أعدي لي الأرض| قصة للكاتب التونسي : محمد الخزري

 




”أعدّي لي الأرض كي أستريح، فقد تعبت من السفر“

 

هكذا خاطب عبد القادر والدته بكلمات من قصيدة الشاعر محمود درويش عند وصوله إلى الشاطئ مع أسرته.

كان الطقس لطيف ونسمات البحر المنعشة تخفف من وطأة أشعة الشمس الحارقة المنثورة على سطح الماء كحبات اللؤلؤ، والشاطئ غير مكتظ بالمصطافين، اختارت العائلة موقعا قريبا من البحر فيه شمسية مصنوعة من سعف النخيل وأعواد الخيزران وكراسي بلاستيكية مهترئة، حيث ترك عبد القادر مهمة تنظيم وتحضير ما يشبه الخيمة حول الشمسية بواسطة الملاحف والستائر لزوجته وولديه، ومهمة تحضير ركنه الخاص بجانبهم لوالدته ثم اتجه نحو المسؤول عن الشمسيات كي يدفع له معلوم الكراء وزاده علاوة على ذلك مبلغا اضافيا يسمى باللهجة العامية "بوربوار" مجاملة له على حسن اختيار موقع الاصطياف، اذ لا بد من دفع "بوربوار" من أجل التمتع بأي خدمة خاصة أو عمومية في الوقت المناسب والجودة المناسبة فمعلوم الخدمة وحده لا يكفي، بعد تسوية ملف الشمسية توجه نحو المرأب الشاطئي وهو عبارة على مساحة محاطة بجدران متداعية أركانها ممتلئة بركام البنايات وبقايا زجاجات مشروبات مختلفة ونفايات منزلية كتب على الجزء السليم من الجدار بخط عريض ورديء "مأوى بلدي للسيارات بمقابل"، يقف في مدخل المرأب المزعوم رجل غليظ يحمل عصا غليظة توحي بأن لا أحد يضمن سلامة سيارته من النهب والتكسير ما لم يدفع معلوم الايواء و"بوربوار" لصاحب العصا الغليظة.

ألقى عبد القادر جسده المنهك حيث أعدت له والدته متكأَ، أغلق هاتفه وسحب كتابا من حقيبته وراح يطالعه حتى أخذه النعاس فنام بعد رحلة مضنية بسيارته القديمة اذ قطع حوالي مائة وخمسون كلمتر من قريته إلى مدخل العاصمة في ظرف ساعتين، بينما استغرق ثلاث ساعات في اختراق زحمة السير في العاصمة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الفوضى والتهور، وفي المفترقات والتقاطعات لا قانون يعلو فوق قانون "البقاء للأوقح" فقد سمع مع أسرته ما لذ وطاب من السباب والشتائم والكلام السوقي من قبل سواق السيارات والدراجات النارية والهوائية والمترجلين، والكلام السوقي يسمعه من كافة الفئات حتى صفوة القوم، ولم تنجو زوجته من نظرات المتطفلين من المارة والتجار على قارعة الطريق حيث يبيعون كلّ شيء؛ الفواكه والخضر والمشروبات وحتى تبديل العملة ممكن على قارعة الطريق فوق صندوق آلة غسيل معطبة، غطّ في نوم عميق لبرهة من الزمن ليستفيق على لمسة والدته تنبئه باقتراب وقت الغداء فقبّل يدها وجال بنظره بين الشاطئ والمصطافين فرأى أولاده يلعبون الكرة ببراعة ثم يلقون أجسادهم التي بدت عليها ملامح النمو والرشاقة في البحر بشجاعة فهم يجيدون السباحة التي تعلموها منذ نعومة أظافرهم بفضل حرصه على أخذهم للاصطياف كل عام حتى لا يحرمهم من البحر كما حرم هو في طفولته حيث ظلت كلمات الشاعر التونسي جعفر ماجد تغزو ذاكرته كل صيف :

"العب بالرمل ولا تتعب فقد أوشك صيفك أن يذهب،

 فغدا تكبر يا ولـــــــــدي ، ويعود الصيف ولا تلعب"

