«محمد الخزري» يكتب: شابويزا!

 





الصّيف في بداياته والسنة الدراسية تشارف على النهاية، لنجد أنفسنا في حصّة بساعتين بعد الزوال ، انه فعلا أمر مملّ ومزعج، ومن حسن الحظ أنها لم تكن حصّة فيزياء أوكيمياء أو ما شابه، لقد كانت حصّة أدب فرنسي مع أستاذة الفرنسية المعروفة آنذاك في أواسط تسعينات القرن الماضي، في المعهد الكبير، لقد كان كبيرا بأعمدته ورموزه وشموخه.

كان محور النقاش في الحصّة رواية "الأحمر والأسود" للأديب الفرنسي ستندال، كعادتها كانت تدخل قاعة الدرس قبلنا، بعدما تأكدت من جلوسنا في مقاعدنا وانتباهنا أخذت الأستاذة الكلمة وبدأت تروي لنا الأحداث بفرنسيَّة سليمة لا تشوبها شائبة وكأنها تعرف "جوليان سورال" بطل القصّة أكثر من الكاتب نفسه، وتصف لنا الغابة والسهول والكنائس والمدارس، وتبهرنا بالتعاطف مع "مدام دو رينال " بطلة القصّة بكلّ أريحية ودون حرج.

 في وسط الحكاية أفقد تركيزي و أسحب من جيبي ساعة "كازيوّ" صينية بدون طوق لأرى الوقت فأجده قد مرّ بسرعة بل انفلت، أعيد النظر إلى الأستاذة لأتدارك ما فاتني عسى أن لا أضيع خيوط القصّة، فأتوه في شخصية هذه المرأة بملامحها البدوية وتصيبني الدهشة و أتسائل:"كيف تنساب اللغة الفرنسية وتذوب بسهولة بين شفاه ريفية". لقد كانت أستاذتنا تقرا وتتكلّم وتناقش وتغضب وتعاتب وتلوم وتنهر وتشكر بكلّ سهولة وبساطة وانسيابيّة وتتجاوز حرف الهاء الفرنسي وتدغمه مع الحرف الذي يليه دون تحفظ،  لقد كنّا في حصة فرنسية مع أستاذة تشبه أمهاتنا ليس في ملامحها فقط إنما في اتقانها لعملها، لقد كانت أستاذة وأم ومربية عربية و ريفية بلسان فرنسيّ .

تواصل شرودي عن الدّرس وما زاد الطين بلّة تفكيري في العودة إلى البيت من أجل مشاهدة مقابلة كرة قدم، طبعا انتبهت الأستاذة لشرودي فنهرتني وأنبتني وأرعبتني بمعجم فرنسي صارم، وختمت خطابها بحزم:"عليك أن تقرأ وتلخص كتاب 'الأحمر والأسود' وتجيب على الأسئلة التي ستسلمها لاحقا"، واصلت الحصّة منتبها ونسيت أن أسحب الساعة من جيبي لأرى الوقت إلى أن وجدت نفسي مغادرا للمعهد ومحمّلا بحقيبة فيها أدباش الرياضة ولوازم الدراسة وجرائد قديمة، وكتاب "الأحمر والأسود" محفوظاَ جيدا في كيس بلاستيكي استعرته من مكتبة المعهد التي تديرها باقتدار أمينة المكتبة التي كانت الصديقة الوحيدة لأستاذة الفرنسية حيث كانت تشبهها إلى حد بعيد.

بعد شقّ المدينة بالعرض متفاديا المقاهي والمطاعم التي يرتادها عادة التلاميذ، اقتربت من محطة الحافلات فرأيت فوضى وجلبة قرب المحطّة حيث يتجمع التلاميذ الرّيفيين القابعين تحت ظل الأشجار وكأنهم يحافظون على نفس البيئة التي قدموا منها، كما توقعت كان سبب الجلبة معركة حامية الوطيس بين أبناء المدينة، هم في الواقع أبناء حيّ هامشي في المدينة، والتلاميذ المنتظرين للحافلة، وهي معركة من المعارك التي تحدث عادة بين أبناء المدينة والتلاميذ القادمين من الأرياف، تراجعت بسرعة نحو شارع مجاور واختبأت خلف سور بيت قديم ساكنه يكون في المقهى في ذلك الوقت، ظللت أراقب الأحداث من بعيد دون المشاركة في المعركة فقد كنت جبانا وأخشى هذه المعارك، حيث لم أكن مستعدا لأذهب ضحية جريمة شرف أبناء "الحومة" من أجل فتاة عاكسها شاب من أبناء الريف الموصومين آنذاك بصفتهم ولهجتهم ولباسهم ومشيتهم، كان الريفيّون يدافعون بالحجارة وبأجسادهم الصلبة التي اكتسبوها من رعي الابقار وحرث الأراضي وابناء "الحومة" مسلحين بالسلاسل والاسلاك والكوابل الغليظة.

