البئر | قصة قصيرة للأديبة التونسية: سحر النصراوي
- أُنظُر أمامكَ جيّدًا .. ما الذي تراهُ ؟
* أنا .. لا أرى شيئًا , الظّلامُ شديدٌ و حالك .
- حسنًا , حاول أن تهدأَ و أخبرني إن كان بجانبك أيّ شيء .., أحجارٌ صغيرة ,أو أخشاب , حاول أن تتحسّسَ المكان .
* هل سيتأخّرُ فريقُ الإنقاذ ؟ .. أخافُ إن أنا تحرّكت أن تقعَ يدي على شيء يُؤذيني كما أنّني أُحسّ بأنّ هنالك فجوةً في حائط البئر لأنّ الهواء يتسرّبُ من داخلها .. أنا خائف .
- لا تخف , لن يتأخّر المُنقذون .. لكنّني في انتظار مجيئهم سأحاولُ أن أُساعدَكَ .
نظَرَ عُدي إلى هاتفه المُغلق بسبب انتهاء شحن البطّاريّة , ثُمّ عاد ل سامر يُخاطبهُ ,
- عُدي : حسنًا أخبرني , هل تستطيعُ تحريكَ قدميك ؟
- سامر : لا أعلم , سأُحاول , لكنّني أحسّ بألم كبير في حوضي .
حاول سامر تحريكَ رجليه و لكن بصُعوبة كادت تجعلُ صرخةً تُفلتُ منهُ من شدّة الألم .
- سامر : أستطيعُ تحريكهُمَا , لكن بصعوبة , لا أستطيعُ أن أثنيهُما .
- عُدي : حسنًا لا بأس بذلك , لا تُجهد نفسكَ لستَ مُجبرًا على تحريكهُما و لكن أخبرني هل تستطيعُ تحريكَ جذعك ؟
- سامر : لا أعلم , سأُحاول , ..
حاولَ سامر تحريكَ جذعه , لكنّهُ بالكاد استطاعَ أن يُبعده عن الحائط الصّخريّ , أحسّ بشيء يتدفّقُ من ظهره , شيءٌ دافئ يسيل حتّى يصل الأرض , تحسّسهُ .
- عُدي : هيّا أخبرني هل استطعتَ التّحرّكَ ؟
- سامر : أنا خائف ..
- عُدي : ماذا حدثَ طمئنّي .. أخبرني ما الذي يُخيفك ؟
- سامر : لستُ متأكّدًا , لكنّ شيئا دافئًا و لزجًا يتدفّقُ من ظهري و بالكاد أستطيعُ تحريكَ جذعي .
صمت عُدي قليلاً ثمّ واصل :
- حسنًا لا بأس .. لا تخف , سيكونُ كُلّ شيء على ما يُرام كمَا أنّ فريق الإنقاذ لن يتأخّر , لكم في الانتظار أنصت إليّ جيّدًا .
- سامر : أنا مُتعب .. أٌحسّ و النُّعاسُ يكادُ يغلبُني .
- عُدي : حاول أن لا تستسلمَ للنّعاس , سوفَ أُلقي إليكَ بمعطفي , حاول أن تلتقطهُ .
- سامر : الظّلام حالك , لن أستطيعَ رؤيتهُ .. كمَا أنّني عاجزٌ عن الحركة .
- عُدي : لا بأس , سأُحاولُ تتبّع الصّوت .. لم لا تُغنّي لي أُغنيتكُ المفضّلة ؟
- سامر : أُغنيتي .. و هل تعرفُها ؟
- عُدي : سمعتُك تدندنُ اللّحن و أنت تستحمّ أكثر من مرّة .
- سامر : حسنًا .. سأُغنّيها , لكنّني لستُ مُغنّيًا بارعًا .
بدأ سامر بالغناء بصوت مُتقطّع أقربَ للحشرجة منهُ للغناء :
على السّلالم الخشبيّة
جلست طفلة مثل الحوريّة
تحلم و تغنّي
لتُردد غناءها حيطانُ بيت
فقير إلاّ من الحبّ
- عدي : لقد عرفتُ مكانك , سألقي بالمعطف .