يواضب عبد القادر على أخذ أسرته للترفيه والبحر كل صيف وان لزم الأمر يستأجر لهم بيتا في الشواطئ القريبة لأيام معدودة حسب المدّخرات المتوفرة، لكن هذا الصيف مختلف بالنسبة له فقد تحصّل على التقاعد من وظيفته واستكمل خلاص منزله الجديد بعد خمسة وعشرين سنة من الاقتطاع من راتبه لفائدة البنك الذي موّل المنزل، والمنزل عبارة عن شقة صغيرة بضاحية المروج جنوب العاصمة، وقد ظلّ يسوغه للطلبة طوال مدة الاقتطاع، وبالتالي قد توج مساره المهني بالحصول على منزل فضلا على نجاح ولديه في الدراسة وتمكنه من ارسال ابنته المتفوقة في الدراسة لاستكمال دراستها العليا في فرنسا،اذ يعتبر نموذجا للموظف الناجح بالنظر للظروف الصعبة التي يعيشها الموظف بصفة عامة في بلادنا. عبد القادر يعتبر موظفا مخضرما فقد تخرج من الجامعة في بداية التسعينات قبل ان تتفاقم بطالة حاملي الشهائد العليا، وقد استفاد من مشروع اصلاح التعليم المعروف بمشروع الدكتور محمد الشرفي، وهو ناشط سياسي وحقوقي يساري معروف قد اتهمه الاسلاميين بتجفيف منابع التعليم الديني حيث كان الصراع الايديولوجي في أشده في تلك السنوات وهو صراع لازال قائما إلى الآن، المهم أن عبد القادر استفاد من فصل مادة التربية المدنية عن مادة التربية الاسلامية وبالتالي انتداب خريجي الصحافة والعلوم الاجتماعية والحقوق لتدريس مادة التربية المدنية في المعاهد والاعداديات، وبحكم أنه كان شابا واقعيا وفقيرا خيّر التدريس على أن يلقي بنفسه في مغامرة مهنة الصحافة ومتاعبها، ولا يهم موقفه من اصلاحات محمد الشرفي فالأهم الحصول على مورد رزق ولقمة عيش.

حضر الغداء واجتمعت الأسرة حول المائدة في جو عائلي حميمي فقد كانت والدته تغدق عليه بحنانها فتختار له أفضل وأطرى قطعة لحم وزوجته تنافسها في المشاعر نفسها فتضع أمام ولديها زجاجات عصير الليمون والفراولة الطبيعية التي جمّدتها منذ فصل الربيع في علب الحليب الفارغة، وبعد الانتهاء من وجبة الغداء أجبر الأولاد على الراحة وبقيت والدته وزوجته تتجاذبان أطراف الحديث حول السكن الجديد وتحضير المؤونة وأشياء أخرى، أما عبد القادر فلبس مظلة من السعف على رأسه ولبس نظارة شمس ونزع فقط حذائه واتجه نحو الماء كأنه يمشي نائما أو مخدرا، فغاص في الماء ببدلته الرسمية التي حضر بها حفل التكريم في آخر يوم عمل بالاعدادية وتوقف عند وصول الماء إلى وسام الشرف الذي علقه على صدره مدير المعهد في الحفل، حيث أقام له زملائه تكريما بالمناسبة أطلقوا عليه اسم "الاحالة على شرف المهنة" وهو لا يريد هذه التسمية بل يريد التقاعد والراحة، وقد نال تقاعده بصفة مبكرة بسبب آلام حادة في ظهره وركبتيه،كان الماء صافيا فنظر إلى قدميه فرأى قدميه المتورمتين وأصابعه المعوجة بسبب سنوات من الوقوف والكتابة على السبورة بالطبشور ومحاولاته لاتقان مهنة التدريس وفتح قنوات الحوار مع تلامذته واعطاء قيمة لمادة التربية المدنية التي كانت مهمشة في منهج التعليم بسبب قلة عدد الساعات وعدم تأثيرها في النجاح والرسوب كالرياضيات والعلوم، فإصلاحات محمد الشرفي لم تعطي قيمة للتربية المدنية كما كان منتظرا انما خلقت جدلا وصراعا أيديولوجيا فقط. كان يمارس مهنة التدريس في معاهد مختلفة ويتجشم عناء السفر من معهد المدينة إلى اعدادية في الريف مرتين في الأسبوع كما أن المادة التي يدرسها لا توفر له فرصة تقديم الدروس الخصوصية والحصول على دخل اضافي، كانت مادة مهمشة لكنها خطيرة حيث يتم تفقد سجلاته بصفة مستمرة من طرف الادارة فهو يدرس التلامذة والحقوق والحريات والانتخابات وغيرها من المبادئ الانسانية، ولا يجب عليه أن ينحرف قيد أنملة عن البرنامج المسطر في الكتاب، وقد حفظ دستور البلاد التونسية لسنة 59 بكامل فصوله وتعديلاته عن ظهر قلب وحفظ دستور 2014 ومن حسن حظه قد تقاعد قبل أن تكتب دساتير أخرى.

