الهاوية| قصة قصيرة للأديبة التونسية: سحر إبراهيم النصراوي

 


- هل تعرفُ طريقًا أطولَ للعودة ؟

* أعرفُ طرقات تدوم إلى الأبد .

- خُذني إليكَ إذًا في طريق , لا تنتهي , إلاّ لتبدأَ من جديد ...

***********


وقفت فوق أعلى بُرج من أبراج القلعة و هي تُتابعُ حركة الغيوم , التي ألفت النّظرَ إليها في مثل هاته السّاعة .

لوحةُ ألفَتها دُونَ ملل , لوحةُ يزدادُ شغفُها بها كلّ صباح .

مسحةٌ من اللّون الزّهري الباهت , يتحوّلُ إلى شبه أرجُوانيّ عندَ أطراف البصر, و غيومٌ بيضاءُ و رماديّة , تسيرُ و تعبُرُ السّماء , حاملةَ في جوفها صُوَرًا عن ما أنستهُ من اللّيل من أحداث و أحاديثَ بشتّى اللُّغات.

تُحاولُ أن تُنصتَ لها , لكن عبثًا تمضي الغُيُومُ في كتمانها الأزليّ .

فتحت جناحيها , فردتهُما , و نظرت مليًّا إلى الهاوية السّوداء السّديميّة المُحيطة بالقلعة .

فكّرت أن تكُفّ عن الانتظار و أن تبدأ السّعيَ وراء مُغامرة ما .

حاولت أن تقمعَ تلكَ الرّغبة لسنوات , لكنّها لم تعُد تُريد فعلَ ذلك بعدَ الآن .

فكّرت .. أيّ طريق يا تُرى تتّخذُ ؟ .. تلكَ التي تسلُكُها الغيوم , فتكتشفُ أينَ تستقرُّ كُلّ تلك القصور و الجنّات التي رسمتها أشكالُها ؟

أم تُراها تنزلُ إلى الهاوية و تُعانقُ سديم العدم الذي بُنيت عليه القلعة ؟

ثُمّ قرّرت فجأةً أن تطيرَ و تترُكَ لجناحيها العنان , فهي لم تُجرّب ذلكَ أبَدًا, و فعلاً ركضت خُطوتين في الهواء و قبلَ أن تهُمّ بفرد جناحيها , اجتذبتها الهاويةُ المُحيطة بالقلعة و ابتلعها الظّلامُ.

ظلّت الحركة تتكررُ مرارًا و تكرارًا , و هيَ و في كلّ مرّة تسقُطُ من جديد إلى مكان أعمقَ.

خذلَها جناحاها اللّذان لم يستَطيعا حملهَا , لم تعَد تستطيعُ فتحهُما و لا الطّيران .

و هيَ تهوي , رأت أشباح لوجوه تعرفُها , انفجرت بعضُ الذّكريات , السّقوط ذكّرها بتلكَ الدّماء الملعونة التي تحملُها و التي ظلّت طيلة حياتها سببًا في عيشها في عالم بينَ الحياة و الموت .

عالمٌ اختلطَ فيه الأمواتُ بالأحياء و ساروا جنبا إلى جنب معها .

عالمٌ كانت تأنسُ فيه إلى الأموات  و تُحدّثُهم طويلاً عن ما يدُور في عقلها و خاصّةً في وجدانها .

الأحياء اكتفُوا بمُشاهدتها تهوي , مُحافظينَ على رباطة صمتهم .

و قبلَ أن تصلَ إلى قاع تلكَ الهاوية , ظهرَ هُوَ و التقَطَها , نظَرت في عينيه و هي مصدومةٌ مُتسائلةً : ..تُرى من أينَ ظَهرَ ؟

هي لا تعرفُهُ , طارَ و هو يحملُها إلى صخرة استقرّت في مُنتصف الهاوية , وضَعَها على الصّخرة و ظلّ كلٌّ منهُما يُحدّقُ بالآخر .

كلاهُما بدى جدّ مألوف للآخر و قريبًا إلى درجة فكّر فيها كلاهُما .. لو يتعانقان ؟

ظلّت تنظُرُ في عينيه و هي تبتسمُ , خمّنت .. إنّه رجلُ الظّل ّ .

نظرت إلى جناحيه .. كان لونُهُمَا أسود على خلاف لون جناحيها الأبيض , لكن حتّى ذلك بدى لها جدّ مألوف .

سألها :

- هل تُريدينَ العودة إلى القلعة ؟

فأجابته و قد استفاقت من دهشتها :

- من أنتَ .. هل أعرفُكَ ؟

- لا لا أظُنُّ ذلك ... و لا أظُنُّ أنّنا التقينا من قبل.

سألتهُ : 

- هل أستطيعُ معرفةَ اسمك ؟

- صمت قليلاً ثُمَّ ابتسمَ و أجابَ : اسمي نياض .

