«ذاكرة أسرة من العالم الثالث» قطة طويلة للكاتب التونسي: عادل البجاوي (الحلقة الثالثة _ المُناضِلة)




السّابعة صباحًا:
صعدتْ درج المنزل نحو الطابق الثاني إلى غرفة أيمن إبنها الصّغير.أوّل مهمّة تقوم بها الزوجة المناضلة.
 ترى نفسها آلة تعيد فيها جميع التحركات كلّ يوم حتى أصبحت تقوم بجلّها لا إراديا فهي لا تعلم في أوقات كثيرة متى بدأت وكيف إنتهت منها،بداية من تفييق إبنها الصّغير الذي لا يريد النّهوض إلا على أسياط لسانها،وبمجهود أقل البنت الوسطى آية،ثم التوجّه للباب المجانب لبيْت أيمن وآية حيث تقبع الميّتة الأخرى. حتى إجتهدت بعد تفكير طويل في شراء منبّه لها بصوت جوهري يستطيع إفاقة جيش وليس فرد وقدّمتها في مناسبة خاصّة،كما جعلت لتلك الهديّة البغيضة قيمة حيث أهدتها لسميرة في عيد مولدها وبهذا أضْفت لها طابع قدُسي لعدم التخلُّص مِنها خاصّتا بعد إخبارها بثمنها المحترم فور فتحها سميرة لهديّتها.

رنّ هاتف المنزل الذي كان يقبع بين المطبخ وغرفة المعيشة في ثغرة بينهما مخصّصة لوجود شيئا ما للزّينة تسدّ تلك الثّغرة.هرعت سلوى نزولا فور سماعها الهاتف بعدما أتمّت المهمّة الصباحية الأولى في تفييق إبنيهما تاركتا الأخرى للهدية الخارقة.
 نزلت مسرعتا ونفسها تخبرها بغرابة المكالمة في هذا الوقت المبكّر مع تخمين قريب على هويّة المتّصل أخذت الهاتف المركون بين الغرفتين حيث مثّلت تلك البقعة صُرّة المنزل ومكان النّزاع بين الملِكين، خاصّتا وأنّ منظر الغلاف الرخاميّ العتيق للحائط الخارجيّ للمطبخ لم يكن بنفس اللّون مع جدار غرفة المعيشة وكان اللّونان يتقاطعان في تلك الثّغرة التي كانت على شكل مجرى قائم ينتهي إلى السقف . فكان لا بدّ من شيء بينهما يفصِل نزاع الألوان ويُضفي على الحائط نوعا من الجماليةّ.أرادت سلوى في البداية أن تضع محبس رخامي من النّوع الكبير بعنق عشبيّ محترم يفضُّ صراع الألوان نهائيّا،محبِس بلوْنٍ تفضّله هيَ .كما أرادت تعديل العديد من الأشياء في المنزل إبتداءًا من تلك الثّغرة.لكن كمال كان له رأي مخالف حيث لم يكن يأبه لتلك الأمور التّافهة.بل تحوّل رأيه إلى إعجاب عندما علم عن تكلفة التعديلات وأصبح  يجد ألوان البُيوت مبهجة للعين بتنوع الزّركشات الرّخامية الخضراء والزّرقاء اللذان يتخلّلهُما اللّون الأبيض في كلتا الجانبين،وصمّم أن يضع الهاتف في تلك الثّغرة حيث وجدها المكان الأءمن والأنسب لها. كانت سلوى بذلك تُنقل الهاتف كلّما رنّ إلى المطبخ ، بحجّة أخذ خصوصيّتها في الكلام رغم أنّ جل مكالماتها تُسمع على بعد ميل،بصوتها الجوهري الذي لا يتحمّل أي رأي مخالف.وقد كسبه الزّمنُ حدّتا وقوة.ثم تترك الهاتف في المطبخ بعد إنتهائها  كتعبير آخر على إعتراضها الشّديد لمكانه كما حذّرت الأولاد على عدم إرجاعه..

