أرضُ الخيرِ| قصة للكاتبة الفلسطينية: ملاك محمد حسن العفيفي
"عَلى دَلعُونَا
وَعَلــى دَلْعُونـــة
زَيتــونُ بِـــلادِي أَجمــل مَــا يكُونَــا
زَيتونُ بِلادي وَاللوزُ الأخْضر والميراميةُ وَلاَ تَنْسَى الزعتــرَ
وقْراصَ العجـةِ لَمّـا تِتحمرْ مَا أَطيبُ طَعْمهَا بزيتِ الزّيتُونَا
خُبــز مَلتوتْ وَجِبنــة طَريـــة أَكلــة تدفَينـا بِالشتويــــةِ
وِصحونُ السحلبِ والهيطليـةِ خَلتنــا نِنسـى بـَـردك كَانونــَــا
يَا رَبي تشَتي ونِلبس طاقيـــة ونِلبس كَبود ونِحْمل شَمسيــة
وَنغني سَوى يَا فِلسطينيـــــة دَايم فِي بلادي خُبز الطابونـــَا"
"يَفتح اللهُ, الزيتونَ هَذا الموسمُ وفيرٌ وَ خَيرهُ كثيرٌ, هَيا يَا حَي كَرمِ الزيتونِ, شِدُوا الهمةِ."
بِأهازيجٍ يَملؤُها الفرحُ وَ البهجةُ, يَقومُ سُكانُ الحيِ بِالتعاونِ فِي جَني الزيتونِ, كَعُرسٍ عَامرٍ بِالمظاهرِ الفلكلوريةِ يُلم شَملَ الأهالي جِيلاً بَعد جِيل مُجسداً هويةً وأصالةً ضاربًة فِي التاريخِ الفلسطيني, كَيف لا وَهي أرضُ مُختارُ الحيِ- الشيخُ عَلي- التي ورثَها أبَاً عَن جدٍ وَ سَيورثُها لِأبنائهِ مِن بَعدهِ لِتكونَ دائرةً مغلقةً مُحيطُها فِلسطيني دائماً و أبداً.
بُيوتُ الحيِ قَد فَرغِت مِن قَاطِنِيها كَمبادرةٍ مِنها لِلمساعدةِ فِي هذا الصباحِ المشرقِ, فَقامتْ الحجةُ رُقيةُ بِخبزِ الْمناقيشِ عَلى الطابونِ لِيأكلَ كُل مَن أَتى, أمَا فَرحُ وَزينبُ
فَباشرتَا فِي قَطِفِ الزيتونِ وَ وَضْعِهِ فِي أَثوابِهمَا بَعد ثَنيها وَ هُما تترنمانِ بِأغاني و َقِصصِ هذا اليومِ الحافلِ.
بينمَا ينقلُ الشبابُ الزيتونَ فِي أكياسٍ مِن الخيشِ إلى البيتِ بقوةٍ وحيويةٍ عاليةٍ, صَادف علاءُ فتاةً شابةً مِن بعيدٍ تَقطفُ الزيتونَ بِيديهَا البَيضَاوَين الرَقيقَتين. أَخذَ يتأملُ روعةَ جَمالهِا الساحرِ تَارِكاً العملَ.
كَان يريدُ أنْ يعرفَ اسمهَا أَو أَيةَ شيءٍ عنها.
"علاءُ؟, علااءُ؟" صوتُ أختهِ فرحْ أيَقظهُ مِن شرودِ ذهنهِ وربطهِ بِالواقعِ مِن جديدٍ.
"مَاذا تُريدين يَا فرحُ؟ مَا بِك تَصْرُخينَ, أَفَزعْتِني." أجابَ علاءُ بِقليلٍ مِن الربكةِ.
"إِن أَبي يُريدُكَ أنْ تُساعِدهُ فِي أمرٍ مَا, لكنْ لِمَ أنتَ ساهٍ عَلى غَيرِ عَادتِكَ بَينمَا الجميعُ مُنهمكٌ فِي العملِ؟ اعملْ بِسُرعةٍ حَتى نُنجزَ قَبل حِلولِ المساءِ" ردتْ فرحُ وَهي ذَاهبةٌ, فَسألهَا علاءُ بِسُرعةٍ:"أتَعْرفينَ مَن تِلك الفتاةُ الشابةُ عِندَ تِلك الشجرةِ؟"
نَظرت فرحٌ إليها وَ قالتْ :"نَعم, تِلك الفتاةُ اسْمُها نورٌ ابنةُ الشيخِ حسن, لَكنْ لِمَ تسألُ؟"
أَجابَ وَهوُ مُتجِهٌ إلى أَبيهِ:"لَا شيء, فَقط مُجردُ فِضُولٍ."
