الهادي نصيرة يكتب: اطلال دار وذكرى!
هناك في سفح الربوة غير بعيد عن بيتنا ينام منزل ريفي قديم مهجور منذ اعوام طويلة... اعرف انه ظل آهلا بمن سكنه من الجيران على مدى ثلاثة عقود متتالية قبل أن يتفرقوا ويرتحلوا بعيدا ويؤثروا عيش المدينة ويتركوه وحيدا للفراغ والنسيان...
خطر لي ذات مرة وانا أمر بالقرب من ذلك المكان ان اترجل من سيارتي واجول ببصري في ذلك الفراغ الموحش الذي لف المنزل وطوقه من كل الجهات فأضحى كأنه بقايا اطلال ساكنه او كجثة هامده لاروح فيها.
كل شيء في البيت يوحي بالاندثار والتلاشي... جدران متصدعة متداعية ، بين شقوقها بنت بعض العصافير اعشاشها، وتقشر طلاؤها بفعل قساوة الايام و الفصول وتقلباتها،سقف أمسى لونه كلون الرماد، نسجت حوله العناكب خيوطها طولا وعرضا ،نوافذ مهشمة، عتبة بالية ، متآكلة ،جرة ماء تحطمت اجزاؤها ثم تناثرت هنا وهناك بعد أن غمرتها الاتربة واضحت اثرا بعد عين ...
ياحسرتى على ايام مضت وانقضت!
بالأمس القريب وعلى امتداد البصر يتراءى لك السهل المغطى ببساط أخضر جميل تحيط به أشجار الزيتون واللوز و التفاح والخوخ و الرمان منتظمة في صفوف طويلة متوازية، وسواقي المياه المتلالئة تحت أشعة الشمس الدافئة والمتسللة في هدوء بين جذوع الاشجار لتعزف أروع الألحان وتبعث في النفس انشراحا وارتياحا وبهجة.
واليوم امست تلك السهول الخضراء البديعة باهتة مصفرة خاوية على عروشها ينهشها الجفاف، ولم يبق من تلك الغابات المترامية الأطراف والظلال الوارفة سوى بقايا شجيرات يبست جذوعها وتاكلت اغصانها واضحت عارية جرداء تذرو اوراقها الرياح العاتية وتتقاذفها العواصف الهوجاء.
هكذا هي الدنيا... لا أحد منا نحن البشر بقادر على أن يوقف حركة الزمن.
وقفت اتامل المشهد بنظرة شاردة واتذكر تلك الأيام الخوالي التي كان فيها ذاك المنزل يضج بالحركة والحياة وأمل الكبار وفرح الصغار ليصبح اليوم خاليا لا صوت فيه سوى صدى زقزقة العصافير التي كانت تملأ المكان وبقايا اساطير وقصص وحكايات سمر لا تنتهي في ليالي الشتاء الطويلة.
وقفت وفي ذهني أسئلة حيرى تحاصرني :
ترى ما الذي يجعلنا دائما نحن الى الماضي الذي طواه النسيان؟ هل هو البحث عن "الجمال المفقود " ؟ أم هو الهرب من قسوة الحاضر ؟ أم هو الخوف من غموض الاتي ؟
غادرت المكان لاعود إلى بيتي وقد ازدحمت في داخلي الذكريات، و أحسست بأنني اشتاق لنفسي، لهمومي، لآمالي، لاحلامي وأمنياتي التي كلما توقفت واوشكت جذوتها ان تنطفىء ،انبش في رمادها بحثا عن بقايا لهيب لأعيد اليها نبض الحياة من جديد.
_ الهادي نصيرة 21 ماي 2020 _
إرسال تعليق
0 تعليقات