وداعًا مهاتنا| قصة للكاتبة المصرية: نجلاء محمد السيد
نبضات قوية تكاد تخرق الصدور، تلك هي اللحظات الأخيرة من إعلان الطبيب بأن الحالة فارقت الحياة، لا أحد سيحزن أو ينتظر أمام الغرفة في خوف و فزع، لأن المريضة لم يتبقى أحد من عائلتها سوى والدتها التي تقبع في الغرفة المجاورة للمستشفى و هي أيضًا تتصارع روحها بين الصعود للسماء والعودة مرة أخرى بسبب الصدمات الكهربائية.
طوال حياتي لم أؤمن بالمعجزات في هذه الحوادث، لكنني شاهدت المعجزة "رنا" بعد تحويل جثتها للدفن بأمر الأطباء تستعيد وعيها و كأن لم يحدث لها شيء، هل "رنا" لم تقم بالحادث ؟ و ماذا عن والدتها التي فارقت الحياة و قد كانت أقل ضررًا عنها ؟ كل هذا وأكثر سنكتشفه عندما تجيبنا "رنا" الفتاة المعجزة، انتظرونا بعد قليل مع مقدمة البرنامج "سالي عادل" من قناة الحقيقة.
قاطعت حبل ذكرياتي صديقتي بصوتها المملوء بالعتاب قائلة:
-أمازلت تحتفظين بذلك الفيديو ؟
رديت عليها بهدوء لا يخفي حزني القابع في جوفه:
- كيف أنسى بأن يد الموت أخذت والدتي و تركتني أصارع أمواج الحياة وحدي.
- هوني على نفسك هذا قضاء الله.
- أنا من افتعلت الشجار داخل السيارة و كنت السبب في الحادث.. أنا من تستحق الموت.
- أنت لن تستمعي لكلامي كعادتك وأنا سئمت منكِ.. وداعًا.
دلفت إلى عملي كعادتي وعندما أتممته، لاحظت أن "منة" لم تأت للعمل و لا إلى المنزل حتى الآن اتصلت بها فوجدت هاتفها مغلقا، راسلت الكثير من الأصدقاء عسى أن تكون بمنزل أحدهم، لكن النتيجة باءت بالفشل، مر أسبوع و لا أعلم عنها شيئا، بينما كان التوتر الذي يعتريني يملئ المنزل، فقد جاء "صابر" و طلبني للزواج، أعطيته الموافقة دون أن أفكر فقد سبق وعرض الزواج بي لكني رفضته.
"صابر" شخص جميل و مهذب و يمكنه أن يحتويني بحبه الذي يكنه لي منذ سنتين، فنحن نعمل سويًا، رغم أنه كان متزوجا من قبل لكن ذلك لا يعيبه، و قد وافقت لأنني بحاجة إليه بعد وفاة والدتي.
قمنا بحفل زفاف صغير، وعلى أمل أن تظهر "منة" عندما تعلم بزواجي ستأتي بالتأكيد. كل يوم كنت أتأكد أنني محظوظة بزوجي، فقد كان يحسن معاملتي وعلى خلق شديد، وحنانه الدائم منحني الأمان. حياتي المستقرة لم تدم كثيرًا، بدأت أشعر بأصوات مختلفة بالمنزل، كطقطقات على الخشب، وأصوات مقبس يستمر بالنفخ، فذهبت وقصصت ذلك على مسامع زوجي، فأخبرني بأنها مجرد أوهام بسبب خوفي الشديد، ونصحني بتشغيل القرآن في المنزل كي يهدئ من روعي.
لم يمض على زواجي شهرين عندما أبلغتني الشرطة أنهم عثروا على جثة "منة "بداخل أكياس القمامة مقطعة أجزاء صغيرة، وفي الليلة ذاتها سمعنا بحادثة قتل في الشقة المجاورة لسيدة في الخمسينات، ولكون جريمة القتل غامضة سجلت ضد مجهول.