ضَحِكتْ فَرحٌ وَ فَهِمتْ أَنهُ معجبٌ بِتلك الفتاة فَأخبرتْ أُمهَا الحجةَ رقيةَ بِسرعةٍ التي سُرعان مَا ارْتسمتْ عَلى وَجْهِها علاماتُ الفرحِ وَ السرورِ لِأنها كَانت تبحثُ عَن عروسٍ لابنِها وَ هَا قَد وَجدت أخيراً عروساً لعلاء.
بَعد انقضاءِ اليومِ الطويلِ المُرهقِ, عَاد السُكانُ إلى بِيوتِهم وَ مَعهم أكياسٌ مِن الزيتونِ هديةً مِن الشيخِ حَسن تقديراً لَهُم عَلى مُبَادرتِهم وَ تَعبِهم فِي جَني المحصُولِ. أَخذتْ الحجةُ رقيةُ تَتلو آياتٍ مِن القرانِ الكريمِ, وَرددتْ فِي شيٍء مِن الخشوعِ:"باسمِ اللهِ, مَا شَاء اللهُ, لَا حَول وَ لا قوةَ إلا باللهِ",كَما جَرت العادةُ تَيمنُاً وَ تَبرُكاً. وَ قَامتْ بِفصلِ الزيتونِ, فَجزءٌ لِكبسهِ وَجزءٌ لِعصرهِ زيتاً وآخرٌ لِبيعهِ فِي السوقِ.
وفِي جَلسةٍ عَائليةٍ فِي بيتِ الشيخِ علي, يَتسامرونَ فِيها عَن تفاصيلَ اليومِ الجميلةْ, قالَ الشيخُ عَلي:"هذهِ الأرضُ وَرثْتُها عَن أبَي الشيخُ حسين -رحمهُ اللهُ- فَهي أغَلى مَا أمَلكُ, فكانتْ دَائماً مصدرَ خيرٍ وَ بركةٍ وَ عطاءٍ لَنا وَ سَتظلُ لَكم كَذلك مِن بَعد مَوتي, فَوصيتي لَكم يَا أَبنائِي أنْ تُحَافِظُوا عَليها لِمنْ بَعدكُم فَهذهِ اِرثُ عَائِلتنا وَلاَ أُريدُه أنْ يَتشتتَ أوَ يندثرُ, بَل يكونُ رَمزا ً لِعائلتِنا عَلى مَرِ العصورِ."
ردَّ صلاحٌ:"حَفظكَ اللهُ وَ رَعاكَ يَا أبَتي, هَذهِ أَرضِنا وَ سَتبقى كذلكَ دائماً بإذن اللهِ."
وَقالَ علاءُ مَعقباً عَلى أخيهِ:"هذا صحيحٌ, فَهي مصدرُ رِزْقنَا وَقوتُ يَومنا, وَلا نَتخلى عَنهَا."
فِي صباحِ اليومِ التالي ذهبتْ الحجةُ رقيةُ بِرفقةِ بناتِها إلى بيتِ الشيخ حسن لِخطبةِ ابنتهِ نور وَتحديدِ مَوعد العرسِ.
بَدأتْ التجهيزاتُ لِهذا اليومِ المرتقبْ مُنذ مدةٍ فَلطالما كَان حلمُ الحجةِ رُقية أنْ تُزوجهُ وَ تَطْمئنَ عليهِ. فباشرتْ فرَحٌ وَزينبُ بتجهيزِ أثْوابهِما الفلاحيةِ المُطرزةِ وَقامتْ الحجةُ رقيةُ بعزمِ أهالي القريةِ للعُرسِ وَ تحضيرِ مَائدةِ كبيرةٍ مِن أصنافٍ عديدةٍ مِن الطعامِ, تنمُ عَن كرمِ عائلةِ الشيخ علي- مًختار الحيِ- فَما لَبِثَ القليلُ حَتى حَان مَوعدُ العُرسِ. قامَ شُبانُ الحي بِالحلاقةِ لِعلاءِ وَتعطيرهِ بِالمسكِ, ارْتدىَ علاءُ زيَ العُرسِ التقليدي الفلسطيني وَذهبَ مُمتطيا الخيلِ فِي زفةٍ كبيرةٍ مِن سُكانِ الحي إلى البيتِ، حَيثُ العروسِ نور ذاتَ الطلةِ المُبهجةِ بالثوبِ الفلسطِينيِ, والشعَرُ الأسودُ الطويلِ, والعْينين المُكحلتين. تَخللَ الزفةُ العديدَ مِن الأغاني التراثيةِ، مِثل:
"وَسْعُوا المرجَة والمرجَة لينَا
وَسْعُوا المرجَة تُطَاردُ خيلنَا
لَمين هَالخيول مرَبطة بِانجاصِ
هَاي للعريسِ مزَينة بِرصاصِ"
وَلا نَنسى دَبكةَ الشبابِ وَ الدحيةِ , كَان عُرسٌ فِلسطينيَ العاداتِ وَ التقاليدِ بِامتيازٍ مِن كُلِ التفاصيلِ، مَليئاً بِالبهجةِ وَ السُرورِ وَ الزغَاريدِ التي صَدحَت أَصْواتِها فِي كُل مكانٍ.