ابتسمت بدورها : اسمي أرمينيا و واصلت , شُكرًا لأنّكَ أنقذتني , لكنّني لا أنوي العودةَ بعد؟

- نياض : أنا لن أُجبرك , لكنّك لن تجدي ما تبحثين َ عنهُ هُنا .

- أرمينيا : لكنَّك لا تعرفُ عن ما أبحثُ ..لأنّني أنا نفسي لم أعرف ذلكَ بعد .., لكن من يدري , لعلّي وجدتُهُ .

هٌنا سمعت أصوات و لغطًا بعيدًا .

- نياض : أظُنُّ أنّهُم يبحثون عنك . 

- أرمينيا : لا أحَدَ يبحثُ عنّي .. هُم يبحثُون عن ما كُنتُ عليه .

- نياض : و الذي حدث ..؟ .. ما الذي تغيّرَ ؟

- أرمينيا : فقدتُ القُدرة على تحريك جناحيّ مُنذُ مُدّة , كانوا يطيرونَ و مُنذُ زمن لوحدهم ..لا أحَدَ سألني لمَ لم أعُد أُرافقُهُم في رَحلاتهم .. و لا حتّى لاحَظَ ذلك .

- نياض : كُنتُ أراك كُلّ صباح , تقفينَ في أعلى بُرج من القلعة .. ناظرةً إلى السّماء .. خلتُك تَرقُبينَ عودةَ أحدهم .

- أرمينيَا : رأيتَني من قبل ؟

- نياض : كُلّ صباح 

- أرمينيَا : لم أكُن أنتظرُ أحدًا .. رغبتُ في استعادة القُدرة على الطّيران , و كُنتُ كُلّ صباح , أَهُمُّ بالمُحاولة .. لكنّ الشّجاعةَ كانت تُعوزني .. فكُنتُ أكتفي بالتّحديق إلى السّماء , و تَخَيّل الأمكنة التي كانَ لجَناحَين قَويين أن يحملاني إليهَا .

- نياض : هل تُريدينَ أن أفحصَ جناحيك ؟

- أرمينيَا : و هل تستطيع .. هل تُجيدَ مَعالجتَها ؟ 

- نياض : دعيني أفحصُهُما أوّلاً .

فتحت أرمينيا جَناحيهَا , أبيضين , تميلُ أطرافُهُمَا إلى الفضّي .

جناحان ناصعَا البياض و اللّمعان , .. بياضٌ لم تستطع حتّى حُلكةُ الهاوية أن تحجُبهُ .

قام نياض  بفحصهما و تفحُّصهما جيّدًا , أحسّت بشيء من الخجل و خَفقَ قلبُهَا بشدّة حتّى باتت دقّاتُهُ , نواقيسَ تقرعُ أذٌنيهَا من قُوّتهَا .

تراجعَت قليلاً و تأوّهت و هوَ و هوَ يُحرّكُ الرّيشَ, فاعتذرَ و عاوَدَ سُؤالهَا .

- نياض : ألم يفحصك أحدٌ من قبل ؟

- أرمينيَا , لا و لم يَخطُر ببالي أن أسألَ أحدًا , لم أُرد أن يعرفُوا .

عادت الأصواتُ و تعالت النّداءاتُ .. هذه المرّة , سمعت اسمَهَا , نظَرت إلى الأعلى و قد تَبيّنت من السّماء بُقعةً صغيرةَ .

- أرمينيَا : لن أصعَدَ .. قبلَ أن أعرفَ ما أصابَني .

- نياض : يُمكنُك المُكوثُ قدرَ شئت .

- أرمينيا : تُقيمُ هُنا .. لمَ لستَ معنا بالقلعة ؟

- و لمَ لونُ جناحيك مُختلفٌ ؟

- نياض : أنتَمي إلى مجموعةٌ أُخرى و عرق آخر .

- أرمينيَا : و أينَ هم الآن .. لمَ لا أراهُم ؟ و ما الذي تفعَلونهُ داخلَ الهاوية ؟

- نياض : نحنُ حُرّاس السّديم و أنا الأخير في قومي .

- أرمينيَا : لماذا .. ؟ ما الذي أصابَ البقيّة ؟

- نياض : أرادوا أن يُعانقُوا النّور .. و حينَ جرّبوا ذلكَ , صاروا يَتخاذلون في عمَلهم و لم يُعيروا الهاويةَ انتباهًا , .. فانتقَمت منهم و ابتَلَعتهُم .

- هُم الآن أشباح .

- أرمينيا : هذا مُؤسف .., و هل فَهمتَ ما حلَّ بجَناحي ؟

- نياض : أجل .. , إنّهُ مرضٌ يُصيبُ ألهجيني العرق , .. تصلُّبُ الأجنحة .

تعالت الأصواتُ من جَديد و صارت أكثرَ قُوّةً ... أرمينيا , .. أرمينيا, أينَ أنت يا أرمينيَا ؟

- نياض : تُريدينَ أن أعيدَك إلى القلعة ؟ 

- أرمينيَا : ليسَ بعد , و ارتجفت قليلاً كمن صُعقَ .

