قطرة، وأخرى، وأخرى.. تسارعت الوتيرة، واشتد الهطول.. الأشجار مبتهجة بأخذ حمامها الأول بعد فصل صيف حار لم يحمل سوى العطش والأتربة والمعاناة؛ العصافير متجهرة على أسلاك الكهرباء التي ما عادت تزرها الكهرباء إلا كضيف خفيف الظل يمر مسرعًا كي لا ينساه أحبابه.
كلُّ شيءٍ في الخارج يبتل، وهو مبتهج باستقبالهِ الغيث الذي فاجأ الجميع بنزوله المباغت دونَ أيِّ مقدمات أو ارهاصات كالأعوام السابقة، بل حتى الغيوم لم تدل على حمله الغدق.
عينان ذابلتان تراقبان من خلف النافذة الصغيرة التي تحاول التماسك أمام جور السنين، فخشبها اهترأ، وزجاجها ما عاد يتحمل قرع الرياح، حتى قطرات المطر التي ابهجت المكان تُسبب لها الألم، والوجع كمشرط ساحر يضرب في جسدها ولا يظهر له أثر.
- حتى أنتِ أيتها الغيوم! حتى أنتَ أيها المطر! أعلم.. أعلم؛ لِمَ الجميع يريد تذكيري؟! لِمَ يحاولون لعبَ دور الطبيب المتفاني، وحقيقته هي الطمع والجشع.
أعرف ما في دواخلكم، أدري أنَّ أرواحكم فارغة لا يسكنها سوى الحقد والحسد؛ أعلم ذلك كله، فلِمَ تحاولون وضع أجنحة الملائكة على ظهوركم؟ لا يليق بكم أنتم مجرد شياطين ملعونة مطرودة من وكر إبليس.
اليدان تضربان الجدار الذي صاح متوجعًا.
- كلُّ شيء يحدقُ بي، يريد تذكيري.. لستُ ناسيًا؛ احتفظوا بنبلكم، وطهركم المزيف، لا أحتاج من أحدٍ أيّ نظرة أو نصيحة، ولا حتى ابتسامة، وأنتم أيها المقرفون لا أحتاج لأصواتكم المزعجة التي لا تحمل إلا الاستهزاء والاستهتار، وأنتِنَ أيتها الأشجار بلونكنَ الممقوت لم أعد أتحمل رؤيتكنَ تبتهجنَ فرحًا وتتمايلنَ طربًا بأغصانكنَ وأوراقكنَ مع أيّ نسمة هواء كغانية رخيصة تذهب مع من هب، ودب مهما كانت نقوده قليلة.
أيتها الغيوم أقسمتُ عليكِ اغربي عن سمائنا لا أريدُ رؤيتكِ تتقيئينَ علينا شؤبوبًا تارة، وتعتصرين ما في أحشائكِ من يعلولٍ أخرى، وأنتِ تبعثين شرارة الحياة في الأرواحِ إلا روحي، فمع كل قطرة تسقط أحس بسوطٍ يجلدُ ظهري، ويسلبُ من روحي جزءًا.
كم أكرهُ الشتاء، وأيامه المظلمة؛ أكرهُ هذا الشهر من كلِّ عام، وهذا اليوم من كلِّ شهر.
انتفض الجسدُ القوي وانبسطت القامة الطويلة، واطلت البشرة الحنطية الشاحبة.
القدم ترفسُ الكرسي اليتيم الوحيد الذي اعتادَ على مثل هكذا مواقف.
استقر في زاوية الغرفة البعيدة.
خطوات ثلاث في عمقِ المكان، ثُّمَ هبط الكفانِ القويانِ على الطاولةِ المستديرة، فارتعشت فرائصها، وارتجفت أقدامها، وأنَّتْ أنينًا طويلًا.
تفقدٌ بالعينين للجدران القذرة العارية من كلِّ شيء ما عدا مجموعة الحفر الصغيرة التي صنعتها المسامير قبل أن ترحل بينَ مقطوعِ الرأس ومعوج القامة.
تسمر البصر عند قطعت الحائط في الجدار الرابع المقابل للنافذة الخشبية العجوز.
اتسعت حدقة العين، وأخذ المنخار ينفث هواء غضب وحنق، ثم بسرعة اتجه البصر إلى الأرض.
صوتٌ يجلجل في المكان بقوة، وانزعاج.
- والحل معك، يا ابن الساقطة؛ قل لي ما الحل؟ حتى أنتَ تعاندني! الكون كلّه ضدي وأنتَ أيضًا، يا تافه تريد مشاركتهم، سأعرف كيف أؤدبكَ، وأجعلكَ عبرة لمن لا يعتبر من أمثالك.
خطواتٌ ثلاث باتجاه الهدف، ثم انحناء والتقاط لقطعة الفولاذ السوداء الصغيرة التي لو كان لديها فم لصرخت عاليًا متوسلةً أن يسامحها هذه المرة.
ارتسمت ابتسامة مسلوبة البهجة.
