الكاتبة المصرية «ندى هشام» تكتب: ديسنوميا
في ذلك المكان المرتفع ، فوق تلك التلال المغطاة بالجليد ، يتراص مجموعة من المزارعين الفقراء ، يباشرون عملهم في جمع محصول نبتة التنين ، تلك النبتة التي من المُعتقد أنها تحمل سر الخلود علي سطح هذا الكوكب البارد ، ولا ينالهم من هذا العمل سوي الفُتات والذي بالكاد يكفي قوت يومهم .
تظهر علامات الإعياء علي" ديسنوميا " ؛ إحدي الفتيات العاملات ، تزداد زرقة بشرتها ، وتتسع عيناها البيضاويتين ، لتفقد وعيها وتسقط مغشية عليها ، ولكن لا أحد يجرؤ علي مساعدتها ، فالجميع يخشي نقصان أجرِه ، إلا ذلك الشاب "إيريس " والذي اقترب منها وظل بجانبها حتي استردت لون بشرتها السماوي ، و نظرت إليه بعيونها البرتقالية اللون ، ثم شكرته قائلة :
أشكرك بشدة .. واعتذر لأنك ستُحرم أجرك بسببي .
ابتسم "إيريس " وهو يزيح عن خصلات شعرها الفضي بعض الأشواك العالقة به ثم قال :
لا داعي لأن ترهقي نفسك بهذه الطريقه ..فأنا أراكِ تعملين بجدٍ منذ بداية موسم الحصاد .
ثم تابع : يمكنك الاعتماد عليّ ..
ابتسمت " ديسنوميا " لتبدو ملامحها بنعومة صفحة السماء في يوم هادئ ، وكأن جمال فتيات كوكب بلوتو قد اشتُقّ من جمالها ، ثم قاما ليباشرا الحصاد .
*****
خلف بوابة ضخمة ، في وادٌ عميق مُحصّن بين جبال الجليد ، يقبع قصر ملكي أحجاره من الكوارتز ومِلاطه أزرق متلألئ كزرقة دماء أجمل الفتيات ، يجلس الحاكم علي عرشه الوثير المصنوع من سيقان و بتلات زهرة التنين ، ومن حوله الجواري الحسناوات ، يعتدل في جلسته ثم تمتد يداه الغليظتان ليتناول كأسا من العصير ليرتشف منه بضع قطرات ، ثم ينتفض جسده الضخم وتهتز أذناه المدببتان ، و يكشر عن أنيابه ويزمجر كليثٍ جائع ، ويلقي بالكأس صائحا :
ما هذا الهراء .. ألا تعلمن أني لا أتناوله إلا طازجا ؟ ..تبا لكن جميعا ..ستُطلَي أجسامكن النحيلة بالميثان السائل و ستُعرضْنَ كغذاء للتنانين .
ثم قام من مقامه و وارتفع صوته الأجش وقال باستعلاء :
أنا الحاكم "أرامانوس " .. حاكم هذا الكوكب الازرق .. بلوتو ..وسفير الآلهة .. التي لن ترضي عنكم إذا سخطتُ أنا عنكم .
ثم أمر الحراس باحضار المحصول الجديد علي وجه السرعة ، لاعداد إكسير الشباب ، والبحث عن جواري وفتيات جديدات ؛ استعدادا للاحتفال السنوي المقدس .
*****
توطدت العلاقة بين " إيريس " و " ديسنوميا " ، وأدي تشابه أحوالهما وتواجدهما في الحقول بصفة مستمرة إلي ازدياد عمق صداقتهما ثم ما لبثت قلوبهما أن أحست بالنبض يطرق أبوابها ، وفي ليلة هادئة أضاءتها الأقمار الخمس ، جلسا علي تلك الصخور المطلة علي النهر الفيروزي المتجمد ، اقترب "إيريس " من "ديسنوميا " وقد سحرته عيناها ثم قال :
اليوم هو يوم ميلادك .. يا أجمل الفتيات .. وأريد أن أبوح لك بسرٍ .. ولكني متردد قليلا ..