نزع عبد القادر النظارة والمظلة والوسام ورفعهم بيده اليمنى كي يقيهم من الماء وجلس القرفصاء في الماء لبرهة من الزمن حتى استرخى جسده وخفت آلام ظهره وركبتيه ثم وقف من جديد والتفت نحو الشاطئ وأخذ نفسا عميقا وراح يجول بنظره بداية من جبل بوقرنين الشامخ الذي ترسو على سفحه مدينة حمام الأنف العريقة التي استوطنها بايات تونس ووجهائها منذ زمن بعيد ثم التفت إلى مدينة الزهراء الحالمة وراح يمسح الأفق الى أن وصل حيث تطأ قدميه شاطئ حمام الشط الجميل، فهذه المدينة قد عاش فيها سنوات الجامعة فقد كانت بدايته بالمعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي في مدينة بير الباي القريبة وسكن مع أبناء قريته الذين كانوا يشتغلون آنذاك في ورشة بناء لفائدة موظف وسياسي معروف من قريتهم أيضا كان يبني العمارات والمنازل الفخمة في تلك المدينة بعيدا عن أنظار المجلس القروي ومناضلي الشعبة، فرسب في السنة الأولى بسبب صعوبة العمل في البناء، ولما وجد عملا في مطبعة قريبة من جامعة تونس قرر تغيير التخصص وسجل في المعهد الأعلى للصحافة وعلوم الأخبار في العاصمة لكنه حافظ على السكن في حمام الشط وبفضل مثابرته وتعبه نجح وتخرج رغم أنه لم يكن من المتفوقين في الدراسة، ظلت الذكريات تتدفق إلى ذهنه منذ أيام الدراسة والعيش في الضاحية الجنوبية للعاصمة وتغمر خياله كما تغمر الأمواج الخفيفة قدميه وهو يغادر البحر تدريجيا بملابسه المبللة كأنه كائن بحري خرج لتوه بحثا عن أشعة الشمس، جلس على كرسي ليجفف ثيابه وناولته زوجته منشفة وضعها على رأسه فوق المظلة فتنفس الصعداء وطأطأ رأسه فعاودته نوبة التفكير، راح يفكر فيما سيفعل بالمستقبل، وكيف سيقضي الوقت الفائض عن حاجته، لقد قضى حياته المهنية كموظف منضبط لم يقم بأي نشاط تجاري ولا سياسي رغم أنه خريج صحافة، هو يعتبر نفسه ناشط ساسي وحقوقي غير معلن فقد قام بكل ما في وسعه لتربية التلامذة على المواطنة رغم الحواجز والرقابة، الصحافة مهنة أحبها كثيرا غي الجامعة عندما درس قواعدها وأصولها وأخلاقياتها، هو أحيانا يرى نفسه محظوظا أنه لم يمارس مهنة الصحافة عندما يراها تداس كل يوم من طرف كلّ من هب ودب، وعندما يرى آلاف خريجي معهد الصحافة يعانون البطالة ووسائل الاعلام تعج بالمتطفلين والدخلاء، وأحيانا يتحسّر على عدم خوض غمار العمل الصحفي ونيل الشهرة والمال كبعض مشاهير البرامج التلفزية والاذاعية، كاد يغفوا في مكانه تحت أشعة الشمس وقد جفت ملابسه لولا أن نادته والدته ليجالسهم على كأس شاي.

