«الأغْصَانُ المُتَكَسِّرَةُ» قصة قصيرة للكاتب السوري: أنس البكور
كانت أسرابٌ من طيور اللقلق المهاجرة تسابق بعض غيماتٍ ضائعة تسبح في السَّماء الرماديَّة لخريفٍ أصفر يحتضرُ. هبَّت للتو بعض من نسمات باردة ٍ تداعب خصلات شعر قطر الندى الممزوجة بقطرات من الدموع.
- خَالو جبلي مَعكْ مِن تركيا (سكوتر) وبدي (بوط بناتي ) أسبقُ بهِ حتّى الأولادَ الكبارَ "
بهذهِ الكلماتِ ودَّعَتْني ابنة أُخْتي قَطرُ النّدى لمّا رَكِبت ُالسيارةَ المُتَّجِهَة َإلى معبرِ بَابِ الهَوى عَلى الحُدودِ مَع َ تُركيا . عانَقتْني وَدمعُهَا بللَّ خدي .. حاولتُ كتْمَ ألمٍ اعتراني لكنَّ عيناي أبتْ إلاّ أنْ تمطر دُمُوعًا سَخِيَّة ً. فلمْ أعتدْ أبدا ً على السَّفرِ طويلا ً عَنِ البيتِ وبالذَّات مُفارقة قَطرِ النّدى لِمدةٍ طويلةٍ .
وابنة أُختي هذه, ذات العشرة سنواتٍ أحبُّ مخْلوقٍ عِندي , منذُ أنْ استشهدَ والدهُا العام الماضي. ولا يَكادُ يَمضِي يوماً واحداً إلّا وأكونُ عِندَهُمْ , أبقى ساعاتٍ طوال َمعَها دونَ مللٍ . كنتُ أُعَلّمُهَا عَلى الرَّسمِ والخطِّ - ليسَ عِندي موهبةٌ عظيمةٌ في هذا الفنِّ الرَّائعِ - وقدْ كُنتُ أتمنى أن أُصبحَ رساماً لكني فشلتُ فالأيدي الخشنة المعتادة ُ على الرّفشِ والقدومِ من الصّعبِ عليها ترويض القلمِ والرّيشةِ . فقدْ كنتُ أَعملُ في كرومِ الزّيتونِ خِلالَ فترةَ الصّيفِ منْ أجْلِ تغْطِيةِ مصروفَ دراسَتي في كُلّية الاقتصاد.
***
الهجرةُ أو اللجوءُ أو النزوحُ : هُو مثلَّثُ الموتِ هُنا بالنسبةِ للنَّاسِ في بلاديّ .. وأنْ تُنْزَعُ مِنْ أرضَكَ وبيتكَ ومِنْ حضن أَحِبَّتِك َهُو بمثابةِ تقطيع جَسَدكَ ورُوحكَ قطعا ً قطعا ً .. فقِطعةٌ في بيتكِ الّذي تَركْتَهُ خلَفَكَ وأُخْرَى في عشٍّ جَديدٍ تبنيه من الحجارةِ والطين والقَشِّ في أرضِ النُّزوحِ و قطعة ٌأُخرى ربَّما في بلدِ المهجرِ وأحياناً تَرمِي لأسماكِ المتوسِّطِ بعضا ً منكَ مثلا ً أُذُنٌ زائدةٌ عن جسدكِ المنفي وتُبقِي لك َواحدةً, ففِي بلادِ الهِجرةِ يكفي لكَ أُذنٌ واحدةً لكي لا تسمَعَ كثيراً مَا يُخاطبُ بهِ اللّاجئون ! أمّا الرُّوحُ وحْدَها تأبَى الخروجُ من عشِّها الأصْلي تتشبثُ بالجُّدرانِ أو بليمونةِ الدّار أو بعشِّ الدُّوريّ في خدِّ الجِدار .. تَعلقُ في الأبوابِ والشبابيك .. وما هذا الجسدُ المُوزَّعُ في أرجاءِ دولِ اللُّجوءِ الَّا هيكلٌ بِلا روحٍ .. هَلْ أحدٌ منكم رَأَى الأجسادَ الّتي تَمشِي على الأرضِ بلا روحْ ؟