- سامر : حسنًا هل أواصلُ الغناء ؟
- عدي : طبعًا لكن انتبه لتلتقط المعطف .
ألقى عدي بالمعطف , و فعلاً تلقّفهُ سامر .
- سامر : شكرًا , لقد التقطتُهُ , سأُحاولُ أن أرتديه , لكن أخبرني هل أواصلُ الغناء ؟
- عدي : طبعًا أرجوك واصل الغناء , طالما استطعت , الأغنية جميلة .
واصل سامر الغناء و هوَ يُحاولُ ارتداء المعطف , و فعلاً نجح في ذلك بشيء من الصّعوبة.
- سامر : لقد ارتديتهُ فعلاً .. هكذَا أفضل .. ولكن تُرى , لماذا تأخّرَ فريقَ الإنقاذ ؟
- عُدي سأُحاولُ الاتّصال بهم من جديد ثُمّ أعود .
- سامر : حسنًا افعل و لكن لا تتأخّر ثُمّ عاد للغناء :
طفلةٌ تبهر كالحُلم تُزهر
ترقصُ و تدور
و تُردّد رقصاتها
فراشاتُ بيت خالي
إلاّ من الحبّ
في الأثناء كان عُدي ينظُرُ إلى الهاتف المُغلق و قد انهمرت دموعُهُ غزيرة ً , المكانُ نائي و بعيدٌ عن كلّ شي , ما الذي دهاهما حتّى يفرّا ..سارا لمُدّة يومين و لم يصلا الطّريق بعد , الشّيء الوحيد الذي كان يُسلّيهمَا هوَ كلّ تلك الأحاديث عن أحلام الطّفولة ..
عادَ عُدي و نادى سامر :
- عدي : اتّصلتُ بفريق الإنقاذ , لقد انطلقوا بالفعل , .. وسيصلون إلى هُنا خلالَ ساعتين .. فهل تستطيعُ الصّمود ؟
- سامر : أجل لا بأس .. لم أعُد أُحسُّ بالبرد .
- عُدي : لطالمَا كنتَ أكثرَنَا صلابةً و جلدًا , .. هل تعلمُ أنّني كنتُ أغارُ منك ؟
- سامر : .. يا إلهي حقًّا ؟
- عدي : كنت متفوّقًا علينا في كلّ شيء كما كنت الأكثرَ حُظوةً عند النّساء , قهقه عُدي , لماذا كانت النّساء تُفضّلنكَ علينا ؟
- سامر : حقًّا ؟ لم أكن أعرفُ ذلكَ , هل كُنَّ حقًّا تُفضّلنني ؟
- عُدي : أجل لقد كُنّ كذلكَ , كُنتَ مُمَيّزًا في أعيُنهنّ ؟
- سامر : و لماذا حسبَ رأيكَ ؟
- عُدي : لم يسبق أن جرّبت التفكيرَ في شرح , لكن يبدو لي أنّ الجوابَ بديهي ّ .
- سامر : بصوت مُتقطّع قريب للحشرجة , أخبرني إذًا ؟
- عدي : حسنًا , أظُنُّ أنَّك كُنت تبدو مألوفًا لكلّ من يعرفُك كمَا أنّك تُجيد الإنصات و النّساء تأمنّ جانب الرّجل الذي يُجيدُ الاستماع إليهن, أظنُّ أنّ ذلك يُشعرُهُنّ بالأمان , على ما أعتقدُ .
- سامر , بصوت بالكاد يُسمع لو لا الصّدى الخفيف الذي كان يُرجّعُهُ البئر :
- أشعُرُ بالنُّعاس , لكن أخبرني , هل طلبُ الإحساس بالأمان , حاجةٌ نسائيّةٌ , فقط ؟
- عُدي : لا أعلم , لا أظٌنُّني مُتيقّنًا , لكنّني عرفتُ خلال حياتي نساءً أحسستُ إلى جانبهنّ بالأمان.