- الآن أينَ المفر، يا حقير؟ قل لي كم مرة علي ضربكَ على رأسكَ، وأمرك بعدم التحرك من مكانكَ؟ ألم تعد قادرًا على حمل خرق القماش البالية المسماة ملابسي، يا هذا؟! سألقنك درسًا لن تنساه.
التفات ناحية الطاولة، لكن النظرات توجهت اسفل سيقانها العارية.
ازداد الفم اتساعًا يرسم شيئًا يشبهُ الابتسامة في منظرها.
- آها، ها هي مُؤدِبتكَ، يا حقير.
ضربة، اثنتان، ثلاث، وما كان من المسمار إلا الغوص في الجدار الذي لم يمانع أبدًا في تقبل فض بكارته للمرة الألف، فهو أشبه بجثةٍ بالية اشتراها طالب طبٍ فقير، ثم دعا مجموعة من زملائهِ للتدرب عليها.
المطرُ في الخارجِ يشتدُ، والشوارعُ غُسلت، وفتحات تصريف مياه الأمطار تصدر الأصوات القوية معلنةً أنَّها مستعدة لابتلاع ما ترسله الغيوم مهما كانت كمياتهُ متناسيةً كم القاذورات التي في أحشائها، وأنَّها بعدَ سُوعية ستغص، وتمتلء، ثم تصيحُ عاليًا "النجدةُ" ولن يسمعها أحد لأنَّ المياهَ ستكتم صرخاتها.
اليدُ تعود لتقبض على الكرسي الذي كانَ على وشكِ أخذِ غفوة يرتاح فيها من ألم حملِ الجسد المثقل بالكآبة، والبؤس.
الوجهُ عادَ ليلتصق بزجاج النافذة.
- اللعنة ما أسرع هجوم البرد! أنفاسي تتكاثف على الزجاج، وتعيق رؤيتي المعاقة.
سبابة اليد اليمنى تتحرك في غفلتٍ عن صاحبها وتخط على الزجاج رقمًا مميزًا دونَ أن تلحظها العينانِ.
بعدَ أن جال البصر بعيدًا يراقب كل ما يحدث خارجًا، وبعد أن تغيرت النبرة من حنق، وحقد إلى حسرة، وحزن سقط النظر على ما خطت الأصابع.
انتفضت العروق الحمراء في العين المنكسرة المتحسرة، وفغر الفم ليصبح كفم المحتضر عند رؤيته ملكَ الموتِ؛ لم تخرج كلمات بل كانت العينان هما من تكلمتا، فأعلنتا تضامنهما مع الغيوم، وأغرورقت المآقي بدمع مر الإحساس مالح الطعم.
تدلى الرأس بانكسار على الصدر، وتعالت الأنفاسُ، والدموع تجري قاطعةً طريقها لتستقر مسجاة على الأرض وصوت صراخها عند ارتطامها يجلد الجدران.. صرخات الدموع اخترق جدار الزمان كاشفة اللثام عن النفسِ الموجوعة، فاتحة خزانة الخيبات التي أخفيت في ركن النسيان داخل الروح.
- أربعون، أجل إنَّها أربعون.. أحتاج لمن يذكرني؟ اليوم صار عمري أربعين سنة؛ قطعتُ من عمري أربعين مرحلة وأنا لم أفعل خلالها شيئًا سوى... آهٍ لم أفعل شيء.. لم أقدم شيء.. قضيت ردحًا من الزمن وأنا أجوب الشوارع، وأجني النقود لانفقها على.. على ماذا؟ لم تكن عندي نقود أصلًا أنا مجرد متسول نظرات عطف وشفقة مع ما أتسوله من مال.. أنا المفلس بفؤادي الفارغ، وروحي التي كبيت عنكبوتٍ مهجور ينتظر متى تأتي ريح لتشتت خيوطه الواهية.
لامست الشمسُ التي حجبتها الغيوم جفن الغروب، فانطلق صوتٌ طالما سمعَ، ولم يكترث له، لكنه هذهِ المرة، ولأول مرة تسلل إلى شغاف القلب، فارتجفت النفس، وارتعدت الروح.. صوتُ أذان المغرب.
اللهُ أكبر، اللهُ أكبر.
كلُّ شيء أنصت حتى قطرات الغيث، والشوارع، والسيارات، خشعت أصواتها.
حي على الصلاة، حي على الصلاة.. حي على الفلاح حي على الفلاح.
اشرأبَ البصرُ عاليًا يتقلب.
تبدلت الملامح، فارتسمت ابتسامة غريبة ملؤها الحياة، والأمل.
فاضت العينان بالدموع، لكن هذه المرة ليست مُرة، بل بطعم الشهد، عذبة نقية.
انتصب الجسد، واندفعت اليدان ناحية النافذة التي حظر عليها أن تفتح، ثُّمَ امتدَ الكفان مجتمعان يجمعان قطرات الماء، فغسلت الوجه بماء الحياة، والروح بتلك الكلمات، وانطلق اللسان يردد الكلمات.
- هي الدنيا.
--النهاية--
إرسال تعليق
0 تعليقات