«أميرة أحمد عبد العزيز» تكتب: بتصرف!

 

كنت أقرأ في كتاب سيجموند فرويد (ما فوق مبدأ اللذة) وتوقفت عند تفسيراته لألعاب الأطفال، لقد ذكر مثال لطفل هو عاصره وراقبه، طفلا لا يمثل نموذجا مزعجا، وإن تركته أمه مع غيرها، لساعات وخرجت فرغم تعلقه الشديد بها فلا يبكي ولا يجزع. ولكن كان لهذا الطفل عادة وحيدة مزعجة، لقد كان يقذف بالأشياء بعيدا، ويبدو عليه المتعة والارتياح وهو ينطق بجملة (لقد ذهب بعيدا) أو (اختفت الأشياء) وكان الطفل يربط لعبه أو الأشياء بحبل ويقذفها حتى تختفي ثم يعود جذبها بمتعة.

 لقد فسر فرويد سلوك الطفل بأنه نوع من التكيف مع غياب الأم بمحاكاة مشهد الغياب وعودتها وقال في تفسيره هذا:

((لم يكن معنى اللعبة إذن عسيرا على الفهم. فقد كانت تتصل بما وصل إليه الطفل من تكيف حسن ناجح، أي بقدرته على التخلي عن مطالب إحدى الغرائز، تخلية كان من نتيجتها أن استطاع ترك أمه تخرج من البيت وتتركه دون أن يصدر عن الطفل احتجاج أو جلبة. ولقد عوض نفسه عن ذلك أو صحح الموقف -إن استطعنا استخدام هذه العبارة- بأن أخذ يقوم بتمثيل هذه القصة التي تدور حول رحيل أمه وعودتها مستخدما ما كان يقع بين يديه من الأشياء))

هذه القصة أعادت لي ذكري من الطفولة، فأتذكر حين كنت طفلة لم أتجاوز السبع سنوات، وكنت في قطارا مع جدي -لا أتذكر أكنا عائدين أم في طريقنا زائرين للديار- حينها وحيث كنت أجلس بجوار جدي، كان يجلس على الطرف المقابل لنا، والذي يفصلنا عنه الممشى، شابا، أتذكره وسيما.. لطيفا.. رقيقا، ظل يبتسم لي ولم يغفلني لحظة -هكذا أتذكر- ويبدو أن إحدى سمات الطفولة هي الشعور باتساع ما هو أضيق؛ وبإطالة ما هو أقصر؛ وبالزيادة فيما هو أقل، ظللت ابتسم له بسعادة من داخلي، وكان يبدو أنه يختلس النظر لي، واختلسه أنا أيضا بعيدا عن نظر جدي ودون أن يرانا، ثم مر في الممر (بائعا) اشتري منه الشاب (بالونا)، ثم أخذ خطوة أخري، فأشار إلى أن (أذهب إليه)، ولا أعلم كيف واتتني الجرأة، فنهضت ذاهبة إليه! فسألني جدي: إلى أين؟ فأجبته مشيرة نحو الشاب: إليه، فهو ينادينى. فابتسم جدي ابتسامة فيها من السخرية، ولكن غلبت عينيه ابتسامة رقة وحنو، وقال لي: وهل أي شخص يناديكى تذهبي إليه! فتسمرت في مكاني، فأخذ الشاب الخطوة واقترب مني وأعطاني البالون، وصار حديثا بينه وبين جدي، وكان معه شابا آخر، أخذ يتحدث معه ومع جدي. مع الوقت أصبحنا جميعا نجلس في نفس المكان ولم نعد متقابلان، وكنت أنا جالسة على قدميه في المقعد الملاصق لنافذة القطار، يشاركني اللعب بالبالون، الذي تم نفخة وربطه بحبل طويل، وكنت وأنا أجلس على قدمه بجوار نافذة القطار أري الحقول، وأقّذف بالبالون لأجعله يتمايل ويطير مع حركة الهواء وأشعر بسعادة غامرة في ذلك، تزيد كلما كان البالون أكثر حرية في الحركة، وأنا أعلم أنه في النهاية مربوط بحبل النجاة الذي أستطيع من خلاله جذبه لداخل القطار. ظللت أستمتع بهذه اللعبة، وهو يشاركنا ويشارك الآخر في حديثه مع جدي، ولكن لم يبدو أنه أغفل مع هذا تركيزه نحوه، بل شعرت أنه يستطيب أكثر اللعب معي، وأنا مستمتعة بحركة البالون، وسعيدة وأنا على قدمه.