 الصّيد كان مفتوحا لذلك واصلت الاختباء وهاجسي الوحيد هو المباراة التي يجب أن اصل قبل بدايتها وأستمتع بمشاهدة حفل الافتتاح، لم أتجرّأ على الخروج فالحقيبة التي احملها دليل ادانة ضدي وقد تكون مبررا لضربة سلسلة على رأسي فهي تثبت أني من الريفيين، هذا زيادة على مشيتي ولباسي ولهجتي ان تعرّضت للمسائلة من طرف أحد ابناء "الحومة"، مددت يدي إلى ساعة "كازيو" الصينية بدون نطاق لأسحبها من جيبي وأرى الوقت، فتحسّست تحتها قطعة نقدية، عندها ساورتني فكرة الذهاب إلى محطة النقل الريفي فالثروة التي وجدتها في جيبي تمكنني من السفر في القطاع الخاصّ وأستمتع بالأمان والرّفاه والسرعة، فالحافلة العمومية يلزمها ساعة أخرى من الاجراءات ومحاضر الشرطة ومطاردة المنحرفين، هذا دون اعتبار الزحمة والشجار وتبجح من تسببوا في المعركة ببطولاتهم ومآثرهم.

سنحت لي الفرصة بالهروب وبسرعة وجدت نفسي في الصندوق الخلفي لسيارة نقل ريفي يابانية  "ايسيزي عتروس" جالسا على أريكة خشبية ينقصها راكبا واحدا لاكتمال النصاب والسفر، يا للرّفاه ويا للحظ ويا للامان، لقد كانت خدماتها أرقى من شركة الطيران،  ومعها أغنية للفنان الجزائري السوفي عبد الله المناعي "صباح يربّح" ونحن في المساء، استرجعت أنفاسي وتنفست الصّعداء وشردت عبر نافذة السيارة حيث آلات الحصاد والرعاة وفي الأفق البعيد جبال تتحرك بهيبة وتفتح أبوابها تدريجيا، بدأت أفكّر في الطلبات المجحفة لأستاذة الفرنسية،لم تكن طلبات إنما كانت تعليمات، كم كنت أمقت هذه الكلمة، تذكّرت تعليمات والدتي التي أوصتني من الصّباح الباكر قبل خروجي، أن أضع أدباشي عند العودة في المساء في البيت وألحق مباشرة بباقي افراد العائلة في الحقل للمساعدة في العمل.

وصلت للبيت بعد سفرة ممتعة ومريحة في سيارة النقل الريفي، لأجد نفسي مخالفا لتعليمات والدتي وفاتحا للتلفاز ومنبهرا بحفل الافتتاح تحت اشراف الملكة التي لا تغيب الشمس عن مملكتها، حيث أعطت اشارة انطلاق مقابلة افتتاح كأس أوروبا 1996 بين انقلترا المستضيفة وسويسرا، كنت أتابع بحماس وأشجع سويسرا الجميلة ولاعبها الرّائع "شابويزا" نجم فريق بوروسيا دورتموند الألماني آنذاك،لقد نسيت توصيات والدتي وتعليماتها وانغمست في المقابلة ولا يعكر صفوي شيئا غير كلبنا الذي يطلّ برأسه أحيانا من باب بيتنا رفقة الدجاجات فأنهرهم وأرميهم بكل الأحذية والنعال المحيطة بي، بعد شوط ممتع ومثير تألق فيه نجمي "شابويزا" أعلن المعلق الشهير رضا العودي على نهاية البث الموحد لاتحاد اذاعات الدول العربية والعودة الى "استوديوهاتنا المركزيّة"، حاولت ربح الوقت بين الشوطين فربطت الكلب في مكانه وأدخلت الدجاجات إلى قنّهم وأعطيتهم الماء والطعام، عمل قد يخفف عني عقوبة مخالفة التعليمات.