- سامر : أنا خائف ..فهل يجعلُني ذلك ضعيفًا ؟
- عُدي : بل يجعلُكَ بشريًّا , ثُمّ لماذا أنتَ خائف و من ماذا ؟ أنا هُنا و لن يمسّكَ أيّ مكروه كما أنّ فريقَ الإنقاذ سيصلُ قريبًا .
- سامر : أخافُ أن أموتَ هُنا .
- عُدي : فلا تُفكّر بالموت إذًا ..فكّر بكلّ ما ينتظرُكَ بعد أن تخرُجَ من هُنا , فكّر بكلّ الحماقات التي تستحقُّ أن نرتكبَهَا سويًّا .., صمتَ عُدي قليلاً , ثُمّ واصل :
- أخبرني إذًا عن أوّل مكان ستقصدُهُ بعدَ الخُروج من هُنَا ؟
- سامر : رُبّمَا سأبدأُ بالبحث عن امرأة , لا يُحرجُني أن أشعُر بالخوف أمامهَا ..امرأةٌ يُشعرُني وجودُهَا في حياتي بالأمان .
- عُدي : أحسنت .., هذا ما أسمّيه بدايةً موفّقة و خيارًا جيّدًا , أساسًا أظُنّ الأوان قد آن لذلك .. ثُمّ ماذا ؟
- سامر : قد أُغنّي لها .., أعتني بها, و أُخبرُها كم كانَ عُثوري عَليَا رائعًا و أنّهُ من أجمل الصُّدَف في حياتي .
- عُدي : و ماذا أيضًا , أُريدُ أن أتخيّل معك ذلك , هذا حقًّا رائع .
- سامر : سأٌخبرها أنّني ادّخرتُ كلّ هذا الحُبّ و لسنين حتّى أضعهُ بينَ يديهَا ..سأُخبرُها أنّني رجلٌ كان يخافُ أن يموتَ وحيدًا , في مكان لا قبرَ فيه .. و أنَّ الحُروبَ قد أخذت منّي كُلّ شيء , لكنّهَا لم تأخُذ منّي حُلُمي .
- عُدي : أيّ حُلم ؟
- سامر : حُلُمي بأن ألقاها .
- عدي : كيف تبدو ؟
- سامر : من ؟
- عُدي : حبيبتك ؟
- سامر : جميلةٌ حدّ الغيرة من أن يلفُظ , آخرُ اسمها على لسانه .
استمرّ سامر و عُدي في حديثهمَا , هكَذا إلى أن أخذهُمَا النّعاس و نامَا على وقع نبضات الحُلم في قلبيهما .
عندَ بُزوغ الشّمس التي تسلّلت إلى البئر , استيقظَ سامر على صوت مُحرّك سيّارة جيب كانت تقتربُ من البئر الذي كان عالقًا داخلهُ , فنادى عُدي مرارًا و تكرارًا لكنّ هذا الأخير لم يُجبهُ .
سمعَ أصوات تقتربُ من البئر , فرفع عقيرتهُ بالصّراخ , إلى أن ردَّ عليه أحدُهُم .
كانوا فرقةَ مشاة من مُعسكر العدوّ .
قاموا بإخراجه من البئر بصعوبة بالغة و قد تطلّب ذلك كثيرًا من الجّهد و الوقت , عندما خرجَ أخيرًا و قد كان محمولاً على محفّة , رأى جسدًا ممدّدًا على الأرض بجانب البئر , داخل كيس دفن أسود , جانب الكيس كانت تُوجدُ أفعى سوداء كبيرة مقطوعة إلى نصفين .
سألَ سامر الجُنود عن ما حدثَ , ليُجيبهُ أحدُ الجُنود :
- يبدو أنّ رفيقكَ قد دفَعَ ثمن منعهَا من الوصول إلى البئر ..
اغرورقت عينَا سامر بالدّموع و هو ينظُرُ إلى جُثة عُدي و لسانُ حاله يقول :
- لقد وفيتَ بوعدكَ .., حيثُ أخلفتُهُ..
___________________
سحر إبراهيم النّصراوي
إرسال تعليق
0 تعليقات