«ذاكرة أسرة من العالم الثالث» قصة طويلة للكاتب التونسي: عادل البجاوي (الحلقة الأولى_المراهقة)




الحلقة الأولى: (المراهقة)
ذات جمعة.
06:55صباحًا.
__________

((قبلة عزيزتي كل ما أتمنّى؟))
((لا لن أعطيك شيء قبل أن تقول لي أحبّك))
((أحبُّكِ أحبُّكِ )) قالها و أطبق بشفتيه ثم إشارة من إصبعه إلى فيه  لتنفيذ وعدها.
وبدلال متزايد ((لا أنت تقولها لكلِّ البنات! أريد كلمة أخرى خاصّة، لم تقُلها لأحدٍ غيري.)) سكتت قليلا ثم أرْدفت ((أعْشقُك، تلك! أعشقُك بجُنون، هذه هي..! قلها!!)) ثم قاطعت نفسها قائلة ((قلها بعطف! بكثير من العطف..!؟ أريد أن أشعر بها.)) وأخذت نفسًا عميقًا و بدأت تنتظر بفارغ الصبر.
قاطعت الأمطار المشهد بهُطولٍ مُضْطرب؛ شعرت سميرة بغرابة تلك الأمطار وقد كان الجوُّ صاحيًا لا ينبّيء بكلّ هذا التقلّب!
أكمل صوت دَويّ قويّ، دويُّ برق ورعد معًا وثلوج من هنا وهناك. وبدأ يتحوّل لونُ المطر إلى الأسود ويأخذ ملمسًا لزجًا، غطّى وجهها بقطرات  منها فتكبّد شعرها. أمّا الفتى فقد ذعر من المشهد ثم فُقِد من أمامها. صعقة برق تليها رنّة غريبة من السّماء بدت لسميرة مألوفة، وصعقة أخرى وتلك الرنّة بعدها أصبحت أوضح بكثير أشبه بمنبّه، وضربة أخف هذه المرّة طغى عليها صوت المنبّه.
فتحت سميرة عينها على منظر الساعة الإلكترونية  أمامها (Am07:02)
((هذا المنبّه اللّعين...)) قالت. ثم تذكّرت وأردفت بتأسّي ((لم يقلها!))
ضربت بكفّ يدها السّاعة أمامها توقفها أو تحطِّمها. كان سواء لها تحطيمها في تلك اللحظة ولم تكن لتعِر بالا، حتى إن كان تهوُّرها سيجرُّ عليها مصائب مع والدتها، وخصمًا من مصروفها الشّخصي. فهذه السّاعة منذ إقتحامها غرفتها، أفقدتها كل اللّحظات التي إنتظرتها شوقًا ولهفة لتنتعش بوجودِها مع حبيبها  الإفتراضي. أغمضت عينيها قليلا؛ علّها تُرجع لحضاتٍ خلت، ولكن لا شيء.
 نهضت متثاقلة من الفراش مُرغدة مزْبٍدة من سُوءِ حظِّها ، فهي لم تُسْتشعر لا في أحلامها ولا في يقظتها حتى أصبحت بعد الإستفاقة تُكمل بضع دقائق في أحلامِ اليقظة.
 أطلقت تثائبًا مفزعًا وفركت عينيها وهي في طريقها للحمّام. أشاحت للمرآة وحواراتٌ من أحداث أمس مازالت عالقة في ذِهنها. رغم بهوتِ تلك الحوارات وقلّتها، إلا أنّ كلمات صديقتها المقرّبة والوحيدة سهى ثبتت في ذِهنها ثبوتا تام وأصبحت تُعاد وتُعاد ككلمات أغنية عالقة في مشط مسجِّل: ”يا سميرة أراكِ تائهة، مابالُك يافتاة ما الذي أخذك منّا!؟ أطرق الحبُّ بابك؟“ .. تمعّنت في إنعكاس صورتها على المرآة ترتّب إجابة منطقيّة عن تلك التي أفرزتها، إشتهت في تلك اللّحظة أن تُجيب صديقتها إجابة شافية، بل و تقصَّ لها حكاية جميلة عنها وعن حبيبها المتهوّر الطّريف، لكن إستبدل كل هذا بهمهمات تهرُّبية.
