محمد الخزري يكتب: أيهَم الجميل.
أفقت ذات صباح صيفي على صوت منبه سيّارة الأجرة فجهزت نفسي بسرعة والتحقت بها، بعد التحيّة الصباحية عاتبني السّائق عتابا خفيفا على تأخيري بشكل غير مباشر ليذكّرني ببعد مسافة السّفرة وبزحمة الطرقات، هو سائق معروف في منطقتنا الريفية يشتغل على سيارة أجرة برخصة نقل "كامل الجمهورية" وتسمى في تونس "لواج louage " سألني عن سبب اختياري الجلوس في الكرسي الخلفي فأجبته مازحا أنني أرغب في استرجاع ما فاتني من نوم بسببه، تقبّل دعابتي بابتسامة خفيفة ثمّ زمجرت السيارة ليقطع صوتها سكون الليل وتشق أضواؤها عتمته، لم أنتبه في البداية إلى وجهة السيّارة حيث اتجهت غربا نحو الطريق الحدودي، فتدخّل السائق ليبدد شكوكي ومخاوفي ويعلمني أن عنده حريفين في منطقة "الفايجة" ويتحتّم عليه التنقل إليهما. بدأت السيّارة تتوغل صعودا وسط غابات "الفايجة" التي لا يظهر منها سوى سيقان الأشجار التي تكشفها أضواء السيارة في كلّ منعرج، فلم يبق لي غير فتح النافذة والتنفس بعمق كي أستنشق أريج الغابة وشذى رياحينها، تجاوزنا المحمية الوطنية بالفايجة حيث اقتربنا من الحدود الجزائرية وتوقفنا أمام بقعة ضوء على جانب الطريق وسط غابة مترامية الاطراف، كانت فيها فسحة كبيرة وهي عبارة عن فضاء تجاري ضخم يقدم الخدمات بالليل والنهار حيث صناديق الخضر الصيفية والعنب والتين والليمون مرصوفة بانتظام وكل البضائع الجزائرية والتونسية معروضة على قارعة الطريق في أمن وأمان لا حارس يحرسها ولا سارق يسرقها، ركب في السيارة رجل لم تكن ملامحه غريبة عن ذاكرتي فطلب منه السائق أن يجلس معي في الكرسي الخلفي هو وابنه فصافحته ورحبت به ثم حاولت مصافحة ابنه الذي كان شابا يافعا ذا قامة طويلة وجسم ممشوق، لكن الولد أشاح وجهه عني وراح ينفض يده في الهواء كمروحة، أصابني بعض الذهول فيما والده طأطأ رأسه وانشغل بترتيب حقيبة السّفر. خيم الصمت والهدوء داخل سيارة الأجرة فخيرت أن انزل مستغلاّ انشغال السائق بملء خزان سيارته من صفائح البنزين الجزائري المنتشرة في ذلك الفضاء كأكداس الحجارة، فملأت زجاجة بلاستيكية بماء عذب ينحدر من جدول على الضفة الأخرى من الطريق حيث يرسو بيت فخم بل قلعة من قلاع الأحلام بالرخام والجليز والقرميد الجميل، انها التنمية في قلب الغابة، تنمية لا تحركها الدولة بل ربما تحرّكها محركات أخرى، وضعت قطعة ليمون وورقات نعناع في الماء وركبت السيارة من جديد وقد انتابني غضب خفيف من تصرف الولد تجاهي، فقررت معاندة ذاكرتي وتجاهل الرجل وابنه لكني مع انطلاق السيارة لم أقدر على ذلك، فنظرت للرجل متفحصا وجهه جيدا اذ كانت تساعدني على كشفه الأضواء المنبعثة من الهاتف الذي بين يديه، ثم قلت له:"صديقي حسن الا تذكرني وتذكر أيام الدراسة بالمعهد والمبيت القصديري بمعهد عين سلطان ورحلاتنا بحثا عن ثمار الزعرور البرية وأوراق الرند" . لمّا حاصرته بدقة المعلومات كمحقق بارع لم يجد صديقي القديم حسن مناصا من الاعتراف بالذكريات المنسوبة إليه، فسلم عليا وسلمت عليه وسألت عن أحواله وسألني عن احوالي فأجبته وأجابني "الحمد لله بخير" اجابة آلية جاهزة، يبدوا أننا في هذا العصر علينا أن نحمل الاجابة عن أحوالنا في لافتة مكتوب عليها "hmd " (مختصر