***
لقدْ رَأَيْتُ مُخَيَّماتِ النُّزُوحِ مزروعة في كلّ مكانٍ حتّى معبرَ بابِ الهَوى .. راياتٌ منتشرةٌ ومِزَقٌ مِنَ الخِرَقِ تُشاركُ الزَّيتونَ صدَّ الرِّياحِ العاتيةِ و تُرفْرِفُ فاتحة ً أزرعَتَها كَسُفُنٍ تُبحرُ وسطَ محيطٍ مُتلاطِم الأمواجِ ... وَعِندَمَا يَأتي الشَّتاءُ فإنَّ تلكَ الخيمُ تأنُّ تَحتَ سطوةِ البردِ والمطرِ والثلوجِ التّي لا تَرحَم ُ وريح الشمال تنخر العظامَ الصغيرةَ لأطفال ضعيفة حتّى تكادُ تسمعُ صوتَ طقطقتها كإيقاعٍ لسمفونيةٍ حزينةٍ, لكن بلا مستمعين ولا جمهور .
***
عِندَما نَزَلتُ بأوّلِ مَحطَّةٍ داخلَ الأراضِي التركية حَسِبتُ أنَّني وطِئْتُ الجنَّةَ وقدْ عَبَرتُ للتّوّ الصّراطْ الى الجنَّة : البلدُ الجَميلُ.. وبوابة أوربا , حيثُ التَّقدُّمُ والحضارةُ بِلا حُدودْ , بلدٌ في طورِ الازدهارِ بالتّأكيدِ سأجدُ كلَّ مَا تتوقُ لهُ النَّفسُ مِن نَعِيمِ العِلمِ والمَعْرِفةِ والتفّكيرَ الحرّ . كانتْ رُوحي تُسابقُ القِطارَ المتَّجِهَ بنَا إلى إسْطنبوُل . حَيثُ سأَلتَحِقُ بمركزِ الدّراسَاتِ العُليَا لإدارةِ الأعْمَالِ . لَمْ يَكنْ يُنغِّصُ عليَّ هذا الحلم سِوى البُعد عَن بَلدي وعَن قَطرِ النّدى , لا أدري لمَاذا أخْرَجْتُ دفترَ الرَّسمِ الذي أعطَتنِي إيَّاهَ وقتَ انطَلقتْ بيَ السَّيّارةُ من أمَامِ البيت ورحتُ أقلِّبُ صفحَاته ألتَهِمُ أدقَّ التَفاصِيل والخطوطِ والألوانِ فلمْ يكنْ رسْمُ ذلك الملاكُ الصغير الا انعكاسَ لِمَا كانتْ تراهُ مِن حَولِها وتُحِسُّ بهِ بالرَّغْمِ مِن بسَاطَتهِا وبراءَتِها .
أوَّلُ رسمةٍ لهَا على الدَّفترِ الذي اشتريتُهُ لَهَا معَ الألوَانِ " لوحةُ العرس" هكذا اطلقتْ على رسمَتِها الأولَى , تخيَّلتْنِي (عريسٌ) في ساحَةِ منزلَهُم الكبيرتعلُوهاَ الأضْواءُالباهرةُ المعلَّقة ِبأغصانِ شجرةِ التُّوتِ الكبيرةِ والممتدةِ أغْصَانُها على طُول ِالسَّاحةِ
***
في مَركزِ الدِّراساتِ الإداريَّة قوبل طلبي بالرَّفضِ وذلكَ بعدَ محاولاتٍ عديدةً والحُجَّةُ أن َّشهادَتِي تتبعُ لحكومةِ الائتلافِ التاَّبعةِ للمعارضة وليسَ للحكومةِ السُّوريّة ! , وهيَ غيرُ معْتَرَفٌ بها في المعاهِدِ والمراكِز التَّعليميَّةِ الخاصَّةِ .
