لعبة القدر _ قصة قصيرة للكاتب المغربي: محمد الودير




يتأهب للخروج من المنزل، الجو بارد بالخارج يبعت في النفس شعورا بالغربة و اللإنتماء، لم يكن يخطط للخروج في هذا الوقت بالذات... حالته النفسية هي من أرغمته على ذلك فقد إعتاد تنفيد أمر صوت داخلي يخبره بوجوب الخروج ليس لهدف .. غالبا ما سيهيم على وجهه بشوارع المدينة المظلمة و كأنه يبحت عن شيء.
- لكن ماهو؟، 
- لربما يبحت عن شخصه الضائع الدي فقده بعد وفاة زوجته ؟
- إنتظر ماذا قلت الأن (يبحت عن شخصه؟) هذا ضرب من الجنون كيف سيبحت عن شخصه الضائع بشوارع مدينة لا تبعت على الحياة وفي جو ماظر يرسي أسس الكأبة في النفس في فصل أشبه بفصل البكاء الذي دكره نزار قباني، فصل يفتح أبواب الحنين و الدكريات على مصرعيها.
-لا أدري لربما جولة بالمدينة ستخفف عنه أحزانه.
إرتدى سترة رمادية اللون و بنطلون جينز و حداءا جلدي ثم هم بالخروج، يسير في خطوات متتاقلة مارا على مقهى الغروب مقهى كل رواده من الرعاع و المنبودين أغلبهم يدخن النرجيلة يشتركون في دفع ثمنها ومن لم يجد لها سبيلا يكون مضطرا لتدخين تبغ رديء الجودة أما من جاد عليه يومه مقارنة بعشيرته فسيكون له الحظ في تدخين لفافات حشيش كفيلة بتعطيل تفكيره مؤقتا، ألقى نظرة سريعة على المقهى لا يبدو عليه أي إهتمام بما رأى فطالما إحتقر أمثالهم، مشى بضع خطوات مبتعدا عن المقهى .... على الجانب الأخر من الشارع تقف فتاتان بمحاداة الرصيف إستغرب لإرتداءهن ملابس لا تتناسب و الجو ذاك، ضحكت إحداهن ضحكة داعرة تمتم ببضع كلمات، لابد و أنه شتمهن يقال بأن شتم الشخص في خيالك يخفف عنك الضغط النفسي لكن ماذا كان سيحدت لو طلب من الله أن يهديهن إلى الطريق المستقيم أو أن ينعم عليهن فعلى أيت حال يشكلن بدورهن بلسما لشفاء جزء من الأمراض النفسية و العاطفية يقدمن لك الدفئ كلما إحتجت لذلك .... يحتضنك في حين تخلى عنك الجميع.
-إصمت ماذا هذا الهراء العاهرات يبقين كذلك و مساوئهن لا تعد ولا تحصى.
-إنتظر توقف عن الكتابة و دعني أسألك!
-حسنا لاكن بسرعة علي أن أجد نهاية تتناسب و قصتي هذه. 
-حسنا: قل لي ما الذي يجعل شخصا منهارا نفسيا و كئيبا يخرج في جولة بمدينة أكثر كأبة منه؟ فبطل حكايتك لم يرى لحد الأن ما يسعده و يروقه أرجوك أكسر قاعدة كتاباتك واجعل لهذا الشخص نهاية سعيدة.
- لا تلمني فقد كنت صادقا مند البداية و أعلنت جهرا بأن المدينة مدينة مأسي ماهي إلا جدران صماء وقد زادها هذا الجو بشاعة، لاكن من يدري لربما أكتب له نهاية سعيدة، ذلك يتوقف على مزاجي العبثي.

