلٌّ يقودُ جمعًا من الجماهير التي حَشَدها , أنّهُ أصبحَ من الضّروري الاجتماع بالحُكماء و الاستماعُ إلى ما يشورونَ بهِ عليهم .

و تمَّ لهُم الأمرُ و كانَ أن أجمعَ الحُكماء على رأيٍ واحدٍ و هوَ أن يختاروا من الحُشود ملكًا يَقوُدُهم , حتّى لا يتفرقوا و كي لا تضيعَ جُهودُهم سُدى .

كما و أجمعوا على أن لا يكونَ واحدًا من عامّة الحُشود , بل أحدَ القادة الأربع .

اقترحوا أيضًا أن يبدؤوا بنشر الدّيانة الجديدة , أسموها الدّيانة " التّيرانيّة " كما تعهّدوا بكتابة و وضع تعاليم تلكَ الدّيانة بما يتماشى مع مصلحة المملكة .

اقتَرحوا أن يتَحوّلَ الجبلُ إلى مملكة يُطلقونَ عليها اسم مملكةَ 

" تيرانيا " و ذلكَ تَيمُّنًا بالمُخلّص " تيران " .

ثُمّ تقدّمَ أقدَرُهُم الحكيم " أشير " ليُخبرَهُم أنّهُ قد آنَ الأوان لأن يوقفوا البَحثَ عن " تيران " , لأنّهُ يوقنُ أنّهُ لم يكُن سوى نبيٍّ , جاءَ و حلَّ بينهُم لإرشادهم إلى الخَلاص , ثُمّ و حينَ أتمَّ رسالَتهُ و تأكّدَ من كفاءتهم , رَحلَ .

اقترح عليهم أيضًا أن تُجرى قُرعةٌ لاختيار الملك من بين القادة الأربعة .

نظرَ الحُكماء إلى بعض ثُمّ إلى القادة الأربعة و قد بَدأ الجوُّ يتغيّرُ قليلاً و النّظراتُ ,تصيرُ أكثرَ حدّةً , كما و قد بدا على وجوه القادة ’ شيءٌ من الخوف .

هُنا و كالعادة عندَ كُلّ مأزقٍ , تدخّلَ " أشير " مرّةً أُخرى و أخبَرهُم أنّهٌم ليسوا في حاجةٍ إلى اتّحاذ القرار أو إجراء القُرعة الآن .

كما وعَدهُم أنّهُم سيجدونَ طريقةً أفضل , يُينى عليها الاختيار , ثُمّ طلبوا مُهلةً للتّشاور ثلاثة أيّام , على أن يسريَ قرارُ إيقاف البحث عن " تيران " .

فكانَ أن رحّبَ القادةُ بالاقتراح و اتّفقوا جميعًا على موعدٍ للّقاء بعدَ ثلاثة أيّام .

خلال الأيّام الثّلاثة المُتّفق عليها , تشاوَرَ الحُكماء و خَلُصوا إلى فكرة .

لم ينسوا أيضًا تنظيمَ المجالس للحديث عن هذه الدّيانة و أوهَموا النّاس بأنّهُم محظوظون لأنّهُم سيَكونون 

من أوائل الدّاخلينَ في هذه الدّيانة .

ما لم يحسب الحُكماء حسابهُ , هوَ انتشارُ الأخبار عن هذا الدّين و وُصولُها إلى الممالك المُجاورة , الذين اجتَمعوا بحكمائهم هُم أيضًا لكي يتشاوَروا في أمر هذه الدّيانة التي أقبَلَ عليها العامّةُ و بدؤوا بالنّزوح إلى مملكة " تيرانيا " طلبًا للخلاص .

و قد كانَ من بين تلكَ الممالك , مملكةٌ تُسمّى , مملكة النّار , كانت الأقوى و الأعرقَ تاريخًا و قد اشتهرَ ملكُها بدهاءٍ يُضاهي دهاء حُكماء الممالك مُجتمعين , و حكمةٍ تفوقُ حكمةَ أعظم الحُكماء , ناهيكَ عن مكرِ تحسدُهُ عليه حتّى الشّياطين .

نادى الملكُ كبيرَ الحُكماء لديهِ و سألهُ عن ما يجبُ فعلُهُ لوضع حدٍّ للتّكالُب على هذا الدّين الجَديد , تأمّلَ الحكيمُ قليلاً ثُمّ أشارَ عليه .