ذَات صَباحٍ مُشرقٍ, بينمَا كَان المُختارُ – الشيخُ حسن– يَجتمعُ بِكبارِ الحي لِمناقشةِ قَضايا يُواجهُونها فِي الحي والتخطيطِ لمِوسمِ التجارةِ, حيثُ سَتمتلئُ مَوانئُ يافا بالسُفنِ التجاريةِ للاستيرادِ مِنها أو التصديرِ, اقترحَ الشيخُ محمد أنْ يُنشئوا للحيِ دارٌ لِلنشرِ بِحيثُ يَعلم سُكانُ الحيِ آخرَ الأخبارِ وَ المستجداتِ مِن خِلالِ الصحُفِ, لاَقى اقْتراحَهُ القبولَ وَ سُرعانَ مَا تَم بِناءَ دارِ النشرِ عَلى جُزءٍ مِن أرضِ الشيخِ حَسن باِسمِ صَحيفةِ يافَا.
وَكَّلَ الشيخُ حسنْ ابنَهُ صَلاحَ بَعد انتْخَابِه في الديوانِ منصباً للتحريرِ والنشرِ, فَيكتبُ أخبارَ الحيِ الاجتماعيةِ كَدعوةِ السُكان لِعُرسِ أحدِهم, أوْ اقتصاديةٍ مِثل مواعيدَ قَطْفِ الزيتونِ وَ وِصولِ السُفن التجاريةِ لِموانئِ المدينة ِ, أو دينيةٍ كفَتوى شيخِ الحي بِأمرٍ مَا, أوْ رِيَاضيةٍ مِثلَ نتائجَ مُبارياتِ الشبابِ في امتِطاءِ الخيلِ, أوْ أدبيةٍ عَن مسابقاتِ نَظْم الشعرِ بَين الشباب ِوَ الكثيرِ مِن الأخبارِ المُهمةِ فِي الحي عَلى أنْ تكونَ أكيدةً بِلا شكٍ فِيها.
أَتَى التجارُ الأجانبُ يَعْرضونَ بِضاعتِهم مِن مُنتجاتٍ صناعيةٍ, وَ شَرع سُكانُ الحيِ بعِرضِ الفائضِ مِما يَمْلكونَ مِن زيتونٍ وَ زيتٍ وَ الصابونِ وَ غيرهَا مِن المنتجاتِ التي حَبَا اللهُ بِها يافا علاوةً عَلى الصناعاتِ اليدويةِ الفريدةِ التي يَأتي لِشرائهَا التُجّارُ مِن مَشْرقِ الأرضِ وَمغربِها حيثُ تتميزُ بالجودةِ وإتقانِ الصُنْعَ اليدوي الْذي يَحْمِلُ طَابَع الأرضِ وَ رائحتِها. كَان صَالِحٌ يُرَوِجَ لِلتُجّارِ الأجَانبِ بِضَاعتِهم عَن طَريقِ كِتَابةِ الإعلانَات عَنها فِي الصحيفةِ مُقابلَ بَعض النقودِ الزهيدةِ.
مِنْ أبَرزِ الإعلاناتِ كَان مِن نصيبِ التاجرينَ جَاك وَ هُوك وَالذي يُسَوقُ لِبيعِ شاشاتٍ تُوصل بِالكهرباءِ وَتَعْرضَ مُختلفَ الصْورِ وَالأصواتِ والفيديوهاتِ تُعرفُ باسمِ التلفازِ.
كَان اختراعٌ حَديثاً وَمُبهراً بِالنسبةِ لِسُكانِ الحي الذين آَل بِهم العهدُ الحديثُ إلى الصُحفِ والمجلاتِ في دُورِ النشْرِ والطباعةِ فقط.
تَهافتْ عَلى التاجِرينَ مُعظمُ السُكانِ لِمعرفةِ مَاهيةِ هذا الشيء الغريبْ وَكيفَ للِوحٍ أسودٍ أنْ يَعرض مَا يُسمى باِلقنواتِ بَعد وَصْلهِ بِالكهرباءِ. أَخذَ التَاجِرانِ بِشرحِ كَيفيةِ عَمل هذه الشاشاتِ وَ تَوضيحِ أهمِيتِها الكامنةِ بِربطِ المناطقِ البعيدة بِبعضِها وَتسجِيل المقَاطعِ لِعَرضِها فِي كَثيرٍ مِن الأماكنِ فِي نَفْس الوقتِ.