منذ ذلك اليوم وأنا أحصن نفسي والقرآن لا ينقطع في منزلي، لا أنكر أنني شعرت بالخوف من يوم الحادث، لكن حنان " صابر" وحبه عوضني و أزاح كل الخوف الذي سكن بداخلي. ذات يوم استيقظت من نومي بعدما شعرت باقتراب أحد، حاولت النهوض لكنني شعرت بأنني مقيدة ولا أستطيع تحريك جسدي، ثم فجأة فك قيدي، نظرت إلى جانبي فلم أجد زوجي، ناديت عليه لكنه لم يجب. ثم رأيت جسد امرأة يدنو نحوي، و عندما اقتربت وجدتها جارتي التي قتلت، وضعت يديها على رقبتي وضغطت بشدة وأنا أصرخ، أبعدتها بصعوبة لشدة قوتها وركضت إلى باب الغرفة وصعقت عندما لم أجده... في خوف شديد ذهبت لجميع اتجاه الغرفة وطرقت عليها على أمل أن أجد ذلك الباب لكنني لم أنجح، بعدها غبت عن الوعي ثم استيقظت على صوت زوجي الذي بدا عليه التوتر قائلا:
- هل أنتِ بخير؟.. استيقظت على صوت صرخاتك المكتومة، فكنت تتصرفين كأنك لم تريني بجانبك ثم وضعت يديك حول رقبتك و رحت تخنقين نفسك، حاولت إبعاد يديك لكنك لم تعيريني أي انتباه، و فجأة ذهبت تقرعين على جدران الغرفة حتى سقطت مغشيا عليك، ماذا رأيت في منامك؟
لم أستطع الإجابة، كنت في حيرة من أمري كيف رأيت السيدة التي قتلت ! و "صابر" كيف لم يشعر بما شعرت به !، حاولت بعد عدة محاولات التغلب على مخاوفي وغفيت.
في الصباح بدأت أستعيد ذكرياتي وما مررت به خلال هذه السنوات القليلة، و بينما كنت جالسة رن هاتفي فجأة، توقف قلبي للحظات، و عندما رددت وجدته زوجي يطمئن على صحتي، فطمأنته و أغلقت الهاتف، و بعدها مباشرة دق جرس المنزل فذهبت لأرى من فلم أجد أحد، ولكني لمحت أحدا يدخل منزل السيدة التي قتلت، ذهبت إلى هناك فوجدت الأنوار مضيئة بالداخل و شخص يقف عند الشرفة، فعدت سريعًا إلى منزلي دون أن اِلتفت للوراء.
بعد عدة ساعات طلبت من عمي سعيد عامل البناية بعض الأغراض للاحتفال بميلاد زوجي، و عندما أحضرهم لي، سألته:
- هل جاء أحد اليوم لمنزل السيدة التي قتلت ؟
-لا يا ابنتي هي سيدة وحيدة ولم يزرها أحد في حياتها ليطمئن عليها، فلماذا يأتي الآن ؟!
أرعبني قوله لأنه ينافي ما رأيته، فشكرته و أغلقت الباب و حاولت طرد هذه الوساوس من رأسي.
بدأت في تجهيزات العشاء، صنعت له كل ما يحبه، و عندما سمعت الأصوات مجددا قمت بتشغيل القرآن سريعا.
في المساء عاد "صابر" وكان بيده هدية لي، من المفترض أنه عيد ميلاده هو، لكنه يعمل دومًا على بهجتي، كان احتفالنا بسيطا.. عشاء على ضوء الشموع وبعدها قدمت له حلوى كنت قد أعددتها بيدي، ثم ذهبنا للنوم.
جاءت الساعة الثانية ليلا و لم أنم بعد، و عندما تقلبت على جانبي لمحت فتاة بصورة جارتي تجلس أمامي وتنظر إلى عيني، فاقتربت مني و كتمت أنفاسي، أصبح جسدي يرتعش بقوة، وبعدها تغير وجهها لفتاة أخرى، صعقت و تسارعت نبضات قلبي ثم أبعدت يدها عن فمي وقالت:
- أحببت صابر وتزوجت به منذ سنوات ثم جاءت زوجته السابقة، أتدرين أنه كان يعشقها وأنا من أفسدت حياتهم وجعلتهم يفترقون، أما أنت فلديك روح قوية لا أستطيع أذيتها مع أنه لدي القدرة على ذلك، يوجد أحد يحميك بالتأكيد، أتتذكرين ذلك الحادث وكيف نجوت منه ؟، أرواح كثيرة كنتِ سببا في موتها، أنت لعنة بالتأكيد ستحل علينا.
ثم اختفت فجأة وشعرت بأنفاس خلفي، نظرت بطرفة عين و جسدي يرتجف، و عندما وجدته" صابر" بالكاد بدأت في التقاط أنفاسي، جلست أفكر حتى الصباح بما قالته لي، وقررت أن أخبر زوجي بما حدث، لأنني سأفقد عقلي بالتأكيد، ثم سمعت أصواتا خارج منزلي، دلفت لمنزل السيدة فوجدت المنزل معتم، حينها عدت لمنزلي في حيرة كيف يحدث هذا؟ فقررت عدم أخبار زوجي بشيء حتى يحين الوقت المناسب .