- الحكيم : مولاي , نستطيعُ أن نسحبَ البساط من تحت أرجُلهم جميعًا .

- الملكُ : و كيفَ السّبيلُ إلى ذلك ؟

- الحكيمُ : هذا الدّجّالُ الذي يُدعى " تيران " ,لم يظهر منذُ زمن , و النّاسُ يعتبرونَهُ مُخلّصًا و يَعدُهم هذا الدّين بالنّعيم الذي حُرموا منهُ .

- الملك : فبماذا تشورُ عليّ إذًا .

- الحكيم : أنتَ تولّى أمرَ القادة وَ أنا سأتولّى أمرَ هذا الدّجّال .

- الملك : و كيفَ ذلك ؟

- الحكيم : سوفَ تُعلنُ المملكةُ الحِداد غدَا , و سنبعثُ في النّاس مُنادٍ , ينعى وفاةَ البَطل المُخلّص " تيران " في أرضنا , و سَنُحدِّدُ مكانًا ندفنُ فيه صُندوقًا فارغًا على أنّهُ تابوتُه و سُتُقامُ لهُ جنازةٌ و موكبُ دفن ملكيّ .

- الملك : أنتَ فعلاً داهية ... ثُمّ ماذا ؟

- الحكيم : سوفَ تُعلنُ في النّاس أنّكَ كُنتَ مُعتنقًا لهذا الدّين و أنّكَ ما أردتَ أن تُجاهرَ بذلكَ حتّى لا تُتّهمَ بالجُنون , كما اتُّهمَ جدُّكَ حينَ اعتنقَ النّارَ دينًا .

- الملك : و ماذا لو اتُّهمتُ  حقًّا بالجُنون .. ؟

- الحكيم : لا عليكَ مولايَ , لأنّني سأبُثُّ من أشياعي بينَ العامّة , يمتدحونَ هذا الدّين و فضائلهُ و تمَّ الأمرُ كما خطَّطَ لهُ الحكيمُ تمامًا .

و أٌعلنَ الحدادُ , و خَرجَ كُلّ مُريدي هذا الدّين من السّرّ إلى العلانية , حتّى أنّ مُريديه من الممالك المُجاورة أيضًا ’ بدؤوا يتوافَدونَ .

و وصَلت الأخبار مملكةَ " تيرانيا " فقرّرَ القادةُ أن يكتُبوا لملك " مملكة النّار " الذي ردّ عليهم بدوره , بأن دعاهُم لحُضور مراسم الدّفن الملكي , التي أٌعدّت على شرف المُخلّص "تيران" , كما أخبَرهُم بأنّهُ قد تركَ وصيّةً , أرادَ ان يفتَحَها في حُضورهم .

نبّههم حُكماءهم و أخبروهُم بأنّها مُجازفة , لا يجبُ ارتكابُها و بأنّ هذه الدّعوة قد تكونُ فخًّا.

واحدٌ منهُم فقط امتَنعَ عن الذّهاب و كتبَ رسالةً يعتذرُ فيها لملك " مملكة النّار " , حيثُ أخبرهُ أنّ الحُزنَ قد نالَ منهُ , حتّى وقعَ طريحَ الفراش من أثر الفاجعة .

بعدَ يومٍ من رَحيلِ القادة الثّلاث , وصَلت إلى " مملكة تيرانيا " أخبارُ وفاة القادة الثّلاث على يد قُطّاع الطُّرق .

حينَ وصلَ الخَبرُ , كانَ الحكيمُ " أشير " رفقة القائد , أمرَ القائدُ بإعلان الحداد على أبطالهم وَ بتجهيز موكب دفنٍ ملكيّ على شَرَفهم .

عندَما اختَلى القائدُ بالحكيم , نظَرَ إليهِ و ابتسَمَ :

- الحكيم : باتت المملكةُ خالصةً لكَ اليوم .., اليومَ سنُعلنُك ملكًا .

- القائد : و ماذا عن هذا الدّعيّ , ملك , مملكة النّار ؟

- الحكيم : لا تنزعج يا مولاي , قريبًا سيتقلبُ الأمرُ عليه .. أوَليسَ قاتلَ تيران ؟ 

 قهقهَ القائدُ و نظرَ إليه باستحسان ..

- القائد : لنجعلُهُ قاتلَ " تيران " إذًا .. و لنَطلُب القصاص .


....



تونس في 10 أُكتوبر 2020


إرسال تعليق

0 تعليقات