وصل إلى نهاية الشارع الرئيسي هنا تصطف حانات راقية تجاوز حانة بوردو ألقى نظرة على الحانة المجاورة و الثي تحمل إسم ألفونسو يقال بأن مالكها إسباني هاجر والده إلى المغرب إبان حكم الجنرال فرانكو لإسبانيا، ألقى نظرة فاحصة من خلال زجاج شفاف يبدو و عليها أنها هادئة مقارنة بسابقتها، دلف إلى الداخل سرعان ما إستقر إختياره على مقعد خشبي دو أرجل طويلة على مقربة من النادل، طلب قنينة ويسكي، فكان له ما طلب، وضع النادل القنينة أمامه فتحها بطريقة تنم على أنه إعتاد ذلك أتاه بكأس فارغة.... ردد عبارات ترحيب مستهلكة يكررها لأكثر من مئة مرة في اليوم، يرددها على مسامع زبائن كثر دون كلل أو ملل أغلب الزبائن واعون بأن عبارات الترحيب هاته عبارات مصطنعة و ليست حقيقية الزبناء واعون بذلك إلى أن النبيد يعفو قبل أن يعفو الشخص، أجهز على قنينة الويسكي بسرعة إنشرحت أساريره طلب قنينة تانية...
 إستدار نحوه النادل يبدو عليه علامات الإستغراب و الدهول لربما تفاجئ من السرعة الثي أجهز بها الزبون على قنينته ، أتاه بالثانية وضعها أمامه، أخرج من جيبه الداخلي علبة سجائر شقراء تناول منها سجارة واحدة أشعلها و سار يدخن في هدوء نسبي بين الفينة و الأخرى يرتشف بضع رشفات من الجعة، سرح بفكره بعيدا إلا أنه لم يكن يفكر بموضوع معين تذكر أن زوجته فيما مرة ذكرته بضرورة العودة إلى البيت باكرا و أن لا يتأخر بالخارج كانت دائما تردد على مسامعه جملة يجهل مصدرها:
"بمغيب الشمس يغيب الخير ليحل محله شر مقيت يضل في تناياه الضالون".
كان كلما إستحضر جملتها ثلك إلا و ثرك صنيعه في الحين عائدا إلى المنزل، إعتاد أن يجد زوجته و إبنه سامي دو الخمسة أعوام في إنتظاره، ما إن تطئ قدمه المنزل حتى يسارع إبنه إليه و علامات السرور بادية على محياه، يحمله فوق كتفيه تارة و يحضنه تارة أخرى ... 
إعتاد أن تنتظره زوجته أعلى الدرج في كل مرة بإبتسامتها المشرقة كانت بمثابة بلسم يشفي جروح نتاج يوم عمل مرهق و عصيب، إستحضار نصيحة زوجته جعلته يعجل بالمغادرة رغم أنها لم يبقى لها وجود رحلت و رحلت معها الحياة، لقت حتفها في حادت سيارة كان هذا الحادت بمثابة نقطة تحول في حياة رؤوف (البطل) بعد وفاتها بشهر يتفاجئ بطرق على الباب أفاق على إثره من النوم، قام من مكانه و هو يحاول عبثا مجابهة دوار ناتج عن إفراطه في الشرب ، فتح الباب، تفاجئ برجل غريب يرتدي زي رسمي ، ألقى عليه تحية مبتدلة لم تتجاوز الكلمتين ، قسمات وجهه لا تدعو للتفاؤل البثة، مند أن رد رؤوف التحية بمثلها وهو يتوق إلا معرفة هوية الرجل على أحر من الجمر، لاحظ الرجل ذلك، مده بظرف أبيض حكومي و طلب منه أن يوقع توصيل الإستلام، تردد رؤوف لوهلة لكن ليس له خيار أخر فلمعرفة ما يحتويه الطرف الملغوم وجب عليه التوقيع، ودع رؤوف الرجل، هم بفتح الظرف أول ما لاحظه أن الوثيقة مختومة من طرف المحكمة، تبين مضمونها هنا كانت الكارثة فوالد زوجته المتوفية قد قدم دعوة قضائية ضده مفادها أنه يطالب بكفالة حفيده مستغلا في ذلك وضع رؤوف الإقتصادي المزري و وضعه النفسي المتدهور معززا دعوته القضائية بوثيقة تتبت طرد رؤوف من العمل إضافة إلى إدمانه شرب الخمر، بعد أيام حكمت المحكمة بإناطة مسألة الكفالة للجد بحجة أن رؤوف غير قادر على حماية الطفل و توفير إحتياجاته و متطلباته، ليلتها لم يغمض له جفن حزن حزنا كبيرا على فراقه لإبنه أو بالأحرى فقدانه لنقطة الضوء الأخيرة في حياته، كان عازما على أن ينهض و يقاوم من جديد لأجله، لأجل سامي فقط، لكن أخدوه منه غصبا عنه و تركوه لوحده يعاند أهوال و قساوة الحياة، إستحضر كل هذا في ظرف وجيز دمعت عيناه بدون سابق إندار... حاول كتم صوت ألم لا يأبى إلى التحرر من حلقه، إنتبه النادل لذلك وقف مشدوها إلى رؤوف فقال بنبرة تحمل نوعا من التعاطف:
- لا أعرف السبب الذي جعلك على هذا الحال، لكن ما أوقن به أن لكل مشكل حل، ما عليك إلا التحلي بالصبر.
نظر إليه رؤوف نظرة مطولة وقال:
- أوتعلم أن جبل من الأحزان إكترى عقارا فوق كتفاي؟
أو تعلم أن مشاكلي إستعصت عن الحل؟
قل لي أو مع الموت حل؟ و كيف أسترجع إبنا أخد مني بإدن من المحكمة؟
كيف ألملم حياتي المبعترة؟ أفدني بربك؟
نظر إليه النادل نظرة أسى و تعاطف، لم يجد مايقوله، طأطأ رأسه وعاد إلى عمله.
قام رؤوف من مكانه يتحسس جيبوبه ليستقر على أي جيب يحتوي المال، أخرج بضع أوراق مالية دفع دون أن يسأل عن الحساب فقد إعتاد الجلوس بالحانات و يعرف ما يتوجب عليه دفعه ، ما عليه سوى ضرب ثمن قنينة ويسكي في عدد القنينات الثي إستهلكها و سيحصل على الناتج أو بالأحرى على ثمن نسيانه المزعوم.
هم بمغادرة الحانة، أحس بضرورة ولوج المرحاض لإستفراغ ما علق بمثانته من سوائل، تجاوز الباب الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل مشى في خطوات متمايلة واضعا يداه بجيبي البنطلون، سار قرابة المئة متر مبتعدا عن الحانة، فجأة شعر بألم بمعدته أحس بضرورة الإستفرغ ، إستفرغ بأرض خلاء مجاورة لفيلا فخمة، إنتبه إلى أن هناك دم ممزوج بما إستفرغه ... إستحضر مقولة لصديقه قالها في خضم حوار علمي قال بالحرف أن النبيد يصيب متعاطيه بتليف كبدي حاد، و من بين أعراضة تقيء دم لزج، إستوعب أن وضعه الصحي حرج و أن نطام حياته الحالي سيهلك به لا محالة، أسند ظهره إلى جدار الفيلا .. الألم ينهش أمعاءه، رفع عينيه إلى كبد السماء تراءى له نجم متوهج مقارنة بباقي النجوم، لابد و أنها إشارة من الله، تذكر وصية أباه الثي كان يوصيه بها بين الحين و الأخر:
- تذكر يابني ما سأقوله لك كلما إشتدت بك الشدائد و تكالبت عليك المشاكل و شعرت بقلة الحيلة فتمنى الموت، بهذه الطريقة ستزول أهوالك لوحدها فالمشاكل إبنة الدنيا البارة و الموت نجل الأخرة الورع ... هما في صراع دائم تمنى الموت لتنجلي عنك احزانك لتتركك المشاكل و شئنك، لا تنسى وصيتي، إتفقنا؟
نظر رؤوف إلى السماء و تمنى الموت شعر بعدها براحة نفسية كبيرة و بحافز أكبر لمواجهة الحياة فلربما نصيحة من والده تذهب عنه بؤسه الشديد.