 أرادت أن تكون لها جُملها الخاصة وحياتها الخاصة وتجربتها الخاصّة . تمنّت حقا أن يكون سبب ذلك الهُيام شخص، بل أيُّ شيء مفهوم، ولكن حتّى هيامها لم يكن له داعي واضح لها ، بل أصبح جزء لا ينفصل عنها و عن كيانها.
نظرت ونظرت للمرآة، ولكن ملامحُها لا تُوحي بشيء في الصّباح. غسلت وجهها بتشنّج حتى إندثر قليل من الماء على حافّتي جبينها ، فأبتلّ شعرها.  وقبّلتْ بُسلات منها بشرتها ثم نظرت ثانية للمرآة، ولكن لم تفهم التعبير الذي بدى على ملامحها ، أتعبتها سّحناتها المتصلّبة التي لا تُشبه أي سحنات؛ ملامح لا توحي بشيء إلا بالذّهول.
تنظر وتنظر وينعكسُ البصرُ خاسئًا وهو حسير؛ تريد أن تفهم نفسها، تريد أن تكون شيئا ما، كيان مفهوم، يُصاحب ويُتعايش ويحب تلك الكلمات أتعبتها ، خاصّة الأخيرة. كانت تعلمُ أن شخصا ما كان قادر على إخراجها من وضعها الخفيّ الشفَّاف الضّبابي، إلى الوضع  البارز الجلي.
 فقط يعامِلُها بجدّيّةً! كانت مستعدّة أن تبادِل نصف حياتها ذهبًا وتهبَه حتى تُستشْعَر و تُعاملَ بجدِّية من أحدِهم .. عندها حتما ستكون تلك التي تُرِيد ؛ القويّة المتمرّدة التي لا يوقِفُها شيء.
ولكن كيف؟
سطّرت برنامجُها الخاص الذي يراد فقط منه أن يفعّل؛ حدّدت له خُطواته بدقّة متناهية، بداية من زميلاتها في القسم؛ ثم كل من له علاقة بفصلها من قريب أو من بعيد، ثم كل من نظر إليها ولم يُعِرْها إهتمامًا، ستردُّ بكلِّ كلمةٍ المثْل، وبكلِّ حركة تجاهلٍ بالمثل وأكثر، وتُصبح هي المتكبِّرة المُتجاهلة... تخطِّط وتخطّط... ولكن سرعان ما تدرِكُ بأنَّ التمرُّد لا يُناسبها ، فتقوم بتعديل!
  ترى دائمًا بأن مُجتمعها الصّغير يضعُها في زوايا لا تريدها، وترى نفسها تُحشر لا إراديّا بين أرذَل القوْم وأدناهم، وتقاس بمقاييس فاحشة في نظرها وغير عادلة ؛ فهي لم تفهم جفاء الأصدقاء رغم محاولاتها العِدّة حتّى إقتصرت صُحبتها على فتاةٍ كثُر إختفائُها أو تهرُّبها. وإثنين من الفتية من نفس الفصل؛ رأت فيهما التّعاسة ذاتها  حتًى خفّت عليها وطأةُ صُحبتِهما.
 طالما وجدت إختلافا فيها عن باقي النّاس بدءًا بسحنات وجهها الغامضة إلى شكل جسمها الغريب، حتى وصل بها الإختلاف إلى أعماق كيانها.
 أمِلت أن تفهم سرِّ عالمها الأجوف الذي لم يخترقْه أي ضوء يُنيرُ معالمه، ولكن لم يُعنها أحد، حتّى الشّخص الذي وهبتْه نظراتها وإهتمامها ، حاولت إغْرائه  بتعابير  لا تجد حتّى هي عنوانا لها، ولكن كلّما صادفته  لا يبادلها سوى إحتقارا وتجاهلا! كأنّ رسائلها مبهمة و غير مختومة بطابع خِلقي تضمنُ وصوله.