مضى أسبوع و لم تظهر فيه تلك "الجنية" كنت أنتظرها كل يوم. و في أحد الأيام ليلا رأيت وجها مخيفا للغاية في الغرفة صرخت وركضت للخروج لكنني لم أر باب الغرفة أمامي، تمالكت نفسي وبدأت بالتظاهر أنني لا أخشى وجوده، فلا أريده أن يقتلني، نظرت إلى فكيه المخيفين، وعينيه الجاحظتين، وجسده أضعاف مضاعفة، كان مظهره بشع للغاية، بدأ في الاقتراب وقال:
- تريدين معرفة ماذا يحدث لك ؟
حركت رأسي بالموافقة، فقال:
- (مهاتنا ) تزوجت من زوجك منذ أن أحبته وخرجت من عشيرتنا، و منذ ذلك اليوم وهي تتجسد بصور مختلفة، وأكمل قوله:
- لا تقلقي أنا الذي خلقت لكي أحميك من أي شيء، لقد تمسكت بي روحك في الحادث، لهذا أنتِ هنا، أما والدتك وصديقتك فقد نالوا عقابهم على مضايقتك.
غضبت بشدة فقلت:
- ماذا فعلت والدتي لتقتلها؟
- أنا لم أقتلها، لكن لم أنقذ روحها فقط.
- و منة؟
- أرسلت لها جنيا منا وقام بفعل الباقي من ذاته.
- ماذا تريد مني ؟ اتركني وشأني..
- أنا إلى هذه اللحظة أساعدك وأعطيك فرصة لكي تكوني لي.
- ماذا تريد أن أفعل لك ؟
- لا يهم سنلتقي مرة أخرى أنتِ بأمان من (مهاتنا) لأنها لن تأذيكِ ثانية.
لم أره بعد تلك الكلمات وقررت ترك المنزل، جمعت أغراضي وذهبت إلى منزلي القديم ومكثت به، عندما علم زوجي بذلك جاء وتكلم معي و لكني رفضت وصممت ألا أعود، وعرضت عليه العيش هنا أو مكان آخر بعيد عن ذلك المنزل اللعين، لكنه رفض بسبب قربه من عمله، ظننت أنني لن أرى شيئا هنا، لكن بعد يومين و في المساء تحديدا، ظهر لي ذلك الوحش مرة أخرى، كنت أنوي قتله.. ولكن لم يؤثر به شيء، فاستمعت إليه، سرد لي أشياء عديدة.. فكرت للحظات فيما قاله، وقررت الذهاب لمنزل زوجي كما قال.
بعد مرور عشر سنوات، حياتي تغيرت كليًا، وأصبحت لا أخشى شيئا، وسررت أيضًا بقدوم ابنتي "جنى" فأخذت كل وقتي واهتمامي، و في يوم عادت لي( مهاتنا) وحينها كانت صدمتها بأنني هاجمتها بسائل أزرق اللون. حاولت الهروب فلحقت بها، كم كنت أتوق لهذه اللحظة ورؤيتها تتمزق أمامي. و بعد ساعات جاء شخص لديه أربع أعين لا أنكر كم ارتعبت عندما نظرت لوجهه القذر لكن لا للاستسلام في هذه النقطة، قال لي:
- أنتِ من قتل والدي " بوتاري".
وعندما حاول لمسي ذهبت راكدة إلى الطاولة تناولت ما عليها و أخذت أرميه عليه كان لا يتأثر كثيرًا، ثم تذكرت "غاز الفوسجين" الذي حذرني من استعماله والده لكي لا أصاب بمكروه، وعندما رميته نحوه احترق و لم يتبق له أثر، ثم جاء أحد أتباع بوتاري وأخذني معه، فذهبت إلى عشيرتهم ورحبوا بي وتم تعييني ملكة لهم بأمر بوتاري قبل أن أحرقه، لا أنكر أنني بدون مساعدته لم أكن لأصل لهدفي، خلال تلك السنوات تعلمت كيفية محاربتهم، أنا أصبحت حاكمة عشيرة "الشماشقة الغاوون"، عندما تودد إلي بوتاري ظن أنني أحببته حقا، أحمق وثق بي وبفضله تعلمت كل شيء عن عالمهم الآن، كم هذا مفرح أنني أسيطر على الجميع، بعد معاناتي الشديدة تخلصت من (مهاتنا)، وبوتاري وابنه، أنا الملكة وأستطيع فعل أشياء لم أفعلها من قبل بسبب قوتي.
قررت العودة لزوجي وقصصت عليه ما حدث، دار بيننا نقاشات كثيرة ثم عرض الانفصال عني أو ترك ما أنا عليه، فأحاطت بجسدي النار، وقلت له:
- أنا أصبحت لعنة، و أينما ذهبت سأطاردك.
إرسال تعليق
0 تعليقات