«الهادي نصيرة» يكتب: لقاء الوداع الأخير!
لقاء الوداع الاخير..
.........................
في زمن مضى، كنت و اخي "مهذب" ، ما نزال أطفالا.
كان يصغرني بثلاث سنوات، وكنا نعيش ايامنا هانئين ، لا نحمل هما ولا غما ، ولا يعرف الكره ولا البغضاء إلى قلوبنا سبيلا.
وكنا متلازمين دائما ، نقضي اطول اوقات النهار معا ، ولا نفترق الا اذا غشي أعيننا ظلام الليل ، وأوى كل منا إلى فراشه .
انقضت تلك الايام الجميلة باوقاتها الممتعة، بطيشها وبراءتها، وشقاوتها ، وعفويتها، وانقضت معها أعذب مساحة زمنية للحلم والفرح ، والصفاء والنقاء.
وتعاقبت السنوات ، وشاءت الظروف ان يغادر اخي "مهذب" مقعد الدراسة بالمعهد الثانوي ليجد نفسه ، بصورة مبكرة، كالهائم دون بوصلة ،في دروب الحياة ، ومتاهاتها المتشعبة.
واذكر أنه في يوم من ايام شهر حزيران في منتصف السبعينيات ، امتلأت ساحة بيتنا بالاجوار كبارا وصغارا كانوا قد هرعوا يستجلون الأمر ، وتجمعوا وسط عاصفة من عويل النساء، وفي جو خيمت عليه الكآبة والحزن والدموع والتساؤلات الحائرة : ماذا جرى؟ متى ؟ وكيف ؟ . في ركن اخر ، بدت على ملامح الرجال الحاضرين علامات الاسى الشديد ، واكفهرت وجوههم وتجهمت ، وهم ينصتون إلى اخي الاكبر، الذي وصل للتو من المدينة ، وأنشأ يروي أطوار الفاجعة :
أقام اخي "مهذب " منذ مدة في مدينة "صفاقس" التي تم تفصلها عن ريفنا المنعزل زهاء المائة كيلومتر جنوبا .
وقد كتب له أن يجد نفسه ،في ذلك اليوم ، منهمكا في افراغ شحنة من الأكياس المعبأة بمبيد الحشرات الضارة، رفقة فريق من عملة الميناء. وقد ظل ، طوال النهار، يحملون الاكياس على كتفيه دون كلل ، وهو الذي لم يعتد القيام بمثل تلك الأشغال المرهقة، والتوقي من أخطارها.
الوقت يمضي ، وهو يواصل عمله دون ان يكترث إلى تناثر ذرات الغبار الخطير ، المتسرب من ثقوب الاكياس، والمتسلل إلى أعماق جسمه، والمسبب في إصابته بتسمم مهدد لحياته .
وما ان حل المساء ، حتى احس اخي "مهذب" بآلام شديدة تنهش معدته وامعاءه دون توقف، وظلت حدتها في ازدياد كلما تقدم الوقت، فاستوجب ذلك نقله إلى المستشفى. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها الطاقم الطبي ، هناك ، فقد ساء وضعه الصحي ، ثم ما لبث أن دخل في غيبوبة تامة استحالت معها كل محاولات الإسعاف والتدارك . قدر الله وماشاء فعل، وتوفي اخي ، في صباح اليوم الموالي ، بقسم العناية المركزة.
بعد بضعة ايام من رحيله، وقفت على قبره اتلو سورة الفاتحة ترحما على روحه الطاهرة، ثم غادرت المكان عائدا ادراجي الى المنزل، دامع العينين، مستحضرا في ذاكرتي أياما واعواما عفا عنها الزمن وطواها الأمس البعيد إلى غير رجعة.
وكم احزنني ان اتذكر انني كنت ،قبل ذلك الحدث الاليم باكثر من اسبوع ، غارقا في المراجعة استعدادا لاجتياز امتحان ختم الدروس بمدرسة تاهيل المعلمين، حين تلقيت زيارة اخي "مهذب ". وكم سعدت حين رأيته منشرحا ، مبتهجا، تعلو محياه ابتسامة مفعمة بالفرح والسعادة.
لم نتحدث كثيرا ، ولم يستمر بقاؤه معي وقتا طويلا ، وما لبث أن غادر بعد أن تواعدنا على اللقاء في الايام اللاحقة، عند عودتنا إلى أحضان ريفنا لنستنشق الهواء العليل ، ونلعب ونجوب السهول جريا، ونتسابق وسط الحقول ، ونرتاح تحت ظلال الشجر، وياخذنا الشرود ، ونمضي باحلامنا، وآمالنا، وامانينا الجميلة إلى الأفق البعيد.
هكذا هي الدنيا . يحيا فيها الانسان ما قدر له أن يحياه، مسايرا مرور الأيام ، وتعاقب الشهور والاعوام، وهو لا يعلم ما يخبؤه له الغيب !
لقد قضت مشيئة الله أن
يرحل اخي "مهذب" رحلته الأبدية ، وان يوارى الثرى في نفس تاريخ ذلك الموعد الذي كنا نود ان يجمعنا معا عند العودة إلى الديار.
ولم نكن ندرك ، يوم التقينا بصفاقس ، اننا سنلتقي للمرة الأخيرة في الحياة.
-الهادي نصيرة/تونس-
إرسال تعليق
0 تعليقات