بُهِرَ سُكانُ الحي وَتَمنُوا امْتلاكَ التلفازِ لَولا سِعرهُ البَاهظ الذي يُكافئ سِعرَ قِطعةَ أرضٍ مِن حَيّهِم. طلَب الشيخُ حسن مِن ابنهِ صلاحِ دَعوةَ التاجرينَ إلى الديوانِ لِفَقْهِ ذَلِكَ الاختراعِ الغريبِ الذي كَان أشْبهُ باِلمستحيلِ بِالنسبةِ لَه. رَحَّبَ بِالتاجرينَ وَأحَسْنَ ضِيَافَتِهِما بِغدقٍ مِن خَيراتِ أَرضِه المِعطاء, وَأسْدى أمراً لابنهِ صالح بِتجهيزِ مكاناً للبياتِ فِيه وَتخزينِ بِضَاعتِهما. كَان التاجرانَ مَذهُولين بِكرم المُختار وُحُسن ضِيافتِه و كَأنهُما مِن أصْحابِ هذا الحَي الهَادئ البَسيط.
أَرشْد صالحُ التَاجرينِ عَلى مَكانِ البيتِ وَدَلّهُما عَلى غُرفَتِهما التي خَصْصَها لَهُم المُختار وَ كَعَادة الحجة رُقية رَحبتْ بِضيوفِ زَوجِها بِشدةٍ وَ أعدّتْ لَهُم طَعام الغداءِ بِمساعدةِ ابْنتيِها. حِينمَا عَاد المُختار جَلس جميعُ أفرادِ العائلةِ و َالتَاجرانِ عَلى مَائدةِ الغداءِ, كَانت مليئةً بِأصنافِ الطّعامِ وَ المُقبلاتِ التي تَفتحُ الشهيةَ. قَال التاجُر هُوك:"مَا أجْملَ طعمَ هَذا الأكلِ, لَهُ مَذاقٌ خَاصٌ يَجْعلهُ مُتميزٌ عَن بَقيةِ الأكلاتِ التِي أَكْلْتُها مِن قَبل, أشْعرُ وَكَأن بَطْني سَينْفَجِرُ مِن كَثرةِ مَا أكلتُ وَلكنْ لاَ أسْتطيعُ التَوقّف مِن حَلاوتِه". رَدَّ عَليهِ المختارُ:"هَذا الأكلُ كُلهُ مِن أرْضِنا التي زَرعهَا أجدَادِنَا مِن قَبْلِنَا وَهَا نَحْنُ اليومُ نَحْصدُ ثِمارَ جُهْدِهمْ وَ نَزرعُ لِمن هُم بَعدنَا, مَذاقَ ثِمارِ أَرْضِنا مُخْتلفاً فَكُل شيٍء زُرِعَ بحبٍ و فَرحٍ, فَهكَذا جَرت العادةُ كُلَ شيٍء يَتم مِن عِرق جَبِيننا. هَل أعْجَبكُم الزيتونُ؟". قَال التاجرُ جَاك بِتلهفٍ شَديدٍ:"نَعم, مَا أطيبَ هَذا الزيتونُ فأنَا لَمْ أَذُق مِثْلهُ فِي حَياتِي, مُؤَكَد أنْكُم قَد قُمتُم بِزراعتهِ فِي أرْضِكُم أيضاً". أجابَ المُختارُ وَ الابتسامةَ تَرْتَسِمُ على وَجهِه:"هَذا صحيحٌ, هُنالِك العديدُ مِن أشجارِ الزيتونِ فِي أَرْضِي وَنَقومُ بِجني المحصولِ فِي مَوعدٍ مُحددٍ كُلَ عَامٍ, ثُم نقومُ بِعصرِ بَعضهِ وَ كَبسِ بَعضهِ وَبيعِ مَا تَبقَى.
أَرْضُنا غَنيةٌ بِمحاصيلَ مُتنوعة, نَأخذُ مِنها مَا نريدُ وَنقتاتُ عليهِ, إنها إرثٌ عظيمٌ لنا وِجِبَ عَلينا المحافظةُ عليهِ". وقَال لابنهِ صَالح أنْ يأخذَ التاجرينَ وَيُريهِما الأرضَ صباحَ الغدِ.
