«محمد الخزري» يكتب: الأسماء.
قصة قصيرة..
بعد صمت دام ثلاثة ساعات ونصف معدودة بالدقيقة والثانية وربما الأجزاء من الثانية، صدر صوت خفيف لجرس بالكاد يمكن سماعه من ساعة حائطية الكترونية معلقة في أعلى الباب الخلفي للقاعة وبجانبها لافتة مضاءة كتب عليها بلغات مختلفة "منفذ النجدة" وبجانبه آلة لقيس وشفط الرطوبة ، القاعة تتوفر فيها كلّ متطلّبات العيش والعمل لكن لا حياة فيها، المهندسين منكبّين على حواسيبهم بكامل تركيزهم الذي لا يقطعه إلا رشفات القهوة الشيء الوحيد المسموح به، حيث لا يمكنهم حتى استعمال هواتفهم الشخصية، دخل مدير الشركة وهو مهندس هندي بملامح طفولية ولباس متواضع، نثر ابتسامته اليومية على كامل القاعة ثم قام بتفقد أعمال المهندسين انطلاقا من حاسوبه الخاص وترك لهم الوقت لتقديم طلباتهم ومقترحاتهم عبر الايمايل، الشركة تقدّم خدمات في مجال تكنولوجيا الحواسيب والشبكات في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ويديرها هذا الشاب الهندي، فالهنود باتوا من أهم مديري الشركات التكنولوجية الكبرى في العالم، وربما يعوضهم التونسيون في المستقبل نظرا لجحافل المهاجرين من خريجي الجامعات ومن المتفوقين.
كانت المهندسة حما المسؤولة على تصميم وصيانة المواقع الخاصة بالمتعاملين مع الشركة، امرأة بكفاءة عالية، متخرّجة من جامعة خاصّة مرموقة حيث فضلت أن تنفق أموالها للتكوين في الهندسة الإعلامية في جامعة خاصة بدل الدراسة في جامعة عمومية ودفع رشوة للحصول على وظيفة، لقد بثت في ذلك المكان روحا وعطرا وبهجة رغم صعوبة العمل، فالنصف ساعة التي يقوم فيها المدير بمعاينة حاسوبه وتحضير تقاريره تكون فرصة لكسر الجليد بين الموظفين وتجاذب أطراف الحديث، وأحيانا تتعرض حما لبعض الدعابات السمجة، كأن يقول لها أحدهم :"ما هي أخبار حماتك يا حما"، لكنها تتجاوز تلك التجاوزات بشيء من الدبلوماسيّة والمرونة، وما إن تغادر العمل حتى تنزل إلى مطعم يسمى "سالف" في أسفل العمارة لتناول وجبة الغداء وهو مطعم من نوع "سالف سرفيس" حيث يقوم فيه الزبائن بملء أطباقهم بأيديهم، ومنه تنزل الى النفق حيث مأوى السيارات السفلي. غادرت حما بسيارتها الرياضية الحمراء الصغيرة العمارة الكائنة بمنطقة "المركز العمراني الشمالي" بالعاصمة التونسية تونس، حيث توجد أهم الشركات العالمية والمقرات الاجتماعية للبنوك وحتى السفارات ، تقود سيارتها بهدوء وسط العمارات الفخمة والواجهات البلورية حيث الشوارع نظيفة والطرقات منظمة وكل السيارات تسير بشكل منظم وتحترم قواعد المرور وتتوقف عند الضوء الأحمر، ودون عناء ركنت سيارتها في المكان المخصّص لها بجانب المدرسة الخاصة التي يدرس فيها أطفالها، وبعد لمسة خفيفة على تطبيقة بهاتفها المحمول لمحت المربية في باحة المدرسة قادمة في اتجاهها يرافقها ابنها وابنتها، فركب الطفلين السيارة من الخلف وقبلا والدتهما وقامت المربية بتثبيتهما بأحزمة الأمان الخاصّة بالأطفال وأغلقت الأبواب بإحكام، فشكرتها حما ولمست مرة أخرى التطبيقة بهاتفها لتعلم بتسلمها لأطفالها ثم تقود سيارتها بسرعة وانسيابية في شارع "محمد البوعزيزي" حيث يكون الطريق فارغا في ذلك التوقيت إلى ان تصل إلى مفترق المطار حيث تبدأ معاناتها اليومية، زحمة السير، ضجيج المنبهات، الخصومات ، الكلام البذيء والوقاحة، سيارات النقل الجماعي التي تقوم بالمجاوزة من كل الاتجاهات، فتضطرّ كعادتها لفتح الرّاديو لتجد كلّ الإذاعات الخاصّة والعامّة تبث برامجا حواريّة صاخبة الكلّ فيها يتحدّث بصوت حادّ ومزعج، والكلّ فيها يدّعي الفهم في كل شيء وكلّهم يحبون الوطن، فتلقي حما نظرة بواسطة المرآة العاكسة على طفليها في آخر السيارة لتبتسم وتستعيد وعيها وتقول في سرّها:"في هذا الجوّ المشحون يمكن لهذه البرامج الإذاعية الصاخبة أن تقنع كلّ سائقي وراكبي هذه السيارات من موظفين وتجار، أن رجلا يعض كلبا". تجاوزت حما كلّ التقاطعات المزدحمة واتجهت نحو طريق المرسى فأغلقت الراديو وفتحت ذاكرة الأغاني لتبحر مع أغنية فيروز "أسامينا" في اسمها وأسماء إخوتها، أخوها الأكبر زيدون يعمل مدرّسا بإحدى دول الخليج، أختها حزوة تعمل في مكتب محاماة مع زوجها في فرنسا، أخوها الأصغر ضرغام فقط بقي في تونس يعمل في مستشفى عمومي في قسم التصوير بالأشعة، أسمائهم كانت غريبة ومدعاة للتهكم في المدارس والمعاهد التي درسوا فيها في عدة مناطق من الجمهورية من حزوة جنوبا الى سهول غار الدماء على مشارف جبال خمير شمالا، حتى اسم والدتها "سوسن" اثار استغراب التلاميذ، فأسماء أمهات التلاميذ في ذلك الزمن الغابر في المعهد الثانوي بغار الدماء عادة ما يكون زعرة أو شهلاء أو ربح وليس "سوسن".
