الكاتب المغربي هشام وهبي يكتب: عدمية "لوبون" والسعي نحو التغيير



     لطالما كان التغيير السياسي والاجتماعي مطمحا للشعوب المقهورة عبر التاريخ. والمتأمل لسيرورة تاريخ المجتمعات العربية منذ عقود خلت، وللشروط الذاتية والموضوعية التي أنتجت لحظات سعيها للتغيير، يقف على حقيقة واحدة قد تكون راسخة مع الزمن، هي أن التغيير الذي يضمن كرامة هذه الشعوب، ويدفع بها نحو مدارج الرقي والسمو.. لن يتم أبدا، على الأقل.. مادام الخلل قائما وراسخا في بنية أفراد هذه المجتمعات أنفسهم.
    قد يتساءل سائل: ألم تنخرط هذه المجتمعات منذ سنوات خلت في حراك سياسي واجتماعي، أحدث قطيعة مع عهود من التسلط، وصنع جيلا جديدا بدأ يعي ذاته وكينونته؟ .. حقا، لكن كل هذا غير كاف، والجواب يسوقه لنا "غوستاف لوبون" فيلسوف علم الاجتماع الفرنسي في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، حيث يرى أن الجماهير/الشعوب التي مازالت تعيش القهر الاجتماعي والقمع السياسي، من إلغاء للحريات الفردية بما فيها حرية التعبير...، يترسخ في لا وعيها الجماعي أنها غير مهيأة للتحرر واتخاذ القرار، ومادامت النخبة الحاكمة متسلطة، تتمتع بكل الامتيازات دون محاسبة، فإن هذه الشعوب تسقط طائعة في "العدمية" والاقتناع باللاجدوى من محاولة التغيير والتحرر، بل الأفظع من ذلك.. ستحاول تبرير موقفها ومداراة إحراجها بمحاولة "شرعنة" موقف الحاكم، بدل الالتفاف حول المحكوم ونصرته.
    إن هذه "العدمية" التي يوظفها "لوبون" للتعبير عن حالة الإنسان المقهور، الطامح للتحرر والتغيير، والذي يقنع نفسه في نهاية المطاف بأنه يستحق هذا القهر.. تتجسد جليا في بنية المجتمعات العربية . فالإنسان العربي اليوم مغلوب على أمره، ينتفض أحيانا تدفعه نوازع الكرامة الموؤودة وأخلاق أجداده التي تأبى الخضوع، لكنه سرعان ما يتراجع وينكس رأسه ويردد العبارة المشهورة: "حالنا أفضل من حال غيرنا"..

   ولعل في هذه الوضعية "الدرامية" ما يفسر لنا من ناحية أخرى جو الرداءة الذي يحيط به من كل جانب، وانحسار الذوق الفني في كل المجالات.. من صعود إعلامي لشخصيات تروج للتفاهة، وانتشار للسماجة وقلة الذوق في الأعمال الفنية المختلفة.. وإن أكثر ما يثير الدهشة هنا هو هذا الترحيب الذي يقابل بها هذه الرداءة، ولكأني به "يكافئ" نفسه على تخاذله وتخليه عن كرامته وحريته، فيقول راضيا: "هذا نمط العيش الذي أستحقه.." فيغرق في مستنقع الرداءة حتى يرضى، وينكر قيم السمو والفن والجمال، لأنها تؤدي به لا محالة إلى الباب الذي يخشى الوقوف أمامه، بل وحتى التطلع إليه.. باب "التحرر والتغيير"، فيعبئ كل مواهبه وما حباه الله به في سبيل العيش فقط وضمان مزيد من "العيش". ولذلك انتبه "ابن خلدون" قديما إلى هذا الوضع حينما قال: "إن الإنسان إذا طال به التهميش، يصبح كالبهيمة لا يهمه سوى الأكل والشرب والغريزة".  فيا شعوب العرب.. فلتعظموا الفن أولا، ولتسحقوا التهميش ثانيا، ولكم في الكرامة حياة..


إرسال تعليق

0 تعليقات