ذَهبَ صَالحٌ إلى عملهِ فِي دارِ النشرِ وَ التاجرانِ إلى نقطةِ بيعِهم لشاشاتِ التلفاز بعد أنْ أخذَهم صالحٌ جولةً فِي الأرضِ كَما أَملى عليهِ أبيِه. تَجمهَر حَولِهم عددٌ كبيرٌ مِن الناسِ نظراً لِغرابة مَا يبيعونَه بِالنسبةِ لَهم, قامَ التاجرانِ بِتجربةِ تَشغيلِ تِلفاز بَعد وُصلهِ بِالهوائي الخاص بِه وَ بَثّ القناةَ الوحيدةَ المُتاحة, قَناةُ مِصرَ. انبهَر السْكانُ انْبِهاراً شَديداً, فَأخيراً رأَوا الوجهِ الذي يَسْمعونَ صَوتَه فقط فِي المْذياع.ِ رَغم غلوِ سعرِ التلفازِ قَام الشيخُ حسن بِشرائِه لِبيتِه بِغرضِ مَعرفة أَخبارِ مصرَ الشقيقةِ. فِي طريقِ عَودة التاجرانِ إلى بيتِ المُختارِ مراً بِأرضهِ شَاسعةَ المساحةِ, مَليئة الخيرات وَ الثمارِ, قَال التاجرُ هُوك لِلتاجرِ جَاك:"مَا رأيُك بِشراءِ هَذه الأرضُ لنا؟ فَنستفيدُ مِن زَروعِها الوفيرةِ وَأيضاً نَبني لنا مَتجراً لِبيعِ بِضَاعتِنا وَنستقرُ هُنا". أجابَ جاكُ:"أنتَ تُفكرُ فِيما أفكرُ بِه بِالضبطِ, فأنَا مَا عُدتُ أطيقُ الرجوعَ إلى أوروبا بَعد الكرمِ الذي وَجدتُه هنا, وَ لكنْ هَذا لِلأسفِ يَا صديقي يَبدو أنْهُ مُستحيلاً لِلمختارِ بيعِ أرْضهِ لنا, فَقد رأيتُ كَم الولاءِ الهائلِ لِهذه الأرض, فَكَيفَ يَبيعُنا بِسهولةٍ, أغَلب الظنِ أنْهُ سَيرفضُ رَفضاً تَاماً وَرُبمَا لَاْ يَسْتضِيفُنا فِي بيتِه مرةً أُخرى بَعد مَعرفةِ نَوايَانا في الاستحواذِ عَلى أرضهِ". رَدًّ هُوك وَاثِقاً:"أَنتَ مُحِقٌ فِيما قلتهُ, لَكِنكْ غَفِلت عَن شيءٍ يَا صَديق, فَهُم يَملكونَ الأرضَ وَ لَكنْ لاَ يَملكونَ المالَ الْذي نَمْلكهُ, نَغويهِ بِالمالِ الكثيرِ مُقابل أرضِه, لنْ نَخسرَ شيئاً مِنْ التجربةِ"
اقْتنعَ جَاكُ بكِلامِ صَديقهِ هُوك وَبالفعلِ فَاتَحا المُختار بفِكرة شِراءِ الأرضِ بَعد العشاءِ عَلى انفرادٍ بِمبلغٍ كَبيرٍ وَلكنْ رَغمْ هَذا قُوبِلا بالرفضِ التامِ مِن المُختارِ كَما تَوقعْا في البدايةِ وَ لكنْ رَغمَ ذَلك لَمْ يَستسْلما وَعرضَا عَليه مَبلغاً ضَخْماً يُساوي أضْعافَ ثَمنِ هذه الأرضْ فِعلاً وَ أغْروه بِالهجرةِ إلى أوروبَا، البلادُ الجميلةُ حَيثُ المالِ وَالنفوذِ وَالتَمدّنِ و التحضرِ. رَفْضاً أَخَذ الإجابة مِنه حالاً وَأمْهلاهُ أسبوعاً للتفكيرِ فِي هذا العرضِ المُغري الذي لاَ يُفوتُ, فَحَزمَ المالَ هذهِ سَوف تَضمنْ لهُ حياةَ ترفٍ وَ تَجعلهُ يرتاحُ مِن حَرثِ الأرضِ وَ زَرْعِهَا وَمَا إلى ذَلك مِن أعمالٍ لاَ تَكفلُ لهُ المستقبلُ المجهولُ. بينمَا كَان التاجرانِ يَعرضانِ فكرةَ شِراءِ الأرضِ عَلى المُختارِ، كَانت فَرحُ عَلى البابِ تسمعُ كُلَ شيءٍ, مَهلا ًفَفرحُ ليستْ مِن هذا النوعِ مِنْ الناسِ الذي يَتصِنتُ عَلى غيرهِ, بَل كَانتْ تَنوي أنْ تُقدمَ لهمُ ضيافةَ القهوةِ فاسْترقَت السمعَ عِندما عَلمت أنْ الموضوعَ المُناقشَ هُو أرْضهمُ وَ سَمِعتْ مبلغَ المالِ المعروضِ وَ ذُهِلتْ مِنْ ضَخَامتِه حيثُ يُسوي سعرَ عِدةَ أراضٍ مِن أرْضِهِم فِي الواقعِ.
