«د. هجر شفيق» تكتب: سقوط
(قصة)
أكان من الضروري أن تجتاز ذلك الممر الخشبي المهترئ كوقر منبوذ موصول إلى حائط وجذع شجرة بحبال واهية، مُزقت بعض خيوطها وأجزاء من الحبل عائمة فوق سطح المستنقع الذي حمل إليه صنوفا وألوانا من الحشرات الطائرة، تعبر قطع الخشب المتحدة بحذر من يخشى السقوط، تشتكي للذي يليها في العبور من جهة الوصول وتُتمِم طريقها وهي تُتَمتِم بكلمات غير مفهومة.
عبر هذا الجسر الذي صنع سكان الحي بسواعدهم وقعت أحداث أليمة لا يمكن أن تنسى أذهان الصغار منها شيئا مهما بالغت في الكبر، بعضها يتقاسم همومه كثيرون ممن مروا من هناك في مثل تلك الدقائق ومثل تلك الأوقات، فقد يحدث أن تتهشم عظام العابرين من كبار السن فيكون العبور عبورهم الأخير والمعبر مثواهم الأبدي نحو السكون، كما قد يحدث أيضا أن ينفلت الأطفال من بين أصابع حامليهم كدخان، كل ذلك يحدث على غفلة من زمن وبسرعة تغدو بعد تلك الواقعات أثقل من ذنب ومعصية، وأبطأ من آمالهم في تحقيق ضرورات العيش في مدن الصفيح، تظل ذكرى السقوط ماضيا مشتركا بين ساكنة الحي، يسردون تفاصيله في مناسبات الفرح والحزن معا، مرغمون...
وجهة الطفلة ستكون هذه المرة المقبرة، حيث ستبلل تربة والدها الذي فارق الحياة قبل سنوات بعد صراع طويل الأمد والألم مع المرض، تريد أن تذكر ظروف موته لتبرر بكاءها الشديد، لتسم هذا اليوم بالسيء جدا، ماء القارورة التي أَلْفَت بين شجر الطلح آسن عكر، لكنه سيُبَلِل التربة لينبعث منها عبق الماء والتراب الذي تتنفس بعمق ودموع علها تشتم معه ماء الحياة من جديد، وتقلب وجوهها في الموت بحجم الجرح وبحجم يأس النهايات، ثم تهنأ أخيرا ببضع لحظات بهدوء النفس وهدوء المقابر.
صفعة المعلمة اليوم كانت أقسى من بعد حلمها وغفوة صبحها وغياب القريب إلى الأبد، وما بين الغفوة والحلم والصباح، رقاد و رفات وجدث ساكن.
هي تعلم أن قلبه طار إلى الفصل في المدرسة بأقصى ما يملك من سرعة، لقد رأت بوضوح حمرة دمائه الحارة تتدفق سيلا غاضبا في وجه المعلمة، واستدارت ولم تصفعها بعدها أبدا، لكن صفعتها فطرته وهزمت ما تبقى من صمود.
أكان من اللازم أيضا أن تخدعَ عينٌ نهلت من معين المعرفة وتسنيم العلم ثم اليقين مظهرَ أسمال رثة، وحذاء لا تملك غيره، رغم ما خلفت الأهوال والنيران والرزايا التي تقسم الظهور في روحها الصغيرة من كبرياء وإباء، كان باديا بوضوح في رؤيتها الخاصة لجميع الأحوال والمواقف، كانت عيناها تتطلع إلى غد اَكثر إشراقا، تلمعان بين عيون أترابها بثقة في الأفق الذي لوث صفو الأوقات، وفي الطريق الذي تشعبت مسالكه والتوت ونسيت أن تتوحد وتستقيم وتوضح معالم الأشياء.
حينما أطفأت شمس المساء وهجها اللافح ذلك اليوم، نحت بعض التراب عن وجه الرمس المنسي، تحركت جاثية قليلا إلى الخلف، مسحت بكفيها الصغيرتين عن وجهها المدور المبتل، ثم استقامت بسرعة وركضت خلف الريح والحصى.
عادت إلى حي الكاريان مجبرة ككل يوم، كما ولجت المعبر الخشبي مجبرة لتلج ساحة البراريك، حيث أقيمت بيوت صغيرة في كل صوب، لا تكاد تعرف أبوابها من أبواب غيرها، ثم مضت بخطى متعبة نحو ردهة صغيرة باتجاه أبعد غرفة، قد تدلى في مدخلها ستار زهري قديم، وخلف ذاك الستار أطلت على وجه والدة بئيس ترضع وليدا أشد هزالا من أمه، كان ذلك في الحقيقة وجه البؤس الحقيقي الذي خفي عن زملاء المدرسة، وجه أكثر شراسة مما يدرون عن الملبس وأكياس الكتب المختلفة الألوان والأحجام، وأشد شحوبا من وجهها الذي أَلِفوا.
رغم ذلك كانت تحسب الطفلة أنها ملكت بين أشياء البيت البالية كنوزا رفيعة القدر لم تكن لأحد سواها في الحي: حجارة مرصوصة بانتظام في صندوق، قارورات زجاجية ملونة، قطع أقمشة مزركشة، خيوط بيضاء، ثم أوراق تحمل رسوما وكتابات، تُحَمِلها ما تطيق وما لا تطيق من الذكرى، وتخاطبها بخطاب تفهمه، عن ولادة الفجر من ليل مظلم بهيم، و عن بعث الأرواح في أجساد الأموات غداة كل جمعة في المقبرة، وعن جسور الجنان التي يعبر البؤساء الطيبون بسلام، دون أن يسقط أحد منهم.
في الليل تتوسد دفاتر الغد على مرأى أمها التي تغطيها بحنان، تلاعب غدائر الصغيرة قبل أن تقبلها، تنكمش بجسدها النحيف ككرة ثلج، تحت الغطاء تنبسط أساريرها تأهبا ليوم غد، تغمض عينيها بقوة وتستعرض شريطه بانسياب وبلا كدر وقلبها يرقص فرحا لأنها أعدت الواجب المدرسي بكل تفان وأعدت المفاجآت للمُدَرِسَة، تبتسم حتى تنام على تلك الحال، دون أن تنتبه، تنام مبتسمة وبيضاء كملائكة الرحمن.
إرسال تعليق
0 تعليقات