لذّة السقوط| قصة قصيرة لرمضان سلمي برقي
صوتي يتحوَّل لعندلة كلما مررتُ من أمام شقته؛ شعوري بأنه بالداخل، يستمع إليّ؛ يجعلني أثرثر بأي هذر:
- الجو بارد جدًا اليوم! لا أدري لماذا!
وأطيل وقفتنا أنا وأمي أو أنا وأختي أمام باب الشقّة لدقيقة؛ تمرّ عليّ كأنها يوم مُزدحم الأشغال...
- بارد لأننا بالشتاء يا أختى... ما خطبك!
حتى بعدما تزوّجتُ وتركتُ البيت؛ لا زلت أذكره! لاأزل أذكر رؤيته لأول مرّة؛ وجهه الخمري، شعره القصير المجعّد، جلبابه البسيط، وخفه الجلدي، لحيته النابتة وشاربه القصير. كنتُ عائدة من عملي بورشة الخياطة، صاعدة السلّم، أتمايل في عباءتي السوداء مُنهكة القوى، وجدته يُدخل أمتعته البسيطة إلى الشقّة. هو من سيسكن شقة الطابق الرابع، التي تسبق السطح حيث نسكن أنا واختي الصغرى، وأخي الأصغر ووالداي.
كان مُتعرِّقًا إثر مجهوده، والجو الحار، انتبه لمروري بجانبه فبادلني ابتسامة، ثم أفسح طريقًا لي بين أمتعته لأمُر، فبادلته الابتسامة مُلقية السلام، فأجابني بصوت متهدِّج:
- وعليكم السلام أختي.
ثم حَمَلَ أشياءه واختفي بالداخل؛ توقّفتُ لحظات أرقب الباب، ثم انتفضتُ لسذاجة فعلي مُكملة طريقي.
- أمي... لقد رأيتُ شابًا بالشقّة أسفلنا يدخل أمتعته!
كانت خارجة من المطبخ مُتعرّقة بثيابها الخفيفة:
- إنه شاب جنوبي أعزب، وهو من سيسكن بها!
- سألتها بعد لحظة صمت:
- ولِمَ يُسكن صاحب البيت أعزبًا بين عائلات!
- لربما يمر بضائقة ماليّة؛ ولم يجد سواه! غيِّري ثيابكِ والحقي بي إلى المطبخ، قبل عودة أبيكِ وأخوتك؟
تهالكتُ فوق الأريكة؛ شاردة في اللاشيء، لم أبدِّل ثيابي آنذاك، ولم ألحق بأمي. لم يكن بيني وما بين ”الأعزب“ سوى السلام؛ خجول هو كفتاة بكر. أنا البكر لستُ في خجله. لماذا لا يهتم بالكلام معي؟ أم أنه لا يفضِّل فتيات المدن! أهو تحقير لهن أم خجل منهن أم ماذا؟ تساءلتُ غير مرة ولم أجد الاجابة!
أُصادفه بطرقات الحي وأزقّته؛ وهو ذاهب إلى عمله الذي لا أعرفه مبكرًا، أو وهو عائد منه مساءً؛ فنتبادل النظرات، نظرات صامتة لا تتوانى عن الثرثرة، وكأنه يقول: أنت الفتاة التي تسكنين بالأعلى؛ أعرفك؟
أو:
- أنت جميلة أتمنى أن نتحدّث معًا ولكن...
أسأل عينيه: ولكن ماذا؟ ألديك ثمّة إجابة أيها الأعزب الجميل؟
لكن لا تجيب عيناه! تحين منه التفاتة لجسدي الممتليء قليلًا بالعباءة السوداء، ولبروز نهديّ، وربما ينظر أيضًا إلى مؤخرتي بعد ابتعادي عنه! لحظتها أعتقد بأن عيناه تصرخ إليّ:
- انت تمتلكين جسدًا مُثيرًا، أتمناه، وأحلم به أحلامًا شبقة؛ أِضاجعه في خيالي.
كلمات عيناه؛ كانت جريئة، وجميلة.
***
تمت خطبتي لزميل لي في ورشة الخياطة، بل هو معلمي الذي أعمل تحت إمرته منذ سنوات؛ لقد تشربتُ الصنعة على يديه، هو شاب طيب ويحبني، أما الأعزب فهو كالميِّت في برزخه المجهول؛ لا أدري أهو معذّب، أم مُنعّم؟ لا تصدر عنه أي انفعالات؛ جامد هو كالسماء؛ لا يَسقُط ذات مرة كسفًا على أرضي! لم يحاول في مرة أن يتبادل أطراف الكلام معي بلسانه، بدلًا من عينيه.
في كل مرة يزورنا فيها خطيبي؛ أنزل معه ليلًا لأرافقه حتى باب البيت بالأسفل؛ وقبل أن ننزل؛ نقف أمام شقّة الأعزب؛ نتبادل الهمسات، ولمسات الأيدي، والأحضان والقبلات.
قبلات أحاول أن أجعلها تصدر ضجيجًا، علّه يسمع فيستفيق من رقاده، أو أصدر من فينة لفينة تأوهات أضع كل مالديّ من غنج بها. أحيانًا كثيرة؛ أتخيّل الأعزب هو خطيبي؛ وهو من يقبِّلني ويحتضنني بين ذراعيه السمراوين المفتولين، وصدره العريض.