"مَا بِك يَا فرحُ؟ تُبديِنْ قَلِقةً "سَألتْ زينبُ أُختَها, قاَلتْ فَرحٌ:"لاَ, لاَ شيءٍ يَا زينبُ, فَقط أَشعُر بِبعضِ الإرهاقِ والتعَبِ". لَمْ تَتْرُكهَا زينبُ وَ قَالتْ لهَا:"لا يَا فرحُ, أنَا أُختُكِ وَ أَعْرِفُكِ جَيداً، أَنْتِ قَلِقةً حِيال أمرٍ مَا, أَخْبريِني مَا هُو". صَمتتْ فَرحٌ لِبرهةٍ قَصيرةٍ وَ رَدّتْ "نَعمْ يَا زينبُ, هَناكَ مَا يُقلقَنِي بِشدةٍ فَأنَا لاَ أستطيعُ الخفاءَ عَنكِ أَكثرَ, لَكِن عِدينِي أنْ يَبقى الموضوعُ سراً بَينَنا, آهٍ لَو تَعْلمينْ نِيةَ التَاجرينَ اللذينَ نَسْتضيِفهُما فِي بِيتِنا يَا زينبُ, يُريُدونَ شِراءَ الأرضِ الْتي هِي مَصدرِ رِزقَنا". رَدتْ زَينبُ:"لَكنْ أَبِي باِلتأكيدِ سَوف يَرفضُ وَلنْ يَبيعَهُم الأرضْ, فَأنتِ تَعلميْنَ مَكانتِها فِي قلبِ أَبي".قَالتْ لهَا فَرحٌ:"هَذا مَا ظننتَهُ فِي البدايةِ, وَ لَكْنِهُم عَرضُوا عَلى أبِي مَبلغاً كَبيراً جِداً مِن المالِ وَأيضْاً الهِجرة إلى أُورُوبَا مَقَابل شِراءَ الأرضَ, عَرضْاً مُغْرياً لِلغايةِ لاَ أَحدٍ يُفكرْ فِي رَفْضِهِ, عَليْنا أنَ نُفِكرَ بِحلٍ فِي أسْرع وَقتٍ قَبل أنْ يوافقَ أبَي".قَالتْ لهَا زَينبُ:" لديَ فِكرةٌ جَيدةٌ وَأظُنُهَا سَتنجَحُ فِي الحفاظِ عَلى أَرْضِنَا بِأيدينَا بَعيداً عَن هَؤلاءِ الأوغادِ, لَكنْ يَجبُ أنْ تكونَ بِمساعدةِ
أَخينَا صَلاحْ".رَدّتْ فرحُ بِسرعةٍ وَحماسٍ شَديدٍ:"قُولي لِي, مَا هِي؟" قَالت لَها زينبُ الفكرةَ التِي سَتُخلصَهُم مِن مأزقِ التاجِرينِ وَ وَافقتْ عَليها فرحٌ عَلى الفورِ وَأخبرتْ أَخَاها الذي سَيكونُ جزءاً مِن نَجاحِ الفكرةِ.
فِي اليومِ التالي انتشرَ فِي صحيفةِ يَافَا خبرُ وُجودِ كَنزٍ فِي أرْاضِي حَي كَرِمِ الزيتونِ وَ بِالأخصِ الأراضِي الْتِي فِي مَنطِقةِ أرضِ الْمُختارِ أيْ أنْ احْتماليةَ وُجودِ كنُوزٍ فِي أرضِ المُختارِ كبيرةٌ, عِندمَا قَرأ المُختَار هَذا الخبرَ ذُهِلَ ذِهُولاً شَديداً وَ حَمَدَ الله ُأَنْهُ لَمْ يَبعْ الأرضَ إلى التاجرينِ وَ إلاَ كَان عَضّ أَصَابِعهُ نَدماً. فِي مَساءِ اليومِ ذَهبَ التاجرانِ إلى المُختارِ لِيسألوهُ إنْ وافقَ عَلى بيع ِالأرضِ أوْ لاَ. رفضَ المختارُ الأمرَ رفضاً قاطعاً وَ قالَ لَهُم:"الأرضَ أرْضِي ولنْ أبيعَها مَا تَبقى لِي مِن رمقٍ ومَا لي سوى التعويلِ عَليها لكسبِ الرزقِ، صَدق الشاعرُ سعيدُ يعقوبْ حينَ قالَ:
هَذي البلادُ لنَا وسَوف لنَا تبقَى لآخرِ مَا تبقَى مِن الرمقِ
وللبلادِ حقوقٌ والوفاءُ بِها مِن أهلهِا واجبٌ كَالدينِ فِي العُنقِ
فَقدْ ارتبطتُ بِجذورهِا وَنموتُ مَع سِيقانِها. لنْ أتركَها, هَذا قَراري النهَائي."
