«ذاكرة أسرة من العالم الثالث» قصة طويلة للكاتب التونسي: عادل البجاوي (الحلقة الثانية_ المظلوم)



الحلقة الثانية: المظلوم
الساعة 17:20
___________

يُسمع أزيز مفتاح من القفل الخارجي للباب  وينفتح قليلا ، تسبق ساق في الدخول ، ويسمع صوت محسن ، الجار والصديق المقرب لكمال .. (( متى تأتي للمقهى؟ )) قال محسن بكثير من الأدرينالين .. وأردف ((اليوم مباراة الحدث.! الكلاسيكو يا صديقي.!؟ لا تقل لي نسيت.!))
((لا أعلم .. لا أعلم !، سأعلمك إن قررت المجيء )) رد كمال بكثير من تعب وهو يخْلط ساقه الأخرى للمنزل ..
((كرسيك ينتظرك دائما ، تعلم ذلك.! )) قالها محسن قاصدا المقهى..
دخل كمال المنزل بتثاقل ، رمى رُزمة المفاتيح فوق الطّاولة القابعة وسط غرفة الإستقبال ، ورمى بنفسه فوق أريكته المفظّلة التي لا يساومه فيها أحد . أخذ نفَسا ثم نظر وراءه يتفقد حال المنزل ، تمكِّنه تلك القاعة من التّجول بعينه إلى جميع أرجائها حيث لم يكن فيها جدر فاصلة بينها وبين باقي الغرف .. كانت في الماضي مجرّد ردهة أوليّة للمنزل تشرف على المطبخ والحمّام وقاعة الإستقبال على اليمين .. (بالإضافة إلى غرفتين في الطّابق الثاّني كان يتنحنح فيهما كمال قليلا بالتّكاء على أريكته كي يرى جزءًا من وميضهما) .
 أمّا بعد فقد تراءا له أن يحوّلها قاعة إستقبال أخرى ؛ بأريكة عريضة وكرسيَّيْن ذا طابع قديم . وحوّل التّلفاز من غرفة الإستقبال الأولى إلى هاته القاعة . رأى فيها مكان إستراتيجي يخوّله إستقصاء وسماع أي حركة تقام في المنزل . أمّا القاعة القديمة فظلّت فارغة لا يفهم لها مقصد ولا وظيفة .. فتارتا تنقل لها طاولة المطبخ وكراسيّها لتصبح غرفة معيشة ، وتارتا توضع فيها  أفرش  ووسائد بألوان متنوعة لتتحوّل غرفة نوم للضّيوف .. هذا بحسب تفاوضات الملكين ...
أمّا حاليّا فقد  أصبحت غرفة للّعب حيث تتقولب فيها جميع الوسائد إلى كراة و تُقذفُ من هنا وهناك ، وتتحول فيها الكراسي بصورة إعتباطيّة إلى أعمدة مرمى تُخترق من قبل الوسائد .. تسمع أصوات نشوة تعلو من آية لتسجيلها هدفا حاسما ، وتُقابلها من الجهة الأخرى إحتجاجاتٍ بالرّفض من قبل أخيها أيمن...
 أخذ نظرة سريعة وراءه علم فيها عن عدم وجود أحد معه ؛ كانت غرفة المطبخ مطفأة ، وكذلك باقي الغرف بما فيها الحمّام وغرفة الجلوس ، (أو هي المعيشة)
  أطلق زفيرا من ثقبتي أنفه التي كانت تتّسع عندما ينعدم فمه عن الحراك وهو يمدّ يده نحو آلة التّحكّم بالتّلفاز ، وقد كانت على حافة الطّاولة أمامه . رفس أحد أزرارها بأبهام يده وهو ينزع حذاءه الأسود برجله الأخرى .. أنيرت التّلفاز على القناة الإخبارية ، تيقّن فيها كمال على عدم رجوع أحد إلى الآن ، خاصّتا آية التي لا تنفك من دوس عتبة الباب حتى تهرع لآلة التحكّم بالتِّلفاز وتُفرك أزرارها باحثتا عن قنواة الأطفال. إلى أن بُليت تلك الأزرار على مدار الأيّام.
