الأديبة التونسية سحر ابراهيم النصراوي تكتب: شرف السّيّد " شريف"!
لم يَكُن " نابليون " فقط رجل حرب , أو رجل دولة , لقد كانَ امبراطورًا و من خصال الأباطرة الإلمام بكُلّ تفاصيل , الحرب , السّياسة و الاقتصاد أيضًا ..
لهذا و بعد ازدهارِ مهنة البغاء في " بلاد الغال " , فقد رأى أنّهُ من الضّروري , فتحُ أسواق جديدة ما وراء البحر ..
و كان أن أشار عليه مُستبصرو البلاد و حُكماؤها بالتّوجّه إلى شمال إفريقيا و قد زكّى اختيارَهُ خُبراء الاقتصاد و الذين كانوا عارفينَ أيضًا بأحوال المُجتمعات و أكّدوا لهُ أنّ تلكُم البلاد و خاصّةً " قرطاجَ " منها , لم تقف يومًا في وجه عَدُوِّ و لا ردّت ضيفًا و لا زائرًا ..
هكذا هُم أهلُ المَرافئ , يحتَفونَ دائمًا بكُلّ ما يجلبُهُ البحر ..
لم يَطل تردّد " نابليون " و كانَ أن أرسَلَ مَبعُوثا مُمثّلاً عنهُ إلى مملكة " قرطاج " , حيثُ استُقبلَ بالتّرحيب و الحفاوة اللّتان اشتهرت بهمَا تلكَ المملَكةُ و حَيثَ حصُل على التّسهيلات اللاّزمة و كُلّ سُبُل الدّعم المُمكنة لإنجاح هذا المشروع الذي سيجلبُ معهُ كثيرًا من خيرات ما وراء البحر .
سرى الخَبرُ في المملكة بأنّ مَبعوث الامبراطور و مجلس حاشية الملك قد أمضوا اتفاقًا اقتصاديًّا , تُقدّمُ بموجبه المملكةُ البغايا للقادمينَ من وراء المُتوسّط و بأنّ المَشروعَ سيكونَ مُتوسّطيًّا بدعم و إحاطة لوجيستية من " بلاد الغال " و بأنّهُ و كتعبيرٍ عن حُسن نيّة ملك " قرطاج " سيَتمّ إعفاءُ هذا المَشروع من الضّرائب و أنّهُ سيَخضعُ مُباشرة لسُلطة الامبراطور .
و كانت تلكَ الخُطوة الأولى في طريق استقطاب مزيد من المشاريع الدّاعمة للاقتصاد القرطاجيّ المرن و ازدهار المباغي.
ارتأى الامبراطور أن يَكونَ المُشرفُ على المَشروعُ و إدارَتهُ قرطاجيًّا , حتّى لا يحرمَ المملكة من شرف المُشاركة و الاسهام فيه.
تمّ افتتاح المَبغى و انطلقت دورة الانتدابات , فرسى الاختيار على مُتبارِ , عفوًا مُتقدّم من بين الطّامحين في وظيفة الاشراف عليه . يُدعى " شريف" و قد أبدى " شريف " من النّبوغ و الولاء ما جعلَ مَبعوث الامبراطور , يختارُهُ دون أيّ تردّد.
بعدَ أن تمّت تسمية السّيّد "شريف" " قوّادًا" , عفوًا مُشرفًا على المبغى , بَدأ بدورهِ بنشر إعلانات في كُلّ وسائل الإعلام السّمعي و البصري و الوسائط المُساعدة لحثّ المُتخرّجات حديثًا على التّقدّم للوظيفة.
كانَ السّيّد "شريف" مُحدّدًا جدّا في اختياره للمُتقدّمات , لهذا فقد أرفقَ نصّ الإعلان ببعض التّفاصيل الهامّة لضمان سير المشروع.
على المُتقدّمة للوظيفة أن تكونَ جامعيّة أو حاصلة شهادة عُليا
على المُتقدّمة للوظيفة أن تُتقنَ اللّغة اللاّتينيّة لضمان قُدرتها على التّواصُل مع الحُرفاء و من شتّى الجنسيّات المُتوسّطية و على وجه الخُصوص أولياء نعمته.
يُحبّذُ أن تكونَ المُتقدّمة للوظيفة من عائلة مرموقة و ميسورة الحال .
فقد آلى السّيّد "شريف" على نفسه أن لا يُوظّف سوى فتيات من خيرة ما أنجبت "قرطاج".
و فعلاً بَدأت حملة الانتدابات , حيثُ كانَ في البداية يقوم بنفسه بمقابلة المُتسابقات , قصدي المٌتقدّمات, و لم تًكُن مُقابلاتُه خاليةُ من التّلميح بأنّ أفضل مُوظّفة و أنّ تلَك التي ستنالُ كُلّ دعمه هي التي سَتكونُ الأكثر ولاء لهُ.
افتتح "المبغى" و بدأ الإقبال عليه من " بلاد الغال" و من شتّى بلاد البحر الأبيض المُتوسّط, كانَ العملُ يسيرُ فيه على قدمٍ و ساق و ذلك بسبب , حُسن الاستقبال الذي كانَ يلقاهُ رُوّادُه و لأنّ الفتيات فيه كُنّ على درجة كبيرة من الثّقافة و المعرفة و الأخلاق الرّفيعة.