ثم أمسك كفيها النحيلتان ،والتي قد كشفت عروقها فيها عن نفسها ؛ من شدة نقاء بشرتها وشفافيتها ، فارتبكت الفتاة و نظرت للأسفل محاولة إفلات يديه قائلة :
وما الذي يجعلك مترددا .. "،ٱيريس "؟
فاعتدل في جلسته و أمسك بقنينة أخرجها من ذلك الجراب خلف رأسه والذي قد أخفته خصلات شعره ، ثم قدمها ل " ديسنوميا " قائلا :
لقد جمعتَ لكِ مستخلص زهرة التنين .. لأنه يليق بجمالك الأخاذ .. وأرجو أن تقبليه مني .
ابتسمت الفتاة وقالت :
حقا إنها هدية قيمة ..أشكرك كثيرا .. ولكنها قد كلفتك أجر عمل شهر علي الأقل .
فأجابها بصوت هادئ :
أنتِ لا تعلمين حقا ما الذي أصابني منذ رأيتكِ .. وكأنكِ قد خلقتِ من نور شفق متلألئ.. انتفض قلبي وتزاحمت مشاعري حتي أفلتتني ..وكأني وُلدتُ لأحبُكِ ..نعم أنا أحبك .
وأخشي عليكِ من هذا الجمال .. بل أكاد أموت رعبا .
ارتسمت علامات الخجل علي وجه الفتاة وأخذت تصلح من شعرها بيدها ذات الإصبعين وابتسمت متسائلة :
مم تخشي عليّ ؟ ولم إلي هذا الحد أنت خائف ؟
هبّت رياح باردة خفيفة ، فاهتزت الأشجار المحيطة بهم مُحدثةً صوتا أشبه بأنين الأطفال ، نظر لها "إيريس " والخوف قد تملّك منه قائلا :
لقد اقترب موعد تفتح الزهرة المقدسه .. مما يعني جمع أجمل الفتيات وتقديمهن كقرابين .. وأنت الأجمل من بينهن .
ثم قام من مكانه وقال مُتحدّيا :
ولكني لن أسمح لأحدهم بمجرد الاقتراب منكِ .
******"
انتهي موسم الحصاد ، و انتشر الحراس الملكيون للبحث الفتيات ، لا يتركون بيتا إلا وفتّشوه جيدا لجمع أجمل الجواري ، كما تم دس عدد من الجواسيس بين السكان ؛ من أجل الوصول إلي أجملهن ، فاجتمعت آراء النساء علي أن "ديسنوميا " هي أجملهن علي الإطلاق .
وفي يوم ضبابي ، سار الموكب المقدّس في اتجاه بيت " ديسنوميا " تتبعه الحيّات الراقصة ، علي أصوات الابواق ، موكب مهيب ترتجف له الأبدان و تجف الدماء في العروق وتنقطع الأصوات ، اقترب الموكب من البيت ليأخذوا الفتاة ، كعادتهم السنوية في هذه الاحتفالية لتُعد وتُزيّن لتليق بالآلهة .
دلف أحد الأمراء وبصحبته بعض الكهنة إلي منزل "ديسنوميا " والتي اعتادت علي العيش بمفردها ، بعد وفاة والديها ، وقف الحارس بالباب يناديها ، ولكنه لم يتلقَ جوابا ، فأشار إليه الأمير أن يدخل ليبحث عنها ، ثم عاد بعد قليل ليخبره أنه لم يجد أحدا ، فيصيح الأمير قائلا :
ما الذي تعنيه ؟ .. ابحثوا عنها في الجوار .. لابد أنها قريبة .
يبحث جميع الحراس في كل المنازل المجاورة ، وينضم إليهم الكهنة خشية عدم العثور علي تلك الفتاة ، ولكن لا فائدة ، ثم يقف هذا الأمير المُتوّج وقد كشر عن أنيابه وتمكن الغضب من ملامحه ، لترتعد فرائص كل الحضور ، ثم يصيح بأعلي صوته :
يجب أن نجد هذه الفتاة .. فلتبحثوا عنها في المدينة كلها ..لابد وأن نعثر عليها الليلة .. ليس لدينا متسع من الوقت .. لن نستطيع تحمّل تبعات هذا الأمر .
******
لن نستطيع البقاء هنا لوقت طويل "ايريس " .. إما سيعثرون علينا ..وإما سنموت جوعا .