إستجمع قواه لمواصلة السير, بدل جهدا بليغا لقطع مسافة 40 متر، إقترب من منزله، منزله يقع في الجهة الأخرى من الشارع، عمد إلى قطع الشارع و ما إن وصل إلى منتصفه حتى صدمته سيارة تسير بسرعة جنونية، سقط رؤوف بدون حراك، لم يكن يعلم أن النجم المضاء كان يبعت له إشارة مفادها أن أبواب السماء مفتوحة و أنها ساعة إستجابة وجب عليه التضرع فيها إلى العلي القدير، ليته لم يتمنى الموت.
جبينه يتعرق بشدة بينما هو مستلقي على ظهرة، صرخ صرخة هزت أركان البيت، هرعت الزوجة إلى تفقده، دلفت إلى غرفة النوم وجدته جالسا إلى السرير و علامات الذهول بادية عليه ما إن رأها حتى هرع إلى معانقتها كطفل صغير يحتاج إلى حضن يحتويه، سار يتفقدها و يستفسرها هل هي بخير، في كل مرة كانت تجيبه بالإيجاب، سألها عن سامي، أجابته بأنه نائم في غرفته، سارع لتفقده هو الأخر، وجده غاصا في نوم عميق كملاك، قبل جبينه، ردد عبارة حمدا لله بضع مرات.
سألته زوجته:
- ماشأنك يا رؤوف
- فأجاب: ليتني لم أنم البارحة.

إرسال تعليق

0 تعليقات