 وتلك الأيّام تمضي وتخترقها بغير مبالاة، أحسَّت بكبر سنّها وهُرومتها رغم أنها لم تتجاوز السادسة عشر . يساورها أحيانا شعور سيّء، شعور بالخوف يتملّكُ تفكيرها؛ تخاف أن لا تكون لها حياة كبقيّة الناس:
_ حياة تغوص في تفاصيلها..
_ حياة تتذكر  روعة لحظاتها..
 فتسأل نفسها عن المستقبل كيف سيكون؟ وكيف سترنو فيه لمزيد من تقدم  بواقعها هذا الأجوف؟؟
 تشغِّل أحيانا أغنية قبل أن تنام وتريد الرّقص على ألحانها. ولكن لا يُسعفُها جسدها فتسعى لفكِّ تشنُّجه! و تشعر عند المحاولة بالغرابة الشّديدة! كأنها شخص آخر ليست هي فتوقف الأغنية وتُسرع بالنّوم.
لم تجد لهيكلها العام والخاص من تعبير تجاريه وتحدّد به معالم شخصيّتها، كما لم ترَ لحياتها معنى واضح!
 أخذت معجون الأسنان، وهمّت بفرك أسنانها ناظرة للمرآة، ونفسها تخبرها بيوم جديد مفقد من الحياة؛ من إبتسامة على وجه عاشق ، أو حكاية جديدة من شفاه صديق، سوى رُوتين الدِّراسة وكآبة الثّانويّة!
إرتدت ملابسها بالإسراع تارة وبالخُمول تارةً أُخرى، ثم توجّهت للدّرج بعدما صفعت باب بيتها، وتركت ذلك السّرير دون ترتيب عقابً له! تُريد أحيانا أن تخبر جميع من في المنزل عن عدم رضائها  وأن تشعل إنتفاضها من هناك؛ بدءًا من أبيها الذي لم يعد يعرها إهتمامًا، وأمّها التي  تُعاملها بجفاء كبير كأنّها عبء ثقيل ويجب الخلاص منه! تريد الإنفجار! ولكن ترتدُّ الكلمات رجوعًا في كلّ مرّة ، حتى أصبح صوتُها في الحوارات، حوارات عاديّة جدّا أشبه بصوت غارق في إستغاثته الأخيرة.
إعترضها أخيها الصّغير وهو يتملْملُ في الرُّدهة؛  إبتسمت وربَتت على رأسه ثم إتّجهت نحو السُّلَّم . نزلت الدّرجات الأولى مسرعَةً ثم أكْملت باقي الدّرج بتأنِّي شديد. وعندما إنعرجَت نحْو المطْبخِ وجدتْ أُختها آية صاحبة  العشْرِ سنوات تأكُل بنهم، وتغنِّي أُغنيتها المشهورة التي لم يكتشف أحد إلى الآن كلماتها الحقيقيَّة. ألقت عليها سميرة نظرة، وتوجَّه بصرها بسرعة فائقة نحو أمِّها التي كانت تُرْغِدُ وتُزبدُ مع الهاتف  مشيرة إيّاها بفطورها في الطّاولة بجانبها ، ثم أطلقت صيْحة على ابنها بالنّزول و رجعت للهاتف تُزبد. لم تتخيّل أن تحتضن أمّها يومًا كما ترى وتسمع عن صديقاتها. فاشتهت الابتسام لها ولمَ لا تحيّة الصّباح، ولكن لم تُسعفها شفاهها بالابتسام ولا بالكلام ، فأخذت لقمة على عَجَل ومصرُوفها الشّخصي القابع بجانب صحْنِ مربَّى التُّوت، ثم أسرعت نحو الباب.

إرسال تعليق

0 تعليقات