((ألو، منِ المتّصل !؟)) قالت سلوى شذرا،كأنها تعاتب المتّصل لا ترحِّب ْ
((صباح الخيْر أختي كيف حالُكِ )) ردَّ صوت من وراء السمَاعة بعطف متصنّع
(( أه حياة..!كان عليّ أن أحزِر! ماذا تريدين مرّة أخرى ألم تجدي وقتا أنسب للإتّصال،ثم إنّي أخبرتك أكثر من مرّة بمكالمتي على هاتفي النقّال)) زمجرت سلوى وهي تنظر خلفها تتفحّص باب بيت النّوم ثمّ مسكت ببقيّة الهاتف إلى المطبخ..
توجّهت نحو الثلاجة وأخْرجت صحن الزّبدة و مربّى التُّوت وقليل من القوتة والحليب ووضعتهم بالتّوالي في الطاولة بجانبها دون ترك سمّاعة الهاتف،فور إكمالها بقليل دخلت آية بفرقعة من أصابعها المعتادة مصبِّحة على أمِّها..ردّت عليها سلوى بنظرة حادّة  توقفت فيها آية عن الفرقعة بأصابعها لأستيعاب الرّسالة وأخذت قارورة الحليب وسكبت القليل ثم أخذت في الشُّرب.و بهمهمةٍ لا تُتقنها سِوى هي عند الشّرب سرعان ما تتحوّل إلى أغنية بلحن واضح وكلمات مبْهمة فور إكمالها بلع الساّئل،ثم يبدأ اللّحْنُ يأخذ طبقاتٍ متشنِّجة تارتا ومتراخية تارتًا أخرى تزامنا مع قضماتها المتسارعة على الخبز الملطّخ بالمربّى والقوتة و نظرات أمِّها المتمعّنة في سحنات وجه إبنتها المتقلِّب والمريحة إلى نفسها...
 تبدو آية الوجه الطبيعي للعائلة بملامحها الواضحة و الجميلة و روحها المرحة التي كسبت بها جل أفراد العائلةبدءا من أبيها العبوس إلا منها بالطّبع.أمّا أمّها رغم حدّة مزاجها إلا أنّ طاعت آية لها وإبتسامتها الدّائمة تشفع عنها جميع أخطائها كما وتجد ظالّتها في اللّعب  مع أخيها الصّغير المتّسم بالتّململ والبُطئ  في   كل شيء.تتفوّق عليه آية  في  جميع اللُّعب بنشاطها الفائق وذكائها الذي لا تصرِف مِنه الكثير  لهزيمةِ أخيها.
أمّا أيمن الإبن الأصغر للعائلة فلا تُوجد كلمات كثيرة لوصفه.. إلاّ اللّهم بحركاته العشوائية وهُيامه الدّائم،كأنّ أعراض مرض نفسي يلُوح في االأفق مع سحنات وجه لا توحي إلاّ بالغباء والذُّهُول.

((أبي !قلت لكِ بأنِّي لا أستطيع أخذه اليوم،ثمّ إنّنا لنا جدْولٌ زمني مقيّدون به هذا ليس أسبوعي يا فتاة ،لا تجعليني أبدو مغفّلة أنا أختك الكبرى أنسيتي؟)) قالت سلوى مُزمْجرة بسحنات وجهٍ غاضبة وهي تنظر لآية،ثم إلتفتت للجهة الشّمالية تزامنا مع نفير نفس من ثقبتيْ أنفها يكاد يُشبه نفير ثور.

دخلت سميرة للمطبخ على أعيُن أمِّها الجانبيّة الحادّة،أسكتت بها تملمُل شفاه ابنتها الكبرى ..دخلت سميرة بعد تجاهلها المفْتعل لأخْتِها الصُّغرى  نظرت لمائدة الطّعام المعدّة بأرتباك،أخذت لقمة من قوتة وغمستها في الصحن ثم إشارة من أمّها بأخذ مصروفها الشّخصي الذي كان بجانب الصحن الذي بدى أكثر من المعتاد لليوم الثّاني على التّوالي.فهمت البنْتُ الكبرى الرّسالة وأخذت مصروفها ثم خرجت.
(( سامحيني أختي ولكنّي مضطرّة للغياب كامل اليوم عن المنزل..في الحقيقة لديّ أسبوع حافل وسأكون متغيبة طيلة أيّامه ،تعلمين خلوّ المنزل وغباء زوجي وقلت صبره في التعامل مع أبي،أنتِ أختي الكبرى..!أنت السّلوى يا سلوى أمي الثانية..!تعلمين ذلك أرجوكِ لا تخذُليني أمام زوجي)) ردّت حياة من وراء السّمّاعة بصوت أجشّ و أكثر تصنّع من المُعتاد
(( آه منك أنت ال... حسنا،أمري إلى اللّه..أشقُّ عليكِ اليوم ولكن ليس قبل الرّابعة عصرا)) صاحت سلوى وأغلقَتِ الخط.

