«بعث جديد» قصة للكاتب: أسامة الدواح



أمسك عصاه التي يتوكَّأُ عليها، وفتح الباب على مصراعيه لينْسَلَّ عبره النور، كأنه طارق بن زياد يفتح الأندلس..!! بدأ يعد الخطى، الأولى تحيي في مخياله ذكرى زمن قد أُقبر... وأخرى تميت ما رسب في ذهنه من دَرَنِ الدهر... !!
كانت الفرقة الموسيقية تضع مُعِداتها على هوامش حارة الدراويش..-يسميها بلغته المتثاقلة حارة الدواويش- يستعدون لإحياء فلكلور ٍطمسه غبار الحداثة...
جلس يشير إليهم بعكازه ويرتبهم على هواه... فقد نصب نفسه شيخًا وهم مُريدوه...بدأ العزفُ عودًا وتلاه أنين نايٍ، ثم دفوفا، وجعل من عصاه آلة تتبع الطبل إن قُرع...
في قراراته نفسه يردد.. هذا القديم ونحن أسياده...
انتهت المعزوفة التي نفثتِ الروح في فلكلور قد أُميت، استند على عكازه ذي الرأس الهلالي... لوَّح لهم بيده راضيا عما شاهدته عيناه وأُطربت به أذناه رغم رداءة طبلهما.
 رفع رأسه للسماء يراقب حركية الشمس ومكان استقرارها، تمتم: إنها الظهيرة. دبيب سوق '' الدْشَار'' لهذا اليوم غير عادي، ربما تقهقرتِ الأثمان، فضل أن يأخذ الرصيف مشيا، هربا من ضوضاء تؤرق مضجعه ليلا وتفسد سيمفونية شخيره.. يبحث عن حياة.. يبحث عن ألبوم متحرك.. يقرأ من خلاله تاريخه المنفي على مهل..
يجتمع أولاد الحُومة بجلابيبهم الخشنة، في ركن المرح كل ظهيرة يلعبون ببلابيلهم، وقف يشاهد أمهرهم، ويشير بعصاه كل مرة ليختار من التالي.. حدد المعيار : قوة الرمي، سرعة الدوران وطول مدتها، ومساحة الحفرة التي تتركها لولبية المسمار فوق التراب... أربض على كتف عْلِي. ووشحه...
واصل المسير هبت رياح خفيفة باردة، سُمع معها صوت عْلِي قائلا:
وأنا هو مُولْ '' الطرومبية''....
عاد للبيت وعلامات التعب تغالب جسده النحيل... نادى بصوت حنون، يا فاطْمة أين قهوتي، دخل المطبخ ووجدها منكبة في حديث طويل مع جارتها، لم يقاطعهن، وضع عكازه جانبا وأحدث به صوتا - متعمدا ذلك- كي يثير انتباههن، جلس القرفصاء يختلس السمع ويسترق الحديث، لكن أذناه خيبت ظنه.. تذكر وقع طبول فرقة الفلكلور على سمعه، ندب حظه وعاتبهم... 
انفلتت بعض الكلمات التي كانت تدافع بها صفية عن ابنتها، لم يميز بالذات ما تقوله، ولكنه فهم أن المشكل بين الجنسين، قال في قرارة نفسه؛ جيل اليوم لا يعرف كيف يحب.. بل يتقن خلق المشاكل وعدم القدرة على حلها... 
رفع رأسه وتأمل صورة له مع فاطْمة، صورة يوم زفافهما، كان واقفا وقفة جندي مغوار حرر للتو جزيرة مستوطنة، وبجنبه فاطِمة كأسيرة محررة من قبضة سلاطين مستبدين... أشار ببنانه إلى الصورة.. وقال: هذه الصورة بحد ذاتها درس في الحب... فلتتعلمن أيتها النسوة ضرب المثل بالأنموذج، لا بلغوٍ ضارٍ حرمني من قهوتي... 
وضع رأسه على وسادة قطنية عليها شعيرات حمراء بالحناء تعود  لفاطْمة.. واجتاحه النعاس في غفلة من أمره... ليعبر العالم الأرضي نحو عالم رؤيوي لا شعوري... راكبا قارب الزمن ومجذفا بسجل ذكريات لم يحن أجلها بعد.. 

إرسال تعليق

0 تعليقات