وصلت في وقت قياسي إلى منطقة عين زغوان بالضاحية الشمالية للعاصمة حيث أودعت طفليها في حضانة مسائية، وقد كانت الرحلة في طريق المرسى خفيفة رغم بعض المشاكسات، فقد كانت تطاردها في الطريق كما في الأفلام البوليسية سيّارة إدارية تطوي الأرض طيّا حيث يقترب منها السائق الذي يبدوا أنه مدير أومسؤول سامي، فيترك السيارة الإدارية تسير وحدها بلا ربّان في الطريق بتلك السرعة ويمدّ عنقه كزرافة ليحدق في حما ويعاكسها، فتتجاهله ويراودها السؤال:"ان كانت تتعرض للمضايقة وهي تسير بسرعة ثمانين كلمتر في الساعة كما تشير اللوحة الرقمية في سيارتها، فكيف يكون الأمر إن مرّت مترجلة أمام مقهى أغلب مجالسه على قارعة الطريق؟؟"، انتهى بها المطاف أخيرا في منطقة البحيرة أمام المصحة الخاصّة التي يعمل فيها زوجها طبيبا مختصّا في عمليّات التجميل، نظرت إلى الوقت في هاتفها فوجدته ككلّ يوم بفارق طفيف بالدقائق، فلمحت زوجها يغادر المصحّة وقد تناول الغداء في المصحة وحقّق أمنه الغذائي ليقوما بطقسهما اليوميّ بشرب الشاي في المقهى القريب من المصحة على ضفاف البحيرة لمدة وجيزة ثم يعودا الى عملهما في الحصّة المسائية فقط هو يكمل العمل قبلها بساعتين فيستلم الطفلين من الحضانة ، هكذا يكون النسق اليومي لحياة حما مسطّر بدقة ولا يمكن تغييره قيد أنملة، ربما أصعب حتى من حياة اليابانيين. مقرّ العمل، مدرسة الأبناء، المنزل هو "مثلث برمودا" الذي تتلاشى فيه المرأة التونسيّة الموظفة والعاملة مهما كان مستواها المعيشي، بعيدا عن بروباغاندا المكاسب والتحرّر.
ما إن جلست حما في المقهى حتى أعلمها زوجها أنّ أخوها ضرغام وصل الى تونس ومعه والدها، فاجأها الخبر رغم أنها كانت على علم مسبق، لحق بهم ضرغام الى المقهى فأجلس والده بصعوبة على الكرسيّ ثمّ غادر لقضاء بعض الشؤون، أخذ الرجل يجول ببصره في كافة أرجاء المقهى بدهشة طفل صغير، ثمّ قال :"متى تنويان الزواج؟ يكفي ما أضعتما من وقت في المقاهي" ، تنهّد زوج حما مظهرا تعاطفه ثمّ غادر، أمّا حما بعدما فرغت من شرب الشاي بشكل سريع أوقفت والدها وهمّت بالخروج، فرفض الخروج معها من الباب وتمسّك بلوحة الأسعار المضاءة قرب الباب وراح يحركها بقوّة ويقول:"لماذا يغلقون الباب يجب أن نخرج من هنا، هذا هو الباب يا فتاة..." طلبت حما المساعدة من بعض الحاضرين فأبعدوه عن اللافتة وأخرجوه من الباب، وعند الخروج هدّأت من روعه بلمساتها الرقيقة ونظراتها الحالمة، وأمسكت يده بحنان ومشت معه على ضفاف البحيرة، وفي غمرة ذلك السكون قال لها:"هل تعرفينهم رواد المقهى؟ إنهم عدوانيّون، وخطيبك؟ بصراحة لا يليق بك، هل هو فعلا طبيب؟ لم يكن مهذّبا" لم تجبه ودعته للاستمتاع بهذا الجو الجميل، لكن هدوئه لم يدم طويلا فقد نزع خفّيه وراح ينفضهما بقوة ويقول:"كان عليّا أن ألبس حذاء، لقد امتلأت رجلي بالتراب"، فقالت له:"أين التراب يا أبي؟ نحن في أرقى وأنظف مدينة في تونس، حتى الهواء معطّر". لم تكد تكمل كلامها حتى توقف حافيا ورمى نعليه جانبا وسحب ورقة من جيبه فيها قائمة أبنائه وأرقام هواتفهم ولبس نظاراته وقرأها وقال:"أنت ابنتي اذن؟ حزوة أم حما؟" فأجابته بهدوء وقالت:"حما يا أبي حما، البس نعليك واهدأ لقد اقتربنا من المركز الذي ستقيم فيه وسنلتقي غدا في نفس هذا التوقيت". فأجابها قائلا:"شكرا حما الآن فهمت كلّ شيء، أمك سمّتك حما لأنها من حما، وحزوة أنا من سميتها فقد ولدت في حزوة، أين تقع حزوة؟ّ".