أغلقتِ الخطّ تزامُنا مع صفع سميرة للباب،إنتبهت سلوى لطريقة تعامُل إبنتها الكبرى مع الباب الذي عكس عدّة تصرُّفات كانت تراها تتطور للأسوء شيئا فشيئا  مع قلّةِ حديث إبنتها وتواصُلها مع أفراد العائلة كأنّها تحتجُّ على شيء ما،لم يتبادر إلى ذهنِ الأم من تقصير سوى المادّيِ منه ،وقالت في إحتجاج بصوت منخفض ((مصرُوفها وتأخُذُه .. ماذا تُريد هذه الطِّفلة!؟)) .
كان لحياة سلوى تأثيرا مباشرا في شخصيَّتها،حيث كانت الإبنة الكبرى للعائلة وأخذت زمام الكفالة على حداثة سنّها من مشاركتها الرّئيسيّة في دواليب المنزل وإعانة أُمّها.إلى أن إرتقت مهامُّها بالمشاركة مادياًّ بعدما كان حدث توظيفها في إدارة عموميّة حديثَ الساّعة أنذاك ثمّ إنتقالها من بيت أبيها إلى بيتِ زوجها  فتطوّرت مهامِّها درجة أخرى إضافيّة،لتصبح  الأم البديلةّ لأِخوتها،بعد وفات أمِّها والزّوجة  المتأدّبة المُطيعة لأوامِر زوجها التي لا تخلُص.فكان نظالها يأخذها إلى أنماط معيشيّة متضادّة : بالتّسلّط وحب الإمتلاك من جهة،و الوديعة على نحو يائس في الجهة الأخرى.أخذ هذا التّضاد يستنزف تفكيرها إستنزافا حادًّا..حتّى شارفت الأربعين وأرادت لنفسها الإستقرار وأخذ حرّيتها ...!فأقامت الثّورات والثّورات وتتالت،وكادت لها مكائد شتّى بما أخذته من رصيد نضالها  حتّى لاتخرج مُنهزمة في معركتها الأخيرة .وجدت لذلك مغْنما عندما حوّلتها إلى حروب باردة بالهجر المفْتعل وفنّ المخابرات والجوسسة التي أصبحت هستيريّة  بمرور الوقت،مع التّأريب والتّأويل لكلّ  مستقصي حتّى تجعل نفسها مظلومة ،إلى أن تمكّنت من دائرتها الضيّقة من جيران وأصحاب وأحاطت بهم كحلفاء أزرى لها وتشكّلت مملكتها المنشودة.
فكّرت بالذّهاب لبيْتِ النّوْم الذي يقبع وراء غُرفة المعيشة ببابٍ يُطلُّ عليه ،وقد كان موقِعُه بعيدٌ شيئا ما عن باقي الغُرف كأنّها بُنِيتْ على عجل ..أرادت الذّهاب وفي طريقها تملْملت قليلا!لابدّ أنّها تذكّرت شيئاً عاجلا..؟هل هي آخر الأحداث مع الزَّوْجِ المظْلوم التي بدأت بنظرات كبرياء منها وشذرًا منه تلاقاها عندما دخلت هي المنزل .!أو الحوار المُحتشم والمتشنّج الذي دار بينهما عن الطّعام ممّا أدّى إلى خروج كمال من المنزل فور حديثهما القصير..أم عساها فقط لم تُرد إزعاجه في الصّباح الباكر بدخولها الذي يُصبح لتكراره مثيرا للأعصاب، أو علّها تتّخذ خطواتها بدقة متناهية وتجعل بين كلّ خطوة وأخرى مسافة دقيقة ...؟
وقفت متأنِّية بإقترابها من بيت النّوم وقد عدلت عن الدّخول.وقفت ترتّب ما إختلط عليها من مهام؛ترى ما لها وما عليها
وماهي الخطوات التّالية!؟.. نظرت للخلف فرأت آية قد نهضت من كرسيّها و بدأت في إستعدادها المعتاد للمدرسة فتذكّرت مهمّتها التّالية  وأطلقت صوتا أشبه بزئير أسود وهي في طريقها للدّرج (( أيمن إلى الآن !؟ إنزل حالاّ ))

إرسال تعليق

0 تعليقات