الأديبة التونسية «تبر العرباوي» تكتب: صورة!
بعدَ ختم الجوازات عادَ الرّكّابُ إلى سيّارة الأجرة مسرعين للاحتماء بها من الحرّ .
عندَ خطّ الخُروج , مدّ السّائقُ الجوازات , تفحّصَها رجُلُ الأمن بعناية , مُناديًا كُلاًّ باسمه , ناقلاً بصَرهُ بين الجواز و صاحبه , صامتًا , عاقدًا ما بينَ حاجبيه من أثر الشّمس رُبّما و ربما لإبداء الجدّيّة و إضفاء شيء من الأهمية على عمله.
المرأةُ الوحيدةُ في السّيّارة , تضايقت من نظراته ... أطالَ النّظَرَ و تفحّصَ وجهَها حينًا , و الجواز حينًا آخر , ثُمّ قالَ بنبرة صارمة :
- لمن هذا الجوازُ ؟
المرأةُ و السّائقُ , أجابا معًا , هيَ :
- جوازي .
و السّائقُ :
- جوازُها .
ردّ الرّجلُ الرّسمي :
- كلاّ , .. هذا ليسَ جوازك , جوازُ من هذا ؟
- ماذا تقصدُ ؟ ردّت هي و السّائقُ أيضًا .
- أقصدُ , هذا الجوازُ , ليسَ جوازك .
السّائقُ الضّجرُ من إضاعة الوقت و لفح الشّمس , أرادَ أن يُؤكّدَ بكلّ قُواه أنّهُ جوازُها .
الرّجلُ الرّسمي , نهرهُ و ألمحَ إلى إمكانيّة تواطُئه معها , فخَرسَ السّائق .
نفخ الزّيُّ العسكريُّ صدرهُ و قال : انزلي .
نزلت ذاهلةً ... كيفَ يكونُ هذا ؟ كيفَ يشُكُّ هذا الرّجُلُ في ملكيّتها لهذا الدّفتر الصّغير ... ما امتلكت شيئًا في حياتها غيرهُ ... بل عوّدتها حياةُ التّنقّل من بلد لآخر و الاغتراب و البُعد عن الأهل و المعارف , أنّها ذلكَ الدّفتر نفسُهُ .
ماذا تُساوي بدونه , ماذا تكونُ , إذا لم تكُن ذلكَ الدّفتر الصّغير ؟
جاءَ الرّجُلُ صاحبُ الزّيّ الرّسمي بآخرَ أعلى منهُ رُتبةً و الثّاني جاءَ بثالث ناداهُ , سيّدي , و السّيّدُ الثّالثُ , قرّرَ أخذَها إلى سيّده , و هيَ ذاهلةٌ فيمَا يفعلونَ .
طغت الرّغبةُ في الحديث مع نفسهَا على الحديث مَعهُم .
السّائقُ الضّجرُ التَحقَ بها و هَمَسَ :
- حاولي معهم , قولي أنّهُ جوازك , قد يُتعبونَك , قولي أنّك الآن مريضة , قولي أنّ الصّورة قديمة , لما أنت دابّةٌ إلى هذا الحدّ ؟
توالى نقلُها بينَ السّادة و دخلت مكاتبَ عديدة .
تذكّرت أنّهُم سـألوها إن كانَ لديها أوراقٌ أخرى ثُبوتيّة .
أجابت , أنّها خرجت من بلدها صغيرةً , سنُّها حينذاك لم يكن يسمحُ باستخراج هويّة ... ذلكَ السّيّدُ الذي طَرحَ عليها السّؤال , قهقهَ مُنتصرًا :
- لا بصمة , لا مرجعيّة , إذن فقد صَدَقَ ظنُّنا , ... الجوازُ ليسَ جوازك .
- من أكونُ إذًا ؟
- اسألي نفسك .
- نفسي تعلمُ أنّهُ حُكمَ عليهَا أن تكونَ هذا الدّفتر , فإذا لم تَكُنهُ , فمن تكون ؟
- إنّها تتظاهرُ بالبلاهة و الجُنون , خذُوها من أمامي .
رحلةُ التّنقّل بين السّادة , أفضت إلى سيّد من نوع من آخر ...
رُبّما القاضي ... عجبًا الأمرُ جدّي ... اللّعنةُ على تلكَ الصّورة ...
قالت للقاضي أنّ الأمرَ ببساطة , صورةٌ جميلة عندَ مُصوّر معروف , أجرُهُ أضعاف أجر الآخرين , ليسَ إلاّ للحُصول على صورة جميلة من أجل جواز السّفر .
هذا كُلُّ ما في الأمر .
حقًّا جاءت هذه الصّورة مختلفة قليلاً بفعل التّحسينات إلاّ ... لكن من المُؤكّد أنّ فيها شيئًا من صاحبتها ...رُبّما كانت ساعةَ تجلّ , ساعة صفاء روحي ّ ... ساعة ضعف إنسانيّ , صورةٌ جميلة ... ثُمَّ أُخذت لها صُورٌ كثيرة من كُل ّ جوانب الوجه , حينَ رأتها , صرخت , هذه أيضًا مُختلفة , أخرجوني , هذه ليست أنا ...
لكنَّهُم كانوا قد صوّروها بأنفسهم , ما يَهُمُّ إن اختلفت .
..
دمشق 17-02-2003
إرسال تعليق
0 تعليقات