أوصلت حما والدها إلى المركز الخاص برعاية مرضى الزهايمر ف، وأودعته هناك وسجلت جدول أوقاته في هاتفها الذكي كي تدرجه في رحلتها الثلاثية اليومية مع أطفالها، اذ قام أخوها ضرغام مسبقا بإجراءات التسجيل، فهو الأخ الأصغر الذي أوكل له إخوته مهمة رعاية والديه والعيش في بيت العائلة، لكنّه اضطرّ للسفر للعمل بألمانيا كأغلب زملائه في المستشفى العمومي الذين قدّموا استقالاتهم وغادروا، هو يعمل تقني بقسم الأشعة بمستشفى سبيطلة في وسط البلاد التونسية، عانى الأمرّين من كثرة العمل بهذا القسم لأنه ليس له نشاط نقابي زيادة على الاعتداءات، كما أنه تعب في إدارة أملاك العائلة فقطيع الأغنام ارتفعت تكاليف تربيته بحكم غلاء الأعلاف، وحتى الرّعاة صاروا قلة ويخافون من الرعي في الجبال المجاورة، عائلة حما هم من الرعاة الرّحل وعاشوا في أغلب الأرياف التونسية من الجهة الغربية من جنوبها إلى شمالها، وقد كان والدها حريصا على تدريسهم رغم الظروف الصعبة وتخييمهم في أماكن بعيدة عن المدارس، والدها كان رجلا مثابرا ونشيطا ومغامرا، إذ لم يكن يكتفي بالرّعي، بل كان يمارس التجارة ويكتري الأراضي المجاورة لزرع الخضر والبقول، أحيانا يربح وأحيانا يخسر، المهمّ أنه في النهاية كوّن ثروة صغيرة وعندما كبر أولاده قرّر الاستقرار في منطقة جميلة على الطريق الرابطة بين سبيطلة وسبيبة بين جبلين من أعلى جبال تونس، جبل المغيلة وجبل سمّامة، حيث يقول أن فيها جذور أجداده أولاد عبيد، بنى بيتا جميلا وزرع حقل تفّاح ظلاله وارفة وثماره شهيّة، ومخزن تبريد التفاح تمّت مصادرته بدعوى مقاومة الاحتكار، وظلّ يعيش مع ابنه الصغير وزوجته التي كانت سندا له في كفاحه، سبّب لها المتاعب عند بداية المرض حيث يتوه أحيانا في الطرقات والحقول، وزوجته سوسن سوريّة الأصل تعرّف عليها في تونس العاصمة في ثمانينات القرن الماضي لمّا جاءت مع أسرتها من سوريا هربا من مجزرة حما التي حدثت في مدينة حما السورية في بداية عام 1982 ولذلك اختارت تسمية ابنتها الكبرى حما، وهي التي اختارت أسماء الولدين، أما الصّغيرة حزوة فقد سمّاها والدها لأنها ولدت اثناء تخييم العائلة على مشارف مدينة حزوة في أقصى الجنوب الغربي للبلاد.
وصلت حما الى المركز العمراني الشمالي والتحقت بعملها، وقد انتابها بعض تأنيب الضمير، وهي تقول في سرّها:"ما الفرق بين مركز رعاية مرضى الزهايمر ومأوى العجز؟ انه عار كبير في تونس إيواء الآباء المسنين في مأوى العجز" فتحت باب المكتب ببطاقتها الالكترونيّة وجلست أمام حاسوبها ونفس الهواجس تنهش رأسها لكنّها اضطرّت للابتسامة عند دخول زملائها، فبالنّسبة لوالدها أفضل مكان في وضعه الحالي هو ذلك المركز وإخوتها لا يمكنهم التضحية بمستقبلهم، وحتى والدتها قد تعبت ومن حقّها أن ترتاح فهي تخطط للحاق بابنها في ألمانيا والعيش مع أسرة سوريّة من أقاربها الذين اضطرّوا للهجرة الى ألمانيا بسبب أحداث حما سنة 2017 ، وكأن التاريخ يعيد نفسه.
دق جرس المكتب مرّة أخرى وانغمست حما في شاشة حاسوبها، ونسيت غرابة الأسماء ونسيت مأوى العجز.
_______
محمد الخزري
تونس
إرسال تعليق
0 تعليقات