شِدةُ تَمسُكِ المختارُ بِأرضهِ دَفعتْ التاجرانِ إلى التفكيرِ والاستغرابِ, حيثُ أبَدى حِين عُرضَ عَليه الأمرُ آخرَ مرةٍ مرونةً فِي التفكيرِ وكَان مِن الممكنِ أنْ يقبلَ, فَما الذي دَفعهُ إلى الرفضِ رَفضاً قَاطِعاً فَجأةً وَتَركَ ذلكَ العرضِ المُغري فِي مَهبِ الريحِ. وهُما يتساءلانِ عَن السببِ سَمِعا أحداً مِن المارةِ يقولُ لِصديقهِ عَن وجودِ كنزٍ فِي أرضِ المُختارِ وَ مِن الممكنِ أنْ هذا الكنزَ يُساوي الملايينَ أوْ أكثرَ. عَرِف التاجرانِ أخيراً سبَب رفضِ المُختارِ بيعَ الأرضِ وَ دارَ بينهُم الحوارُ التالي:
-مَا رأيُكَ بِمَا سَمِعتَ يَا هُوك؟ كُنتُ أَعلمُ أنْ هٌناك سبباً مُقْنِعاً للرفضِ, لكنْ هلَ مِن المُمكنِ فِعلاً وِجود كنزٍ فِي أرضهِ؟
-لاَ أعتقدُ ذلكَ يَا جَاك, و لكنْ لاَ مانعَ مِن التَأكُدِ باستخدامِ جِهازِ فَحص الذهبِ عَلى خِفْية, لاَ تقلقُ, دَبَّرتُ خطةً محكمةً لِهذا الأمرِ.
-أَحسنتَ يَا صَديقِي, دَائِماً عَقلُكَ المُدبرُ يُنقذنُا مِن المآزقِ, قُل لي, مَا هي؟
-هُنَالكَ كُوخٌ مَهجورٌ قُرِبِ بيتِ الشيخ حسن, سَنقومُ بِحرقهِ ليلاً لِيذهبَ سُكانُ الحيّ إلى إطْفَاءِ الحريقِ وَ يَتسنى لنا الوقتُ إلى فَحصِ الأرضِ.
-فِكرةٌ رَائعةٌ, وَ لَكنْ مَاذا لَوْ لَمْ يذهبْ المُختاُر وَعائِلتهُ مَعهُم لإِطفاءِ الحريقِ؟
- لاَ تقلقْ, مِن عادةِ هَذا الحي مُساعدةِ ومؤازرةِ بعضِهم في السراءِ والضراءِ, لِذا سَتخْلو بيوتُ الحيِ مِن سُكانِها لإطفاءِ الحريقِ بِما فِيهم بيتُ المُختار.
وَبالفعلِ, تَسلَلَ التاجرانِ ليلاً إلى الكوخِ المهجورِ و أشْعَلا عِيدانِ الكبريتِ فيه إلى أنْ بَدأ بالاشتعالِ وَعَادا إلى البيتِ بِسرعةٍ وِ خِفْية. لاحظَ أحدُ سُكانِ الحي الحريقَ وَصارَ يَصرخُ بوجودِ حريقٍ إلى أنْ صحَا الجميعُ وذهبوْا إلى إخمادِ الحريقِ. كانْ المختارُ وابناه أولَ المُبادرينَ إلى إطفاءِ الحريقِ فكانُوا يُناولونَ جرادلَ المياهِ إلى بَعضِهم فِي نَسقٍ وكَعادةِ حَي كرمِ الزيتونِ، تكَاتف كُله كبيراً وصغيراً في محاولةٍ مِنهُ إلى أنْ بدأَت النيرانُ المُلتهبةُ بالنقصانِ تدريجياً, حين كَان سُكان الحي في خِضم إخمادِ الحريقِ, كانَ التاجرانِ يَفحصانِ أرضَ المُختارِ بآلةِ فَحصٍ للذهبِ لِيتيقَنوا صِحةَ الخبرِ, لكنهُم تفاجَئوا بعدمِ وِجودِ الذهبِ أو أيَة كِنوزٍ فِي أرضِ الشيخِ علي بَعد وقتٍ طويلٍ مِن الفحصِ المُستمرِ في إرجاءِ الأرضِ, أي أن الخبرَ خاطئٌ وليس هُناك مَا يجعلُ المختارَ يتعلقُ بأرضهِ بعد الآن.
