«سعد البقال» قصة للكاتب المصري:عبدالله عباس حسن
على الرجال رفض كل جهد دون روح..
على الرجال رفض كل ما يحيلهم من الاعمال الي عبيد أجر..
على الرجال أن يطالبوا باعمال لأنفسهم وطائعين وأن يبثوا من حياتهم فيها .. لانه إن لم يجد حياته في عمله، في أغلب الأحيان يغدو كومة من الروث..
د.ه.لورانس
لم يخرج , راكداً , ولا مهرولا , بل خرج هادئ كدأبه حينما تكون هنالك مشكلة عويصة في الصالة تستلزم وجود المدير . أستطاع بدون مشقة , أن يحدد من زمرة المتجمهرين (( العميل الهائج )) , أقبل عليه وسأله :
مساء الخير يافندم , أنا (( يحي )) مدير الفرع ايه مشكلة حضرتك ؟
أنا واقف بقالي ساعة في البقالة عشان نص كيلو جبنة رومي , وفي الآخر مقطعلي الرومي زي وشه اتفضل شوف ...
نظر الأستاذ يحي إلي الطبق , فلم يجد فواصل بين شرائح الرومي , ناهيك عن أن الشكل يضاهي لوحة (( الغرنيكا )) للفنان باولو بيكاسو . ياترى أي سكينة غشيمة تلك التي قطعت هذا الطبق ؟
سكينة (( جمالات )) مشرفة البقالة ؟ الحاذقة , العالمة بجميع أصناف الجبن واللنشونات , المستورد منها والمحلي , الجديد منها والقديم , والذي لازال في طور الإصدار . سكينة (( محمود )) الذي توظف لتوه ؟ سكينة أحد من الجزارين الذين يدخلون البقالة في أوقات الزحام ليعينو إخوانهم ؟ , لا بل أنها سكينة (( سعد )) , مصيبة الفرع , ومُعرقل تقدمه , فمؤشر المبيعات ياولداه كلما حاول الصعود , رده سعد بضربة قوية من كرشه .
دخل الأستاذ يحي إلي قسم البقالة , فتنحي سعد جانباً , قطع بنفسه نصف رومي وأعطاه للعميل بعد أن إعتذر له وأكد أن الموظف سوف يعاقب , بعدها عاد إلي مكتبه وراح يفكر , ماذا يفعل مع سعد ؟ , من المؤكد أنه لن يرسل إيميل (( عدم صلاحية )) للإدارة , فهو لا يحب قطع الأرزاق , والأهم من ذلك أنه لايثق في إخلاص (( جمالات )) و (( محمود )) فربما جائت لهما وظيفة أخري بمرتب أفضل وتركوه , حينها سيكون (( سعد )) بمثابة الطفل الذي سد بإصبعه خزان الماء المثقوب , فأنقذ مدينته من الغرق .
لازال يذكر ذلك اليوم , الذي كان جالس فيه مع عم (( أشرف )) الجزار , واشتكي له من قلة عدد البقالين , وأن إدارة (( الموارد البشرية )) خاملة , لا تسعي في إرسال أحد , وما إن سمع عم (( أشرف )) هذه الشكوي , حتي دفع أمامه بأبنه (( سعد )) قائلاً : (( بقا تجيب الغريب وسطينا ياريس وسعد ابني موجود ! , دا الواد من ساعة ماخد الدبلوم وهو قاعد في البيت من غير شغل , نجيبه معانا هنا يتعلمله صنعة يمكن ربنا يكرمه )) . لم يمضي أكثر من أسبوع , وعين (( سعد )) بقال في الفرع , يعمل مثل والده تسع ساعات , وهنالك باصات توفرها الشركة لموظفيها, فلا داعي أن ينتظر عربيات (( المنيب )) التي تشح في الليل.
تحمِل (( جمالات )) علي عاتقها مسؤلية تزويد ثلاجة (( البيري باك )) ومتابعة (( الصلاحيات )) وتقول له : (( سعد ياحبيبي أنا ريحتك أهو , مش هاتعمل حاجة , كل اللي هاتعمله , تقف علي التلاجة تبيع للزباين )) ولكنه حتي البيع عاجز عن القيام به . أيعقل , أن (( محمود )) الذي أتي من بعده , ألم بكل شئ في القِسم , وهو لا يريد أن يتعلم , فبرغم من المدة الطويلة التي قضاها , لا يستطيع أن يفرق بين الجبن الكشكافال والجبن الأمنتال , بين الزيتون الأسباني والزيتون الكلاماتا , بين الرومي المعتق والرومي الوسط , بين الطرشي البوليفي والطرشي البلدي ! .
كل من في الفرع يحاول تشجيعه : (( ياسعد بوظ مايهمكش وأحنا هنصلح من وراك بس حاول تتعلم )) . في نهاية الشهر , يُفاجئ أن مرتبه (( مقصوص )) وحينما يسأل عن السبب يقولون له : (( جزاءات ياسعد )) . في وقت الراحة يجلس وحيداً في (( الكافيتريا )) , يُخرج من حقيبته , ما جاد به مطبخ أمه أي كان : ( فاصوليا , باميه , كوسه , بذنجان ) ويأكل . في أحد الأيام , أراد أن يوطد العلاقة بينه وبين من يعملون معه , فأرسل لهم طلبات صداقة علي (( الفيس )) , صورة (( البروفايل )) صورة سعد , ويبدو من الصورة أنه شارد في أمر ما , وفي الخلفية صورة المطرب (( نادر حمدي )) عضو فرقة واما . قبلوا صداقته دونما الألتفات إلي الأماكن التي درس فيها , ومنها (( الكونسرفتوار)) , نعم , لقد إلتحق سعد بمعهد الكونسرفتوار ولكن لمدة عام واحد فقط ! , ثم تركه لأسباب غير معلومة , فأساتذته الذين درسوا له , لازال علي إتصال بهم , يستجدونه للعودة مرة أخري إلي مدرجات (( المعهد )) , فهذا هو العالم الحقيقي الذي ينتمي إليه . هو لم يطمح يوماً أن يكون (( بقال )) , بل يحلم طيلة الوقت أن يصبح (( موسيقي )) , ولكن إلي أن يحدث ذلك , إلي متي سيظل ينغص حياة الزبائن وحياة زملائه ؟!
هل سوف يأتي اليوم , الذي نحضر فيه حفل موسيقي بدار (( الأوبرا )) , تذاكره , مكتوب عليها (( بقيادة المايسترو سعد )) ؟
هل سنراه يوم جالس علي مقاعد صفوة العازفين ممن يُطلق عليهم اسم (( الفرتيوزو )) ؟
هل سنشاهد يوم فيلم وثائقي علي (( نتفليكس)) , يحكي السيرة الفنية لسعد الذي كان بقال في يوم من الأيام ؟
لا أحد منا يدري , فسعد نفسه لا يدري ! .
...
عبدالله عباس حسن
مصر
إرسال تعليق
0 تعليقات