الحمد لله) نرفعها في وجه كلّ من يسألنا عن أحوالنا تماما كما نتبادل الرسائل على وسائل التوصل الاجتماعي بشكل جاف. استرقت النظر مرة أخرى لابن صديقي حسن عساني أظفر بتحية صباحية تربط معه حبل الود من جديد لكن رأيته ينظر إلى الأعلى ويتنهد تنهيدات خفيفة وأصابعه تلهو بتلابيب ثيابه بشكل عشوائي، فلذت بالصمت حتى وصلت السيارة مدخل مدينة غار الدماء من الجانب الغربي ليتوقف السائق بصفة مفاجئة في مكان مظلم بجانب الجسر الكبير الذي يمر فوق نهر مجردة أكبر نهر في البلاد، خرج من العتمة شابين أحدهما ينفث دخّان سجارته بانفعال وبعد القاء أعقاب السجائر والبسملة، ركبا خلف السائق الذي قاد سيارته بسرعة مبالغ فيها إلى محطة النقل الرئيسية وسط المدينة ثم نزل يصيح وسط ذلك الفراغ مناديا "سوسة سوسة...." بدأ الشابين يتذمران من السائق متعللين بضيق الوقت، فرجع السائق وأطل من نافذة السيارة وراح يمازحهما بطريقة سمجة ويتهكّم عليهما، وكأنه يعرف عنهما أمورا محرجة، ثم نظر إلينا بشيء من الجدية قائلا:"أنا هنا لأقدم خدمة للناس وليس لجمع المال،يجب أن ننتظر بعض الوقت ينقصنا ثلاثة راكبين" . بينما كنّا نتناقش ظهر أربعة أشباح في بقعة الضوء الصغيرة قرب محطة الحافلات، حيث في بلادنا تكون الإنارة والخدمات في محطة عشوائية في قلب الغابة أفضل منها في محطة رسمية في قلب المدينة،َ فراح السائق يصيح من جديد واقترب منهم وتناول حقائبهم اذ يبدوا أنهم عائلة، وبدت الأم تعانق ابنها بحرارة وتمسح دموعها، أما الأب فساعده السائق على حمل الحقائب إلى السيارة، فركب ابنه بجانب السائق وركب هو أمامنا وبجانبه ابنته فناولني حقيبتها التي كانت تفوح منها رائحة الخروب والحلبة والقمح المقلي والخبز بزيت الزيتون فكاد يسيل لعابي عليها وأنا أضعها خلف الكرسي، ولما التفت إليّ ليشكرني عرفته مباشرة انه "سي العلمي" كان قيما عاما في المعهد الذي درست فيه، لقد كان في ذلك الزمن مربيا محترما وصارما حيث كان مجرّد وقوفه في ساحة المعهد يكفي ليعم الصمت والانضباط في كامل فصول المعهد، سلمت عليه وسلم عليه صديقي حسن ولمح إلينا أننا سنتحدث فيما بعد، وفعلا لزمنا السكوت مع انطلاق السيارة فللفجر هيبته ومن معالم هيبته السكوت والسكون والصمت.
خلد صديقي حسن للنوم، وكذلك باقي الركاب عدا الشابين الذين يبدوا انهما يحاولان الاتصال هاتفيا بشخص لا يجيبهم، فألقيت نظرة على ابن حسن فبدا لي مغمض العينين، رغم أنّ يديه ورجليه في حركة مسترسلة، فأغمضت عينيّ بحثا عن النوم وعن الذكريات مع صديقي حسن الذي كنت أسمع عنه شذرات من الأخبار حيث اشتغل بعد تخرجه في الفلاحة وتربية الأبقار لكن في الفترة الأخيرة اصبح يعمل في التجارة بين تونس والجزائر عبر المعبر الحدودي القريب من المدينة. خفف عنّا النوم وطأة المسافة والمنعرجات وظلمة المشاهد لأستفيق على قرص الشمس المطلّ بهدوء واحتشام خلف جبل زغوان وتتوقف السيارة في مفترق مدينة الفحص، فتمّ تفتيشنا تفتيشا يقال أنه روتيني في هذا المفترق الهام في البلاد من قبل دورية أمنية، حيث قامو بتفحص هوياتنا ويبدوا أنهم اهتموا أكثر بهوية الشابين الجالسين خلف السائق، أكملوا اجراءاتهم وفتحوا لنا الطريق ليتوقف السائق امام مقهى ومطعم ويعلن عن استراحة.