رجعت إلى التلفزة في وقت قياسي لأجد الشوط الثاني على وشك البداية و "أستوديوهاتنا المركزية" تبث ومضات مختلفة ثم أغنية المطربة صوفية صادق وفرقتها المنظمة خلفها يرددون "بالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان، وتنعم الطفولة والشيب والشبيبة". وبينما كنت في انسجام تام مع الأغنية "الوطنية" سمعت والدتي تنادي بصوت متشنّج، تملّكني الرعب في البداية وعرفت أن عقوبتي لا مناص منها، أغلقت التلفاز وفكرت في الاختفاء تحت السرير أو خلف الباب، وبينما كنت أبحث عن ملاذ آمن وعن خطاب أتوسّل به ، دخلت والدتي للبيت وجلست على الأرض وأخذت تلطم نفسها فخرجت من مخبئي خلف الباب، ويا لهول ما رأيت لقد كانت تنزف من رأسها وركبتها وعندما رأتني ازداد نحيبها ونشيجها وبدأت تكشف عن الكدمات على  جسدها، شعرت بدوار وغثيان، فحاولت أن اتمالك نفسي وبادرت بجلب الدواء والضمادات لكنها نهرتني وأمرتني بأن أجلب سيارة أجرة لنقلها لأقرب مركز أمن في حالتها تلك. خرجت مسرعا فوجدت أمام البيت رجلا يشتم والدتي ويشتم كلّ شيء ولما رآني ازداد غضبا وراح ينعتني بأبشع النعوت، وقتها عرفت أنه هو من ضرب والدتي وتسبب لها في تلك الحالة الموجعة، فهو من متساكني الجوار رجل ستّيني متمتع بصحة جيدة وله أبناء كبار وقطيع أغنام وشبكة علاقات مكنته من الاستفادة من قطعة أرض تابعة لأملاك الدولة، ولا يفوت فرصة الحصول على المساعدات الاجتماعية بشتى أنواعها حتى علبة الزيت والطماطم، كما يترأس الجمعية المائية بالمنطقة وبحوزته مفتاح الحنفية العمومية بمنطقتنا، اذ يفتحها ساعتين في اليوم عند الظهيرة ، فيجلس تحت ظل شجرة زيتون ويراقب النسوة اللواتي يأتين لملء الماء فيطرد من لا تدفع للجمعية معلوم المياه، الحنفية العمومية كانت في مكان جميل وصنبورها مثبت داخل قنّ إسمنتي صغير مؤمًّن بقفل ومبلط بمربعات جليز منقوشة بالزهور وعليها كتبت حكمتين حكمة بالدارجة "اجبد ما ترد الجبال تتهد"  للتوعية بالحفاظ على الماء،   وحكمة بالعربية "العمل الجمعياتي عمل تطوعي" للتشجيع على المساهمة في معلوم الماء، فالحنفية آنذاك هي المورد الوحيد للماء في المنطقة، أما المياه المعدنية فهي ترف ورفاه ولا يشربها أحد، لقد كان يستغل وظيفته الجمعياتية لافتعال المشاكل مع النسوة، بصعوبة تمكّنت من الإفلات من براثنه وجلبت سيّارة نقل ريفي لوالدتي.

ركبت والدتي السيارة في حالتها المؤلمة ومعها والدي الذي كان في الحقل مع اخوتي ولم يكن يعرف ما حدث، واتجهوا نحو المدينة لتقديم شكوى ضد المعتدي، و تركوني في البيت حيث بعد نوبة بكاء استرجعت أنفاسي ورغم صعوبة الموقف خاصة أن اخوتي لازالوا في الحقل تجرّأت وفتحت التلفاز لأعرف نتيجة المقابلة التي كانت شغلي الشاغل أسبوعا كاملا ومحور حديثي الوحيد تقريبا مع أصدقائي بالمعهد حيث لا نتحدث آنذاك الّا عن الكرة والمسلسلات، لكن من سوء حظي وجدت المعلق الكبير رضا العودي يعلن عن نهاية المقابلة بالتعادل ويبشرنا بالعودة إلى "استوديوهاتنا المركزية" وتقديم أغنية "بالأمن والأمان يحيا هنا الانسان"، حضر موعد الأخبار فكتمت صوت التلفاز وتركت الصور تتحرك وحدها كعادتها لا شيء فيها جديد فنشرات الأخبار بطبيعتها صامتة في ذلك الزمن، ثم حضرت عشاء اخوتي وحاولت طمأنتهم قدر الإمكان.

