«فريدة عدنان» تكتب: مجالسنا!

 


"فنجان قهوة  مساء  مر طعمه كرحيلك حلو مذاقة  كقربك.. سواد  عينيك  دامغ  بقلبي  كما في  الفنجان"

كلمات  تمتم  بها  عادل لنفسه  بعدما  فرغ  من ارتشاف  فنجان  قهوته المسائية .ثم  نهض ليدير محرك السيارة في اتجاه  شاطئ البحر وسحابة  حزن  كبيرة  تعلو ملامحه السمراء .

انطلق  بسرعة نحو الشاطئ ، كانت الشوارع  شبه خالية  من  السيارات  ومن المارة  والنهار يحدو إلى المغيب.  أشعة  الشمس المائلة  الى الحمرة  تنكسر على زجاج السيارة. وضع نظارة سوداء ليخفي  نفسه  أكثر من إخفائه لأشعة الشمس.  لما لاحت خيوطها الحمراء  تراءت  له صورتها  وهي ترتدي فستانا أحمر جذاب، ترقص في  غنج  و شعرها  الغجري الأسود يهدهد قدها الممشوق،  كأنها أميرة في قصر سلطان، كانت تنثر ابتسامات وقبلات بيديها وتتكسر على زنود صديقاتها و صدى ضحكاتهن تتعالى لتصم مسامعه. بدأ يضرب بقوة على مقود السيارة ويردد  تبا لكن  تبا.. تبا..أطفأتن نور الثريا. 

وصل  إلى الشاطئ  وركض مسرعا  نحو الرمال وبدأ يجري في  كل الإتجاهات، كمن يبحث عن  طوق  نجاة  ينقذه  من موج  أفكاره العاتية، ثم استلقى على الرمال بعدما انقطعت أنفاسه كغريق ألقى به البحر .

التقط أنفاسه رويدا  رويدا ثم  راح  يتطلع في الأفق البعيد الذي زينته  أشعة  الشمس الآفلة بألوان زاهية وموج البحر يداعب مسامعه في صخب.

انتفض من مكانه، وجلس برهة  كمن تذكر شيئا مهما ,ثم عاد للإستلقاء  من جديد .بدأ يعيد شريط  ذكرياتهما معا وكيف غير مسار حياته لأجل الحفاظ عليها. إنها ثريا شقيقته الوحيدة التي حرمت من حضن أبويها في سن مبكرة. والزمن ألقى على كاهله حملا ثقيلا، كابد عادل الكثير من  أجل تربيتها  إلى أن أصبحت شابة يافعة. كانت بالنسبة له أختا وصديقة  بل صارت ابنته المدللة، عفويتها، بساطتها وجمالها الطبيعي كل ذلك جعل منها فتاة مميزة عن باقي الفتيات في سنها، لقبها الجميع بأيقونة الحي الجميلة.استعادت مخيلته المتعبة كل اللحظات وكذا تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم، الذي ذهبت فيه ثريا لحضور عيد ميلاد صديقة لها بنفس الحي بصحبة بنات قسمها،حيث رافقها لبيت صديقتها ثم تركها ورحل إلى حين انتهاء الحفل. 

في طريقهما إلى المنزل كان الفرح يقفز من مقلتيها وبيديها طبق صغير. قالت له: أتدري لقد استمتعت كثيرا كانت أمسية جميلة مليئة بالرقص والغناء، وتمنيت لو أنك معي لكن الحفل  للفتيات فقط، أما نصيبي من الحلوى فقد أتيتك به واسترسلت في الكلام عن كل تفاصيل الحفل.ضمها إليه مازحا كفي عن أفعالك الطفولية أنت شابة الآن.. ثم أضاف وهو يدغدغها أتأتين لي بقطعة حلوى يا ثريا..؟ طفلك الصغيرأنا...؟؟ وضحكاتهما تعلو وتعلو.. 

لكن في صباح اليوم التالي حدث ما لم يكن  في الحسبان. فوجئ بالعم أحمد  صاحب مقهى الحي يطرق الباب. اندهش لمجيئه بادره قائلا: أرجوك يابني أن تتصرف بحكمة ولا تجعل الغضب يعمي بصيرتك. ازدادت دهشة عادل من كلامه الغامض لكن العم أحمد ناوله الهاتف مضيفا  الناس ليس لهم إلا الظاهر وهاذه صفعة قوية من الزمن لك ولأختك .إنه شريط  حفل أمس تم نشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي حيث تظهر فيه ثريا ترقص وتغني ..كان وقع الصدمة كبيرا عليهما  وقتها. ابتلعت ثريا لسانها، لكن عادل   جن جنونه وهرول إلى الخارج حيث كانت أعين  سكان الحي ترشقه بنظرات قاتلة، بدأ يصرخ في وجه الجميع كالمجنون ويردد  كانت جلسة فتيات فقط... تبا لنا التطور لا يليق بنا... 

نهض عادل ورجلاه بالكاد تحملانه، توجه نحو مياه البحر مسترجعا صورة ثريا  عندما كانت عائدة  ذاك اليوم بخطوات منكسرة من المدرسة ودموع القهر تملأ وجهها الجميل. ارتمت في حضنه وهي تجهش بالبكاء لن أعود إلى المدرسة مرة أخرى، حاول تهدئتها لكنها دخلت في نوبة عصبية حادة نقلت على إثرها إلى المستشفى. 

وقع بصره على صدفة  بيضاء بين الرمال  أخذها بين يديه وبدأ يحدثها بصوت مسموع: أمس كانت ثريا تسعد بالحديث معك واليوم أنا أخبرك أن مدللتي تركتني وحيدا أتجرع مرارة الغياب، آثرت العيش بين جدران المستشفى المليء بالعقاقير المنومة... قولي لها أن تستفيق من السبات وأخبريها أن الشرف للثريا عنوان ، وأن مجالسنا تحكم بالاعدام على أناس كل ذنبهم أنهم أبرياء.


إرسال تعليق

0 تعليقات