قالتها " ديسنوميا " وهي ترتجف من الخوف ، بعد أن اصطحبها بعيدا عن المدينة ، ليربّت علي كتفها قائلا :
ألم أقل أنه يمكنك الاعتماد علي ؟ لا تخافي وأنا بجانبك .. فروحي فداء لكِ حبيبتي "ديسنوميا ".
فقالت :
أثق بك .. ولكني خائفة .. لابد وأنهم سيبحثون عني ، ثم لماذا هذا الكهف بالتحديد ؟ انه صغير جدا ..ولا يبدو أنه صالح للمعيشة .. وأنا متعبة للغاية .
فأجابها "ايريس" بهدوء :
هذا الكهف في النصف الأخر من الكوكب .. ولن يصلوا إلينا..
فقط ثقي بي .. يا عزيزتي ..
وفي قصر الحاكم ، وقف الأمراء والحراس والكهنة صفا في انتظار " أرامانوس " ، والذي ظهر في حلته الملكية ويرافقه كبير الكهنة ، ثم أمر بعرض الجواري المختارات ثم الفتاة المقصودة للقربان .
تقدم أحد الأمراء يرتجف من الخوف ، وقد شحب لونه ثم نظر أسفله وقال بصوت مرتعش :
مولاى .. لم نستطع أن نأتي بالقربان .. لم نجد الفتاة .
انتفض "أرامانوس " من مكانه و وأطاح بما حوله من أواني ثم صاح بصوت كالرعد :
ماذا تقول ..لم تأتي بالقربان ؟ .. ما الذي يعنيه ذلك ؟
فأخبره الأمير أن الفتاة قد اختفت ، ولم يجدوها في المدينة ، وأنه يظن أنها قد هربت .
فصاح الحاكم مجددا :
أي هراء هذا .. أتهرب الفتيات من الرب ؟ .. تبا لكم جميعا .
ثم أضاف :
سوف تجدونها .. وليُقلب الكوكب رأسا علي عقب .. وإلا سنهلك جميعا .
*******
- ألم أخبركِ أنه لا داعي للقلق ؟ .. و أني لن أفلتك ولن أسمح لأحدهم أن يؤذيكي ؟
كلمات قالها "إيريس " مخاطبا "ديسنوميا " بعد أن عبرا تلك البوابة السحريه ، والتي بدت كحُلُم قد تحقق من أجل انقاذهم .
فأجابته "ديسنوميا " :
أكاد لا أصدق ما حدث .. كيف لهذا الكهف الصغير أن يحوي بوابة هذه العالم الجديد الرائع ؟ وكيف لم يعثر عليه سوانا ؟ وهل سنحيا هنا بمفردنا أنا وأنت ؟
ضحك "إيريس " ثم اقترب منها ليضمها إلي صدره قائلا :
هذا العالم للأنقياء مثلك حبيبتي "ديسنوميا " .. إنه منفصل تماما عن ( بلوتو ) .. أخبرني عنه جدي .. وتنبأ لي بحياتي هنا مع زوجتي الحبيبة .. كما سبقنا إليه قليل من المضطهدين ذوي القلوب النقية .. والذين لم يخضعوا لتلك المعتقدات البالية .. سوف نمضي هنا في حياتنا الجديدة ما بقي لنا من عمر .
******
بعد يومين ، و في ساحة القصر الملكي ، وقف كبير الكهنة أمام الحاكم "أرامانوس " مخاطبا إياه :
مولاي "أرامانوس " .. خادم الآلهة ..نحن في ورطة حقيقية ..إننا لم نعثر علي الفتاة .. وأنت تعلم أنه لو لم يُقدم القربان غدا في موعد تفتح الزهرة السنوي ؛ فستسخط علينا الآلهة ، وستحل علينا اللعنات ، إنها عادة شعوبنا الأولي ، ولم يجرؤ أحد من قبل علي تأخير القربان
نهض "أرامانوس " من مقامه وقد بلغ منه التوتر مبلغه ، فأخذ يجئ ذهابا وإيابا وهو يردد بعض الكلمات :
غدا .. ماذا سنفعل .. سوف ينتهي ملكي .. لقد فتشنا تحت كل صخرة ..وفي كل وادٍ ..