  فجأة أفلت الرباط مني، طارت البالون بعيدا، واختفت، لتنهي اللعبة، ولأفقد البالون الذي كنت أحببته كثيرا، خاصة أنه هدية من ذلك الشاب تعبيرا عن اهتماما بي وتميزا لي أدركته وقتها، ولكني مع هذا لم أبكي، ولم أغضب؛ بل ارتضيت الأمر، وقلت على الفور بمجرد ذهاب البالون (حسنا، لقد ذهبت البالون لعائلتها وأبنائها)، ضحك الشاب ضحكة لطيفة، وأعاد كلماتي مؤكدا على فكرتي. 

انتهت في النهاية الرحلة اللطيفة بوصول القطار، وظلت ذكري عالقة في ذهني، لجدي والشاب والبالون.

يبدو لي أن أكثر الأشياء التي تعلق في ذهننا، هي تلك الأشياء الأكثر رقة، وأيضا الأكثر فظاظة، أو هكذا يبدو الأمر معي. 

أنا أتذكر ابتسامة جدي بما تحمل من حنان، وأتيقن أنني طالما أحببت هذا الرجل، وأنني أفتقده، وتمنيت لو قضيت معه وقتا أطول ولم ابتعد عنه.

وأتذكر الشاب، الذي أرضي بداخلي الطفلة والأنثى معا، بالاهتمام واللعب، نعم كنت طفلة، لكن الأطفال لديهم حساسيتهم بأنفسهم رجالا أو أناث من الطفولة.

وأتذكر البالون وتفكيري في التعامل مع  فقده، لم أكن حينها اعتقد بوهم أن البالون كائن حي وأن له موطن وعائلة، بل كنت أعي أنه ليس كذلك، لكني ببراءة الطفولة، أردت صناعة هذا الوهم مدركة، وأن أتعايش معه، وأعتقد أن  فكرتي هذه مع التعامل مع فقدان الأشياء، أصبحت  بتعبير ألفريد أدلر (أسلوب حياة)، فقد صارت صياغتي لفكرة الفقد ليست بعيدة عن ذلك،  وهي أسلوبي لإرضاء نفسي التي تضيق بالغياب وتخشي الضياع، فأضع تفسيرا  يستبدل فكرة الضياع والمجهول، بالجديد المشرق وان لم أكن فيه، استبدل فكرة التيه وما بها من انعدام الإرادة، بالإرادة في الذهاب فلا أكون ضيعت الشيء أو هو ضاع، بل أراد الذهاب إلي محل يقصده، فأغير النظرة من عملا لا إراديا، لمغامرة مقصودة، وتصبح الأشياء أبطالا للمغامرة، والأماكن طرقا في اتجاه المقصد، والأشخاص عابرين في طريق المغامرة، وذلك حتى ينتهي البطل من مغامرته ويعود إلي موطنه، مع وعدا بمغامرة جديدة.

قد نكون لبعضنا البعض محطات في المغامرة، تلك المغامرة الكبرى التي هي حياة كل فرد منا في الحياة الدنيا، بداخلها مغامرات عديدة فرعية ولكنها مرتبطة بالمغامرة الأصل في حركتها، ومؤثرة بنتائجها في غيرها من مغامرات فرعية، وبالطبع في النتاج النهائي للمغامرة الكبرى.

حتى اليوم حين أتذكر عزيزا غاليا أصبح بعيدا مفارقا، أتذكره بأنه يعيش الأفضل له الآن، وأتذكره مشرقا، وأن الغياب لا ضياع بل واقع جديد مشرق، هذه خطتي لتجاوز الممكن من ألم وشوق الغياب، ولاستكمال الطريق، وقد يكون شعورا داخليا أكثر عمقا بأن الترك ليس عقوبة بل حرية.


إرسال تعليق

0 تعليقات