بعدمَا نجَح السُكانُ في إنقاذِ الكوخِ من الحريقِ, عادَ المختارُ وعائلتهُ إلى البيتِ وقد أنهكَهُم التعبُ, ومع ذلك أصَرَ المُختارُ على جَمعِهم وإخبارِهم بِنيةِ التاجرينِ فِي شِراء الأرضِ بِمبلغٍ كبيرٍ جداً والهجرةِ إلى أوُروبا, لمْ تَبدُ عَلى تَعابيِر وجهِهم الصدمةُ إلا الحجةُ رُقية التِي عَرفَت الأمرَ حديثاً عَلى عكسِ أبنَائِها الذين عَلِمُوا المَوضوعَ مُنذُ بِدايتِه وَ وَضَعُوا خِطة لِئلا تُباعُ الأرضَ.قَال صَالِحٌ:"نَعلمُ يَا أبي بِأمرِ هذا العَرض, وَنَعلمُ أنْهُ مُغْرٍ لِلغايةِ, ونَعلمُ أَيضاً مَكَانة هَذهِ الأرضَ فِي قِلوُبِنا جَميعاً وَأنْك لَن تُفْرِط بِها بِكِنُوزِ الدُّنْيا كُلِها.", تَفَاجَأ المُخْتارُ كَثيراً وَقَال:"وَمَا مَوضُوع الكَنز الذي نُشِرَ فِي صَحِيفةِ يَافَا يَا بُنَي؟ "رَدتْ فَرحٌ:"كَانت هَذه خِطتُنا لِنُحَافِظ عَلى أرْضِنا, أيْ أنْهُ لَا يُوجدُ كَنزٌ فِي الأرضِ, مُجردِ شَائِعاتِ لِتَضْلِيلك عَن بيعِ الأرضِ يَا أبِي, فَقدْ خِفْنَا مِن قِبُولكَ عَرضَ التَاجرينِ.",حَمدتْ الحَجةُ رُقيةُ اللهَ عَلى عَدِم بِيع الأرضِ, وَ وعَد المختارُ أبْنائِه أَنْهُ لَنْ يُفكرَ فِي بيعِ الأرضِ مرةً أُخرى وَسَيُحافظَ عَليها إرْثاً عَزيزاً لِلعائلةِ.
وَفِي صَبيحةِ اليومِ التالي, جَاء التَاجرانِ مُسْرعينَ لِيسَألَا المُختارَ عَن قَرارِه عَن عَرضَ شِراء الأرضِ, خَاصةً بَعد تَأكُدِهِمَا مِن عَدم وُجودِ كنزاً فِي الأرضِ.قالَ التاجرُ هُوك إلى المُختارَ فَرِحَاً:"بَحثْنَا أَمسْ فِي الأرضِ بِاستخدامِ أداةٍ حديثةٍ وَدقيقةٍ عَن الكنزِ وَلمْ نَجِدُ أيُ شيءٍ, لَيس هُناك مَا يَربِطُك في الأرضِ بَعد الآنِ يَا مُختارُ وَيُمْكِنُكَ الحفرُ لِلتأكدِ بِنفسكِ, فَهَل واَفقتْ عَلى البيعِ؟", توَقع التاجرانِ أنْ تَعتري عَلى وَجهِ المُختارِ علاماتِ الصدمة,ِ وَلكنْهُ كَان هادئاً وأجَاب وَاثِقاً:"أَعلمُ ذَلِكَ, قَد لَا يكونُ هُنَالِك ذَهبٌ في الأرضِ ولكنْ مَا لاَ تَعْلمانَهُ أنْ الأرضَ هِي كَنزي, وَحُجرتِها هي ذَهبي الأبيضَ, وَزيتُونِها هو رمزُ أصَالتِنا في فلسطينَ, أنَا مُرتِبطٌ بِجذوِر هَذي الأرضُ وَلاَ يُمكنْ تَفريقِي عَنها سِوى الموتِ لِيسْتَلمُها أبْنائي مِن بَعدي, جُبِلنا عَلى حُبِ تُرابِ الأرضِ وَالحفاظِ عَليها لِذا لَنْ تُغنيِني أموالكُم أوْ جِنْسيتُكُم الأوروبيةِ عنْ ألقِ أرْضي, أهونُ مَوجودٍ وأَغْلى مَفقُودٍ."
عَاد التاجرانِ يَجُرانِ أذيالَ الخيبةِ وَفَشَلِهم الذريعِ فِي شِراء أرضِ المُختارِ المُتجذرِ فِي أَرْضِه. وَلَقَّنا دَرسَاً ثَميناً يَقْضِي بِحُبِ الأرضِ وَالتَّمسُكِ بِها.
إرسال تعليق
0 تعليقات