- نياض : هل أنت بخير ؟

- أرمينيَا : أجل .. لا تقلق .. و لكن أرجوك أجبني , قُلتَ لي أنّهُ مرضٌ يُصيبُ هجيني العرق .. كيفَ ذلك ؟

- نياض : أنت تنتمينَ إلى هُنا أيضًا .. دماءُك خليطٌ بين دماء فُرسان القلعة و حُرّاس الهاوية .

صمتَ الاثنان و عاودت أرمينيَا ارتجافةٌ قويّةٌ , ارتدَّ معهَا صدرُهَا إلى الوراء حتّى كادت تسقُطُ من جديد .

أمسكَ بها نياض و طارَ بهَا و هو يُحدّثُها :

- إذا كنت لا تُريدينَ مُغادرةَ الهاوية , لا بأسَ بذلكَ , لكنّنا نستطيعُ التّنقُّل و العودةَ إليها .

- أرمينيَا : حقًّا .. هل نستطيعُ العودةَ 

- نياض : طبعًا , لكنّنا سنخرُجُ من مكان لا يراهُ فُرسان القلعة و لا يعرفونَهُ .. و نطيرُ ..

- أرمينيا : لكن تعلم .. أنا لا أستطيعُ الطّيران .

- نياض : لا بأس .. أنا سأطيرُ و أحملك .

- أرمينيَا : حقًّا .. إلى أين ؟ 

- نياض : إلى كُلّ تلكَ الأماكن التي كُنت تستطيعينَ الوُصولَ إليها لو كانَ جناحاك سليمان .

- أرمينيا : ألن أستطيع الطّيران من جديد ؟ 

- نياض : و من يحتاجُ إلى ذلكَ .. ؟

ابتسمت أرمينيا و طار نياض و هوَ يحملُها و يطوي السّماء بجناحيه , أخذَهَا إلى أماكنَ لم تتعوّد الطّيرانَ فوقَها و لا حطّن بها .

مُدنٌ و قلاعٌ و أراض من الفردوس .

أحسّت أرمينيَا بصعقة أقوى من التي سَبقتهَا , تخترقُ صدرها و تستقرُّ في قلبها . 

كَظمت ألَمَها , و نظرت في عيني نياض الذي كانَ يُحلّقُ و يطيرُ و يطوي الغُيومَ .

- أرمينيَا : لا أُريدُ العودةَ إلى القلعة .

- نياض : فلا تعودي إذًا .

و اخترقت جسدَ أرمينيا صعقةٌ اهتزّ لها كُلُّ جسدها , و سمعت الأصواتَ, .. أصواتَ نداء فُرسان القلعة , تخترقُ أُذُنَيها .

ظلّ جسدُها يهتزُّ و يرتجفُ, إلى أن أفلتت من بين يدي نياض , الذي حاولَ عبثًا الإمساكَ بهَا .


- داخلَ غُرفة عمليّات , وقفَ داخلَها جمعٌ من الأطبّاء , يُهنّئونَ بعضهُم و السّعادةُ تكسو وُجُوهَهُم, مُتحلّقينَ حولَ طاولة عمليّات استلقت فوقَهَا فتاةٌ , بالكاد فتحت عينيهَا , شبهَ غائبة عن الوعي , سألت :

- أينَ أنا .. ؟

- الطّبيب : حمدًا للّه على سلامتك يا " رنا " , لقد كدنا نفقدك .

- الفتاة : ما الذي حدَثَ ؟

- الطّبيب : لقد تعرّضت إلى حادث مُميت , لكنّك نجوت , ثُمّ و أثناء العمليّة لربط الأوردة المقطوعة في رجليك , توَقّفَ قلبُك , لكنّنا استطعنا إعادتك إلى الحياة , التي كُنت على وشك مُغادرتها .

كانت عينا الفتاة و حدقتاها تزدادان اتساعًا و هيَ تستمعُ إلى الطّبيب , نظرت إليه و ه شبهُ غائبة عن الوعي .

- الفتاة : لا أستَطيعُ رفعَ رأسي ليرفع أحَدُكم رأسي .

تقدّم طبيب التّبنيج و قالَ لَهَا : 

- إنّها الآثارُ الجانبيّة للبنج .

- الفتاةُ : ارفعوا رأسي قليلاً .. أرجوكُم .

رفعَ الطّبيبُ رأسَها بحيثُ استطاعت النّظرَ إلى الجميع , أجالت النّظرَ في الغُرفة ثُمّ نظرت إلى جَسدها , و لم تلبث ثوان حتّى بدأت في صُراخ و بُكاء هستيري و هيَ تنظُرُ إلى ساقيها المبتورتين .

كانت تُردّدُ و هي تبكي بمرارة , أنتم مٌجرمون ,

- لماذا أعدتموني .. ؟

- لقد كدتُ أنجو ..

- لماذا أيقظتموني ..

لقد كدتُ أن أنجو .. 

...........

سحر إبراهيم النّصراوي - تونس 



إرسال تعليق

0 تعليقات