نزل جميع الركاب ما عدا ابن حسن، دعاني وحسن "سي العلمي" إلى طاولة في مكان مشرف وطلب لنا قهوة فجلسنا في انضباط تام وكأننا تلميذين في حضرته لما كان قيما عاما في المعهد، بدأنا بالمصارحة بأسباب سفرنا إلى سوسة، أما "سي العلمي" فقد بدا الحديث بحماس عن ابنته التي نجحت بتفوق في الباكالوريا وهو يرافقها لاستكمال تسجيلها عن قرب بعدما سجلت عن بعد في كلية الطب بسوسة وإيوائها في مبيت خاص، ثمّ ارتبك وتلعثم في الحديث عن ولده الذي يسافر لتلقي تكوين في مجال الكهرباء، فقلت لهم أنني مسافر إلى سوسة لشراء لوازم طبية لركبة والدتي من شركة مختصة هناك قد دفع لهم أخي ثمنها مسبقا بالتحويل من الخارج ثم نظرت لصديقي حسن فأجاب قبل أن نسأله فقال أن ولده الذي بسيارة الأجرة يعاني من التوحد منذ الصغر ولم يتفطن له أحد من العائلة وتطورت حالته إلى أن بلغ سن السابعة عشر وأنه تعرف على جمعية شبابية في مدينة غارالدماء ساعدته على التعلم وتكفلت ببعض حصص العلاج لدى مختصّين، وهو مسافر معه إلى مدينة سوسة لأن فرع الجمعية هناك سينظم رحلة سياحية واقامة بنزل مع حصص علاج وتواصل وتنمية المهارات. شعرت بتأنيب الضمير على الغضب الذي انتابني وسوء الظن بهذا الولد الجميل، فحاولت تغيير الموضوع لكن وقت الراحة انتهى، فقد نادانا السائق بمنبه السيارة وبقي الشابين ينظران الينا بتوتر ويدخنان بنهم. انطلقت السيارة بسرعة في اتجاه سوسة وصار الجو مغريا لتجاذب أطراف الحديث ورؤية المناظر الطبيعة و"القلاع على التلال" كما يقول محمود درويش، فبادر "سي العلمي" بالحديث عن الأسعار وعن السياسة، فتدخلت قائلا:"ما رأيكم في ظاهرة الإبحار خلسة أو ما يسمّى الحرقة؟ لقد باتت متفشية" ، لم أكد أكمل كلامي حتى اهتزّ الشابين والتفتا لي ورمياني بنظرات حادّة، فتدخل صديقي حسن ليحكي لنا عن مغامرته سابقا في الحرقة حيث اضطرّ للعودة بسبب مرض ولده ثم نظر إليه بحنان وقبّله على جبينه. تواصلت السفرة في جو منعش وقاومنا الملل بالكلام، كما أنعشنا السائق بأغاني الشرق الجزائري الصاخبة فتدخلت الفتاة مترجيّة السائق تغيير الأنغام، ليسخر منها أحدهم قائلا:"نحب أغنية وطنية" فدخل الجميع في نوبة هستيرية من الضحك بسبب كلمة "اغنية وطنية"، نوبة أنهاها السائق قائلا:"ها قد أسكتُّ الأغاني وفتحت "البلوتوث" وسيختار لنا الأستاذ أغنية وطنية من هاتفه ونسمعها "، فهم "سي العلمي" أنه هو المقصود بالكلام فسلمني هاتفه وطلب مني أن أشغل أغنية بالانترنت إذ بعد بحث صغير شغلت أغنية الفنان السوري حمام خيري "تونس في القلب"، وفي لحظات ساد الهدوء وتوقفت السخرية وراحت الفتاة تسأل والدها عن الفنان "حمام خيري" وسجلت اسمه في دفتر صغير بمحفظتها، لقد كانت أغنية وطنية جميلة، ربما باتت الأغاني الوطنية تحتاج الصدق والأحاسيس أكثر من الحماس والانفعالات. "قالو خضارك فرح قلت الفرح عربي....تونس أميرة العرب يا مقصدي وطلبي....جيتك فؤادي رقص من العشق يا خضراء.....ألفين تحية وسلام من العاشق الحلبي" بهذه الكلمات العذبة دخلنا مدينة سوسة الجميلة وتسربت نسمات البحر من نوافذ سيارة الأجرة لتبعث فينا نفسا جديدا وأملا جديدا.
نزلت في محطة سوق الأحد العملاقة في قلب مدينة سوسة وواصل باقي الركاب الرحلة، وبسرعة تسلمت اللوازم الطبية المطلوبة من شركة فخمة في خدماتها واستقبالها ومعمارها، ثم تدحرجت وسط المدينة العتيقة مستمتعا بجمال المعروضات وروعة المكان إلى أن انتهى بي المطاف على كرسي عمومي جميل ومريح مشرف على البحر منتظرا اتصالا من صديقي حسن الذي وعدني بأن نرجع معا بعد توصيل ابنه للجمعية.