أفكِّر؛ ربما يتنصّت إلينا من خلف الباب الخشبي الساكن، ربما يمارس الجنس من طرف واحد على أغنوجاتي! أو ربما نائمًا، أو ربما غير موجود أصلًا.
كأنه حُلم! أو لاشيء؛ يدخل شقته، يغلق الباب، ثم تنقطع جدرانه عن بث أي همسة أمل تدل بأن تلك الشقة فيها بشر. قلّ ما تبث جدران شقته وسقفها؛ أغان جنوبيّة كلها فرح ونوح، وأشد ما يميزها؛ المزمار والرَّباب؛ المزمار الصدّاح المُتجاهل لكل الآلات الموسيقية بجواره، والرَّباب التي تنوح من تجاهله إياها.
في يوم الجمعة؛ ننظِّف الشقّة ونرتِّبها، ثم أذهب لأحضر الإفطار: بابه ساكن! أحاول عبثًا أن أؤخِّر نفسي في المطعم لعليّ أراه حينما يأتي؛ ولكنه لا يأتي. أعود، نفطر جميعًا، ثم أرقب الطريق من الشباك وبيدي كوب الشاي الذي ملً مثلي من الانتظار؛ فلا يخرج: كيف يعيش إذن، ألا يأكل مثلنا!
تزوجتُ بعد سكنته في البيت بعامين في شقّة بعيدة عن الحي، وأنجبتُ فتاة. أعيش حياتي مثل أي أسرة، خصام لأيّام، ووئام لشهور، ولكن كثر ما تخيّلتُ الأعزب مكان زوجي وعلى سريره؛ في حلم منام أو حلم يقظة. أغمض عيناي، وتلتحفني لذّة مشوبة بدوار، وكأني أسقط من السماء، فيتلقفني فوق ساعديه القويين، يقلِّبني فوق صدره العريض المُلتهب كرمال الصحراء. كشاة عارية من جلدها؛ أنضج فوق جمره ببطء. أتركه يعبث بكل مافي قافلتي التائهة، ليعيدني في النهاية إلى هودجي المزخرف؛ أبهى من ذي قبل!
كلما أتيتُ في زيارة لأمي؛ وما إن دخلت البيت، إلا وتساقطتْ دقّات قلبي كجبل صخور خرّ من علٍ! حنين غامض يسحلني لرؤيته، ولسماع صمت جدرانه، أو مزمار أغانية، أو الرثاء لأنين ربَّابه. وأخشى أن يكن قد غادر بلا رجعة، فمجرَّد احساسي بوجوده في الداخل يريحني كثيرًا. فقلّ ما أصادفه بمدخل البيت أو أمام شقّته، ونتبادل ذات النظرات الثرثارة، التي باتت -بعد زواجي- تقول لي: ليتني أنا الأب لابنتك؟
أو:
- ليتني أنا من أبات في أحضانك كل ليلة.
***
قبل زواجي؛ كثر ما تمنيت أن أطرق بابه، وما إن يفتح لي؛ إلا وأرتمي بين أحضانه وأقبِّله، وأشهق بالبكاء. واتتني أكثر من فرصة؛ فقد كان ينسى أحيانًا مفتاح شقّته بالثقب من الخارج، أو ينساه فوق سور السُلّم القصير، ويتفق بأني عائدة من العمل، فأطرق بابه فيفتح:
- مفتاحك... لقد نسيته بالخارج؟
أقولها له متعرِّقة؛ فيبتسم فأبادله الابتسامة، وتقول لي عيناه:
- أدخلي فأنا مُحتاج إليكِ؟
ولكن لسانه ينطق بشيء آخر:
- أشكرك أختي... تصبحين على خير؟
فكنتُ أواصل آنذاك صعود درجات السلم القليلة المتبقيّة متكدِّرة، ساخطة. في إحدى ليلات الشتاء الأخير قبل زواجي؛ كنتُ أقف بصحبة خطيبي، أمام شقّة الأعزب كالعادة، وقد اقترب ميعاد زواجنا، وذاك ما جعلنا لا نترك خلوة قصيرة الأمد إلا واستهلكناها ألذ استهلاك: قبلات، أحضان، لمسات شبقة؛ كنّا نتجهّز للآت. أمام شقّة الأعزب؛ كنّا سكارى من شدة الانتشاء. في تلك اللحظة؛ لم أكن أتخيّل الأعزب مكان خطيبي، ولكني كنت في اللذّة من نهاية.
فجأة؛ وجدتُ الأعزب يخرج من باب شقته ويقف صامتًا يشاهدنا، وعلى وجهه الذي استحال إلى أحمر لا يعتوره شيء _سيماء غضب شديدة مُرعبة.
لا أدري لماذا شعرتُ لوهلة أنني امرأة خائنة، والأعزب هو زوجي الذي ضبطني للتو متلبِّسة بالخيانة مع رجل غيره! عندئذ انقبض قلبي وغار في أعماق جسدي المرتجف؛ ومادتْ الأرض بي؛ فانخلعتُ من حضن خطيبي فزعة، فنزل خطيبي إلى الأسفل وكأن شيئًا لم يكن، وهرولتُ أنا إلى الأعلى.
لم تهدأ انقباضات قلبي، وتسكن رجفات جسدي، وتتزن بي الأرض؛ إلا بتساقط زخّات دموعي وأنا أهرب من نظراته التي لم أفهم حتى الآن؛ ماذا كانت تقول لي آنذاك؟
____________
(لذّة السقوط)
من المجموعة القصصية #أنشودة_الموت
إرسال تعليق
0 تعليقات