ثم توجه للكاهن الأكبر متسائلا :
هل يمكننا تقديم فتاة بديلة ؟
فأجابه الكاهن مُستاءا وهو يضرب كفا بكف :
مولاي ..أنت تعلم أن الآلهة لا تُخدَع .. بل سوف يزداد غضبها ..فهي تعلم من هي أجمل الفتيات .
لم ينطق "أرامانوس " وجلس مطرقا رأسه ، لا يعلم ما الذي ينتظر هذا الكوكب .
******
بات الجميع مترقبا ، ووقفت المدينة علي ساق ، أحاط الأمراء والكهنة والجنود بالحاكم بهدف الحماية بقصره ، ولم يهدأ "أرامانوس " حتي أن النوم قد خاصم عينيه ، فسوف تتفتح الزهرة وتنتظر تقديم القربان ؛ ولكن أنّي لهم ذلك !
وما هي إلا سويعات قلائل و بزغ فجر الزهرة المقدسة ، تلك الزهرة التي لا تتفتح إلا ليوم واحد فقط من كل سنة ، خلال احتفالات مقدسة ، تقدم فيها القرابين والعطايا ، وعلي رأسها أجمل فتيات الكوكب ، لترضي الآلهة عن شعبها ، وتفيض عليهم بالنعم وتدفع عنهم النقم .
تفتحت الزهرة ، ووصل الكهنة يحملون الهدايا والقرابين ، ولكن هذه السنه بدون القربان الرئيسي ، هكذا أمرهم كبيرهم في محاولة بائسة للنجاة .
انتهي الاحتفال وقاربت الأقمار علي الظهور في السماء ، وبدأ العد العكسي لسقوط الزهرة ، عم الصمت الأرجاء ،حتي تكاد لا تسمع صوتا ، ودب الذعر في التفوس ، وشخُصت الأبصار ، ثم سقطت زهرة الآلهة .
******
لم يفرق سكان ( بلوتو ) بين ليل ونهار ، فالكل سواء بعد أن بدأت الكوارث تهطل عليهم كأمطار رعدية ، لا يكاد قويهم يفيق من نكبة مرت به فضلا عن ضعيفهم ، فاجتمعت حاشية الحاكم معه في حصنه الحجري .
وقف أحد الأمراء وقد ارتعشت أوصاله ، وتناثرت حبات العرق علي جبهته رغم شدة الصقيع ، واقترب من "أرامانوس " قائلا :
مولاي .. لقد هلكت المحاصيل .. و نفقت كل الحيوانات ..حتي التنانين .. وامتدت يد الخراب للأشجار العملاقة .. حتي أن نهر الميثان قد تجمد .. ماذا عسانا أن نفعل ؟
أطرق "أرامانوس " وفي عينيه نظرة تائهة ، فالخوف قد تملك منه ، ثم أشار لكبير الكهنة أن يجيب ، فقال الأخير :
لم يعد في استطاعتنا فعل أي شئ .. لقد خرج الأمر عن السيطرة .. نحن هالكون لا محالة ..إنها فقط مسألة وقت .
وبالفعل لم يكد يتم كلماته إلا وانهالت علي المدينة أجسام صخرية ملتهبة تبدو كحمم بركانية ضخمة ، تساقطت بكثافة وتتابعت عدة أيام ، لتقضي تباعا علي ما تبقي من مظاهر الحياة في مختلف أرجاء هذا الكوكب الأزرق ، حتي أن حصن "أرامانوس " المنيع لم يقف حائلا بينه وبين الموت ، تناثرت الأشلاء وما لبثت أن تفحّمَت ، وانكمش الكوكب ليبدو ككرة غاز صغيرة تبخرت وكأن ثقبا أسودا قد ابتلعها ، لقد أعلنت الآلهة غضبها وشنت الحرب وانتقمت ، ولم ينجُ سوي من فرّوا وعبروا للعالم البعيد .
تمت
*****
بقلمي
#ندي_العُمْر
ندى هشام من مصر
اكتب تحت هذا الهشتاج
إرسال تعليق
0 تعليقات