بعد حوالي ساعة التقيت بحسن الذي بدا لي متعبا والعرق يكسو كامل جسده، ناولته زجاحة الماء ليشرب ما بقي فيها من ماء عذب من غابتهم بالليمون والنعناع، بعدما شربها طلبت منه أن نذهب إلى مقهى جميل على شواطئ بوجعفر، لكنه رفض وبدا متوترا ومنفعلا وطلب مني أن نبتعد عن الناس ونجلس في مكان هادئ، انصعت لأوامره وجلسنا على شاطئ البحر، ودون مقدمات سألته عن سبب الحالة التي أصبح عليها وهو الذي تركته قبل ساعة منشرحا وسعيدا، رفض الإجابة في البداية ثم قال لي:"ستعرف الآن أو غدا، سينتشر الخبر" ثم أجهش ببكاء موحش مع زفرات حادة وطويلة تشق الأذن بل تقطع نفس من يسمعها، انتظرته حتى هدأ وطلبت منه مرة أخرى أن يتكلم، فأخبرني بكل شيء، لقد كان أحد الشابين الذين سافرا معنا من منظمي رحلات "الحرقة" ومرافقه حارق عادي، كما كان ابن "سي العلمي" أيضا حارق، طلبت منه أن يفسر لي أكثر فقال:" بعد محطة سوق الأحد توغل السائق بسيارته داخل نهج فارغ في حي سكني هادئ، وتوقف أمام عمارة فنزل الشاب منظم الحرقة ودخل العمارة ثم خرج منها بعد مدة وجيزة وأشار بيده فنزل مرافقه بسرعة ومعه ابن "سي العلمي"، أدخلهما إلى العمارة ومسح كامل النهج بنظراته الثاقبة ثم اقترب من السائق وهمس في أذنه وبقي واقفا بجانب السيارة، وقتها التفت لي السائق وراح يقنعني بأن أرسل معهم ابني للحرقة فهم ينقصهم واحد ليكتمل نصاب الزورق، وحتى "سي العلمي" حاول اقناعي معللا ذلك بأن ابني سيتكفلون به في ايطاليا لأنه يعاني من التوحد وستحتضنه الجمعيات هناك، فوافقت في لحظة يأس وعجز فدفع السائق عني مبلغ الحرقة كدين حتى نعود ثمّ أوصل الفتاة ووالدها الى كلية الطب وأنزلني معهما وها أنا بجانبك بعدما ودّعت ولدي دون أن اقبله"
أصابني دوار وأنا اسمع مأساة صديقي حسن، فارتبكت وتاهت عني الكلمات واحترت وتلعثمت، فماذا عساني أفعل ؟ هل ألقي عليه خطابا من الخطب الرنانة التي تقال كل يوم عن الحرقة؟ أم أعطيه درسا في الأخلاق وأقول له أن ابنك يمكنه أن يفتح مشروعا في علوم الفضاء بالمبلغ الذي استلفه من سائق سيارة الأجرة؟ بعد برهة من الدهشة والحيرة عانقته عناقا شديدا وقلت له :"لا تخف انّي معك صديقي القديم".
حوالي منتصف النهار ركبنا سيارة الأجرة حيث اتصل بنا السائق كي ننتظره في منطقة سهلول إحدى ضواحي مدينة سوسة، فرحب بنا ثانية وسلم على حسن وهمس في أذنه مبتسما وكأنه قدم له خدمة عظيمة، فالحرقة في بلادنا البعض يحتفل بها ويقيم من أجلها وليمة، لم تكن رحلة العودة ممتعة، فقط حدّثني حسن عن ابنه الذي قد يكون ورث التوحد عن عمه الذي توفي منذ زمن بعيد حيث كان يتنمر عليه الناس والرعاة وينعتونه بالمختل وبنعوت مخزية وقتها لم تكن للناس ثقافة الاختلاف ولا يعرفون شيئا عن التوحد.
بقيت أسامر حسن طوال السفرة ولم أغفل عنه إلى أن وصلنا إلى مدينة غار الدماء مساءًا ودّعته وطلبت منه أن يعلمني بكلّ جديد، ثم رجعت الى البيت، وخلال السهرة دخل أخي وفي يده هاتفه الذكي ليخبرنا عن مجموعة من شباب غارالدماء الذين وصلو إلى الأراضي الايطالية، ثم ناولنا الهاتف كي نرى الصور في وسائل التواصل الاجتماعي ولما جاء دوري مسكت الهاتف بأصابع مرتعشة ورحت أقلب الصور الواحدة تلو الأخرى إلى أن أشرقت في وجهي صورة ابن صديقي حسن، كتب تحتها أيهم بن حسن لقد عرفت اسمه أخيراً لقد تعارفنا لقد أحببته وأحببت نظرته الشاردة.
إرسال تعليق
0 تعليقات