 بلا وعي رفس بإصبعه زر خفض الصّوت فأصبحت المذيعة تهمس، أضحت تؤرقه صخابة الأصوات ، وتشحن ذهنه شحنا زائدا عن حدّه . فترى المنزل أثناء حضوره ساكنا ، لا يُسمع له همسا . سوى من تلك الشقية آية التي لا يوقفها أحد من الغناء أو العويل في المنزل .. لا يجد كمال من سبيل لفكّ جماحها رغم محاولاته العدة للسّيطرة  وفرض نظامه عليها .. باللّين تارة وبالشدّة تارتا أخرى . حتى يئِس من محاولاته معها وإلتجأ إلى مراودتها بالحلويّات  لتهدئتها ، و بالمثلّجات  لتخدير ذلك الجماح.
لكن مع الوقت وجد متعة في تمرُّدها وعدم إنصاتها له ، ودلالها المتزايد عليه .. و وجد لذّة عجيبة  عندما تقوم بإغاضته ، في عدم  تلبية  طلباته التي تكون دائما على شكل أوامر غير قابلتا للرّفض ، إلاّ منها بالطبع .. تلك المتمرّدة أحسّته بأنه مازال فرد من العائلة وله مكانة في قلب أحدهم رغم أنّه المُعِيل ... و تركت له ردًّا معنويّا  على بقيّة أفراد الأسرة كحجّة عليهم  لهجرهم له ، بأنّه لازال ليّن وديمقراطي.
لا يعلم متى وكيف أصبح يشعر بنبْذه وإقصائه من فلذة أكباده . حتى لم يعد يعلم الكثير  عن إبنته الكبرى سميرة ، ولا عن ولده الصغير أيمن ... رأى أنّ زوجته التي كثرت أسرارها عنه وتغيُّبها المستمر من المنزل ، السّبب الرّئيسي في كلّ هذا الجفاف .. أثار  هذا إضْطغانهُ عنها وأشعل بينهما معارك عدّة تحوّلت بعدها إلى حربٍ باردة ،، ويبدو أن زوجته كسبت أكثر حُلفاء منه ، أو هكذا خُيِّل إليه .. بدءا من سميرة التي أصبحت تأخذ مصروفها من أمِّها بعدما كانت تقبع عليه كل صباح لأخذ حصِّتها .. وإبنه الصّغير المدلّل الذي لا ينفك من ذكر إسمها كلّما همّ بتحريك إصبَع . أمّا هو فلم يجد سِوى آية التي أطبق عليها كل النُّظم الديمقراطيّة لكسبِ ودّها ...
دخلت سميرة المنزل بفرقعة لا مبالات منها على الباب دون ترحيب ، بل دون حتى إدارة رأسها نحو أبيها . توجّهت مباشرتا إلى شقّتها . ألقى كمال نظرة عليها سرعان ماتحوّل فيها بصره نحو يدها التي كانت تمسك شطيرة "ملاوي" ، فعرف أنّ زوجته لم تطبخ ، بل وعلم أنها لن ترجع للمنزل قريبا : فذلك جزء من الإتفاق الذي يُدار بين الأمِّ وإبنتها عندما لا يكون هناك نيّة من الزّوجة العزيزة في الطّبخ . حتى أصبحت بمرور الوقت تتهرّب من المنزل بالعمل في أوّل النّهار و عند الجيران في بقيّته .. ((آه منها)) قال كمال وهو يأخذ نفَسا حادًّا ، ونفْسه تردّ عليه (( كيف ستصبر على هذه الحال)) .