جلس عبد القادر قرب والدته وتناول كأس الشاي الدافئ ورفعه للأعلى ثم ارتشف رشفة طويلة ونظر لزوجته قائلا :"الشاي لذيذ مع الراحة" ثم واصل الحديث عن المتاجر والأسواق القرية والأسعار ومحال الملابس المستعملة في مدن الضاحية الجنوبية، وبينما كان النقاش على أشده تعالى صياح ولده الصغير الذي بدأ يغوص في الماء ثم يصعد الى سطح البحر ويضرب الماء بكلتا يديه ويستغيث، أما اخاه فقد اختفى، أطلقت زوجته عقيرتها بالصياح وهرعت في اتجاه البحر أما والدته فلحقت بها كي تثنيها عن الدخول في الماء، أما عبد القادر فتمالك نفسه واتجه إلى خيمة المنقذين ثم تناول هاتفه وطلب الغوث من الحماية المدنية، في طرفة عين تحولت مشاعر الفرح وحالة الاسترخاء الى هلع واستنفار، حاول عبد القادر الثبات في وقفته والحفاظ على هدوئه رغم آلام الظهر والركبتين التي وخزته في لحظة خوف وحيرة فحاول ألّا يعلن حدادا سابقا لأوانه أمام رعب ولده الصغير الذي دسّ رأسه في خصر والده كقطّ شريد وانهيار زوجته التي تتخبط على سطح الماء رغم مقاومة والدته، وفي وقت وجيز تدخل سباحين منقذين فغاص أحدهما وسحب الولد مغميا عليه وساعده السباح الآخر في إخراجه للشاطئ وقامو بإسعافه وإخراج الماء من جوفه ووصلت سيارة الإسعاف في الوقت المناسب فنقلت الولد ووالدته التي تمسكت بالسيارة فوافق الطبيب على مرافقتها لابنها واتجهت نحو المستشفى.

بقي عبد القادر مندهشا في مكانه والرعب يملؤ قلبه إلى أن اقترب منه المنقذ ليطمئنه فقال له أنه كان يراقب ولديه يسبحان بمهارة وأن ولده ربما غرق بسبب الاغماء وسيتم انقاذه في المستشفى، فقال المنقذ الآخر ان هذا المكان من الشاطئ فيه حفرة كبيرة بسبب صاروخ سقط منذ سنوات في عملية حمام الشط المعروفة، شكر عبد القادر المنقذين وجمع كل الأغراض وأخذ والدته وولده والتحق بالمستشفى ورغم انشغاله بوضعية ولده وزوجته جلب انتباهه كلام الشاب المنقذ عن الصاروخ الذي تسبب في حفرة على شاطئ البحر، وراوده سؤال حول ما اذا كان هو وأسرته أيضا ضحية أخرى من ضحايا المعتدي الغاشم الجاثم على صدر البلاد العربية وعلى فلسطين الأبية.

بعد أيام خرج الولد من المستشفى سليما معافى فقرر عبد القادر أن يأخذ ولديه في نزهة في مدينة حمام الشط ويشكر أعوان الحماية المدنية ثم يشكر السباحين المنقذين ويسألهم مرة أخرى عن قصة الحفرة ان كانت حقيقة او من نسج الخيال، ومع ذلك فعملية حمام الشط كانت حقيقة مرّة حيث هاجم الكيان الصهيوني الغاشم في أول أكتوبر عام 1985 تونس بغارة جوية راح ضحيتها حوالي 68 شهيدا من تونس وفلسطين وأكثر من مائة جريح وخسائر فادحة في الممتلكات والبنايات والطرقات.

وقف عبد القادر في خشوع أمام النصب التذكاري لضحايا عملية حمام الشط وحكى القصة كاملة لولديه ودعاهما لان يحفظا القضية في قلبيهما.




إرسال تعليق

0 تعليقات