ذاعَ صيتُ "المبغى" و صارت المُنافسةُ بينَ المُوظّفات على أشدّها لنيل رضا السّيّد "شريف" و الذي كانَ يُحسنُ إليهنّ ويستمعُ إلى شكوى كُلّ واحدة على حدة و لا يَتأخّرُ أبَدًا في تقديم أيّ نوع من المُساعدة.
المُوظّفات كُنّ يرون فيه الأخ الأكبر و السّند الذي تعتمدنَ عليه.
صحيح أنّ السّيّد "شريف" كان يُسارعُ إلى تركهنّ يحملنَ كُلّ اللّوم , إذا أبدى أيّ زائر استياء و أنّ الامبراطور بنفسه قام بتقريعهنّ أكثر من مرّة على تقصيرهنّ تجاه بعض الزّوّار, إلاّ أنّهُن لم يتوانينَ عن حُبّه و لا انقطع الولاء لهُ , فالسّيّد "شريف" رجُلٌ في زمن قلّ فيه الرّجال.
بعدَ سنة من افتتاح المَبغى , قامَ مبعوث الامبراطور بالعودة و زارَ المبغى بدوره , كما و جَلبَ معهُ الكثير من الهدايا و بعض الوُعود للمُوظّفات المُميّزات.
لم يَرُق الأمر للسّيّد "شريف" لأنّهُ كانَ يرى أنّهُ لا أحد أحقّ منه بولائهنّ , تسرّبت الشّائعات بأنّهُ سَيكونُ هُنالكَ ترقيات و انقسم المَبغى إلى فريق مُؤيّد للسّيّد "شريف" و قسم آخر مُؤيّد لمبعوث الامبراطور.
كان الأمرُ يُنبئ بشبه حرب قد تقوم بين الفريقين , بيدَ أنّ ذلك لم يُؤثّر على علاقة السّيّد "شريف" الذي كانَ شديد الحرص على مصالح الامبراطور , و قد وصلت درجة حكمته , أن طلب من مَبعوث الامبراطور القيام بالانتدابات بنفسه.
هَدأت الاوضاع بين الفريقين و انطلقت حملةٌ توظيف جديدة لأنّ مبعوث الامبراطور , ارتأى أنّهُ من الحكمة توسيعُ أعمال الامبراطورية في "قرطاج".
و كان الأمرُ كذلك , فقد كانً ذلكَ المبغى واحدًا من سلسلة "مباغي" فٌتحت في شتّى مُدن البلاد.
تمّ تعيين السّيّد "شريف" كبيرًا للمُشرفين على " المباغي " و قد نالَ هذا التّوسّع الاقتصادي مُباركة الملك الذي لم يتوانَ عن تقديم شتّى أنواع الدّعم و التّسهيلات .
بدأت سلسلة المُقابلات و التي أشرف عليها مبعوث الامبراطور بنفسه في حين اكتفى السّيّد الشّريف و خلال حُضوره بالابتسامة و الإيماء و تزكية خيارات مبعوث الامبراطور الصّائبة
بَادَرت بعضُ العائلات النّبيلة بإرسال بناتهنّ للفوز بالوظيفة و ذلك بتشجيع من الملك , رغبة منه في التّعبير عن حسن نواياه و التزامه بهذا المشروع , الذي غيّر الوضع الاقتصاديّ في البلد بشكل تامّ.
تجارات كثيرة ازدهرت بازدهار عمل المباغي و صناعات جديدة انطلقت و عرفت المملكة رخاء و حدًّا من التّرف لم تصلهُ من قبل .
هنا قرّرَ مبعوث الامبراطور الاستقرار في المملكة بشكل دائم , لحراسة أموال الامبراطور و للحرص على تحسين سير العمل .
و كانت أوضاع السّيّد "شريف" تتحسّنُ بشكل مُطّرد , في حين ظلّت أوضاع المُوظّفات على ما هي عليه و منذ الافتتاح .
هُنا بدأت كثيرٌ من المُوظّفات تترُكنُ المَبغى , على أمل العمل لحسابهنّ الخاصّ , الأمر الذي أقلق راحة مبعوث الامبراطور ,و الذي سارعَ إلى زيادة الأجور و الحوافز إلى درجة تجعلُ المُوظّفات جدّ ممتنّات .
زادت الحوافز و الرّاتب المُجزي الذي وضعهُ مبعوث الملك في رغبة كثيرات في التّقدّم إلى الوظيفة و نيل هذا الاستحقاق .
أجور مُجزية , تأمينات على الحياة هدايا نقديّة و عينيّة و رحلات ترفيهيّة ..
واصلَ مبعوث الامبراطور , مُقابلة المتقدّمات بنفسه و لكن في حضور السّيّد " شريف " , هكذا إلى أن دخلت إلى مبعوث الامبراطور يومًا مُتقدّمة , نالت استحسانهُ منذُ رآها .
جَلست ليسألَها , و كان أن كان السّيّد الشّريف بصدد حلّ مُشكل بسيط حدث بين المُوظّفات .
ناداهُ المبعوث , للحصول و كالعادة على تأييده , بيد أنّ السّيّد "شريف" و حين دخلَ المكتب , أصيب بالذّهول و كادَ يقعُ أرضًا ..
فقد كانت المُتقدّمة للوظيفة , زوجتهُ السّيّدة , "سكينة" .. و التي كانت بدورها تجهل مجال عمل زوجها ..
إرسال تعليق
0 تعليقات