هناك أحيانا تفاقم في المشاكل تصل لحد تصعب فيها الحلول ، بل وتنعدم في أحيان كثيرة .. رغم أن جلّها تكون مشاكل تافهة وفاقدة للمعنى .. ؛ تبدئ  بنكات يلقيها أحد على الآخر ، أو نقدا على تصرف ما لفعل معين أو على فرد من أفراد الأسرة ... تظلّ بعدها الإبتسامة وتفترق فيها الأنفس مسافة أمان لضمان عدم تكرارها . حتى تبتعد المسافات شيئا فشيئا .. ورغم تفاهت تلك الحوادث العرضية التي تكون رهن إعتذارٍ صغير أو رهْن تذكير  بكلمات تصحيح .. إلاّ أنّ الكبرياء يجد وقته المناسب لفرض نفسه في كل حوار  .
 لكن حالة كمال لا يدري لا هو ولا أي فرد من العائلة  السّبب الرئيسي التي جعلت كل هاته الفُرقة تصل إلى هذا الحدِّ بينهم .. أرهق عقله في كثير من الأوقات ليجد عيبا في تصرّفاته ألحق كل هذا الضّرر . ولكن عقله يُعْدم له أسبابا واضحة ، سوى من تفاهاتٍ يُفرزها من بطّاريّة ذاكرته المشحونة ، تفاهات يراها لا تجعل منه ظالما و لا يرى لها سببا لكل هذا الجفاف الأُسري . فيلقي بوابل من الضّغينة على زوجته لعدم فهمها له وطبيعة عمله الشاق الذي زاده عرفُه المتعجرف شقاوتا ، و أضفى لعمله شقاء على شقاء .
رغم أنّه لم يصارح زوجته يوما بطبيعة الإرهاق البدني والنّفْسي الذي يجده في شغله أو بالأحرى مع  ربِّ عمله  .. رأى في بادئ الأمر نقصا من هيبته بإخبارها ، ثم بعد سنوات حمِد اللّه على عدم إفشاءه للأسرار ، وإلاّ لوجدت ضعفا آخر تستغلّه وتُنهكُه به مع عنادها و مزاجها المتقلِّب في تسيير دواليب البيت ، في أبسط الأمور وأتفهها ..
فقد وجد كمال نفسه  المهزوم الوحيد بعدما أضحى الحاضر الغائب ، وفُقدت صلاحيَّات هيبته في المنزل ، وتعمّقت الفوارق رغم حضور البسمة من وقت لآخر  بينه وبينها ، وحوارات ضعيفة سرعان ما تأخذ شكلا دبلوماسيًّا زائدًا عن الحد ...
إشتدّ التّلاسن بين ربّ عمله وشخص بجانبه يؤيّده ،! (يبدو من شكله الهلامي الأشبه بالعين الذّراع الأيمن للعرف)  والزًوجة من الجهة الأخرى  يتوسّطهم كمال .. إحتدم النّزاع بينهم بتجسيمهم الإفتراضي في مركز الخلايا العصبيّة داخل عقله ، وأخذ كلّ خصمٍ التّفرّد بقضم نسج من تلك الأنسجة العصبيّة ، و كمال في الوسط يحذّر ويتوعّد بإجراءات ضارّة لكليهما .
شعُر بجفافٍ في حلقه .. نهض  متعجّنا  على أريكته مع إطلاق آهات تعبٍ بصوتٍ متذبذبٍ أخذ في الإرتفاع تدريجياًّ تزامُنًا مع نُهوضه .. إتّجه نحو المطبخ بخطى متكسّرة .. ألقى نظرة لا إراديّة إلى غرفة إبنته الكبرى ، وعندما وصل للمطبخ فتح الثلاّجة وأخذ قارورة الماء التّي كانت منتصِفة الإمْتلاء ، وأخذ في الشُّرْبِ بجُرَعاتٍ متتالية دون توقُّف ، صادرا صوتًا أشبه بصوتِ ضفْدِعة .. قاطعه أزيز البابُ الخارجي للمنزلِ فإتّجهت عدستي كمال آلياّ تستقصي الدّاخل ، حيثُ تلاقت عينُه مع عين زوجتِه سلوى.
_____________________
ملاحظة : شطيرة ملاوي : هي شطيرة الأكثر تناولا لدى الأواسط الشعبية في  تونس.

إرسال تعليق

0 تعليقات