بعد أيّام من الحادثة كانت والدتي تتردد يوميا على المدينة، مرّة تذهب إلى المحكمة ومرة إلى المحامين ومرة إلى مركز الأمن، وعند رجوعها تكون أحيانا مبتسمة وفي الغالب ترجع خائبة مكسورة الخاطر وتتحدث عن أشياء لا أفهمها حول المحكمة والقضايا والاجراءات، وقتها لا أجد ما أفعله أو أقوله، فقط كنت أتخيل نفسي كبرت وصرت محاميا لألقي خطابا كما في المسلسلات المصرية، وأقول :"سيدي القاضي حضرات المستشارين" ، أو مرافعة حماسية كالتي ألقاها أحمد زكي في فلمه الشهير "ضد الحكومة"، وقتها كنت أظن أن المحكمة بتلك الرومانسية وأنّ كل القضايا تفصل بذلك الشكل العلني الملهم كما في المسلسلات المصريّة، ولم أكن أدري أن هناك كتبة يرصّفون الملفّات والأوراق كما يشاؤون وينقلونها بين الأروقة لمسافات طويلة، ولم أكن اظنّ أن بائع القهوة قرب المحكمة أهمّ من القاضي نفسه، ولم أكن أظنّ أن ذلك الرجل بمحفظته الجلدية ونظارته القديمة الجالس قرب بائع الفطائر قادر أن يخرج أيا كان من أي قضية كما يخرج الفطائري الشعرة من عجين الفطائر.

بعد عناء أيام وأسابيع وبعد ما أنفقت والدتي من محصول تلك الأيام المضنية من قمح وفول وتبن، على سيارات النقل الريفي والكتاب العموميين والمحامين، رجعت ذات يوم من المدينة مستبشرة ومتحمّسة حيث يبدوا أن فرحا قادما، وبعد أقل من ساعة توغلت قرب بيتنا سيارة جيب نزل منها رجل الأمن المعروف في المنطقة فرحات بقبعته البيضاء ولباسه المهيب وخلفه سائقه والرجل الذي ضرب أمي بلباسه المرتب وشعره الممشط الذي لم يغزوه الشيب رغم تجاوزه الخمسين، وكان يمشي ورائهم بمسافة رئيس الشعبة وهو يدير رأسه يمنة ويسرة ويمد عنقه ككلب يشق الزرع في الربيع، كان يلبس جبة رمادية ورأسه رمادي بالشيب ووجهه بملامح برونزية مخيفة ويطوق يده بساعة "راتال" نطاقها جلدي تلمع كلّما أشار إلى شيء ما، تقدمت منهم والدتي واصطففنا أنا وإخوتي متكئين على جدار بيتنا. بدأ فرحات يؤنب الجاني ويتوعده وهو مطأطئ رأسه وكأنه يتظاهر بالندم، أكمل فرحات محاكمته الوهمية للجاني وسحب ملف كان يحمله سائقه، وفي تلك اللحظة تقدّم رئيس الشعبة وطلب التدخل، ورئيس الشعبة هو ممثل الحزب الحاكم في منطقتنا آنذاك وهو صاحب مقهى في قرية مجاورة كانت بؤرة للدسائس والتجسس والصفقات حيث يجب أن تقدم هدية للمرموقين من رواد المقهى مثلا  جهاز تلفزة أو فيديو "جي في سي" فقط كي تحصل على أكياس علف زائدة أو علبة طماطم وزيت وسكر، أو ربما تكون الهدية أكثر قيمة فتكون الخدمة أكثر قيمة كتحسين مسكن أو قطعة أرض من أملاك الدولة أو منصبا في جمعية مائية، تدخّل رئيس الشعبة ممثل الدولة والحزب الحاكم ممثل الحرية والحداثة وتحرير المرأة  وحامل لواء مكاسبها واقترب من والدتي وخاطبها بلهجة حادة قائلا:"أنت مرا مسيبة وتستاهلي الي جرالك"  وواصل عبارات التهديد والوعيد لإجبار والدتي على الإمضاء على الملف الذي يمسكه فرحات، وكان له ذلك فقد أمضى الجميع وطوي الملف، وبعد أيام اندملت جراح والدتي واستعادت نشاطها، واستعدت نشاطي كما ساعدني صديق على تلخيص رواية "الأحمر والأسود" وأجبت على بعض الأسئلة دون أن أقرأها كاملة، المهمّ أني قرأتها بعد سنوات مترجمة الى العربية، أما كأس أوروبا فلم اتابعها جيدا بسبب الظروف التي مرت بها العائلة فقط شاهدت الملكة تمنح الكأس لقائد الفريق الألماني، وفي لمح البصر انتهى الموسم الدراسي وجاء الصيف كي نلعب ونتابع المسلسلات و الأغاني "الوطنية".

___

محمد الخزري_ تونس



إرسال تعليق

0 تعليقات