جلستُ في المساءِ في غرفَةِ العمَّال السوريينَ مع صديقي وائلٌ أتشاركُ معَهَ خيبَات الأملِ الكثيرةِ لدينا . فهوَ الآخُر تَرَكَ جامِعَتَهُ وجَاءَ إلى هُنا على أملِ أنْ يَجْمَع مبلغا ً من المالِ يسدُّ بهِ الأفواه َالجائِعَةَ في إحدى قُرى خان شيخونَ ويؤسِّسَ لمشروعٍ صغيرٍ في قريَتِهِ عَساهُ ينتشِلُهُ منْ جبِّ الفَقْرِ العميقِ .... في هذا المُحيطِ الكبيرِ لسنَا سِوى بضْعُ فراخِ سمكٍ معلبةٍ في هذهِ الغُرفةِ الصغيرةِ يتواجدُ أكثرَ منْ عشر شبابٍ منْ مُختَلفِ أنحاءِ سوريّة ... والجَّميعُ لهُ نفسُ المَسارِ ونفسُ المُستقرِّ , مشاريعٌ عَظيمةٌ في الوَطَنِ تكسَّرت واستقرَّ الحالُ بالجميعِ هاهنا . مَنْ يجدُ له ُعمل بأحدِ ورشاتِ الخياطةِ فهذا مُنتهى الآمالِ على الأقل لا يموتُ من الجوعِ والبردِ في شوارع اسطنبول الكئيبة .
***
وجدتُ عَملا ً معَ وائل في مشغَلِ الخياطَةِ في الحقيقةِ لم يكنْ عملا ً عاديا ً بمعنى المعروفْ إنَّما كانَ عقوبةٌ بالأعمالِ الشَّاقة ! على مدارِ اثنتي عشرةَ ساعةٍ منَ الوقوفِ على الآلاتِ . يُسمحُ لكَ بنصفِ ساعةٍ استراحة عندَ فترةِ الغداءِ .. لا فرقَ بينكَ وبينَ الآلةِ التّي تعملُ عَليها سوى أنَّهُ يوجدُ في المعملِ آلات للتبديلِ وصيانةِ التّي تتعبُ أمَّا نحنُ فلا حقوقَ لنا !! لا صَلاةٍ ولا راحةٍ وعندمَا تعودُ مساءً للبيتِ يبقى لكَ من العيشِ في تلكَ الجنَّةِ بضعُ دقائقَ لكي تغسلَ أغراضَكَ و تعمَلَ عشاءٍ سريعٍ وتتصفّح أخبارَ الضَّيعةِ ومكانَ القصف اليوميّ , ثم تنام ...
***
بقيتُ على هذه الحالِ لمدةِ ثلاثةِ أشهرٍ , و في إحدى المرَّاتِ عندَ عودتي من العملِ فتحتُ الجّوالَ لأقرأ رسالة من اختي " الحمدُ لله قطرُ النّدى بخيرٍ وأنا أُخبِرُكَ بالحادِثَةِ لكي لا تقلق وتسمع الأخبار من الفيس بوك " كانَ الحديثُ تلكَ السّهرةِ عن قصفِ إحدى طائرات النظام وقتَ رجوعُ التلاميذ منَ المدرَسةِ . وقدْ استُشِهدَ على الفور عشرون طالبا ً منهم مع ثلاث معلماتٍ " . لكني لمْ استطيع أن اتبيَّنَ حقيقة وضعِ قطرُ النَّدى منْ اختي . كانتْ تُخفي شيءً ما عنّي .. وكلّما قلتُ لَها أن تُعطيني قطرَ النّدى لأُكلِّمُها تقولُ : " الآن هي نائمةً منْ تأثيرِ المخدّر !"
في ذلكَ الصَّباحِ انهيتُ عمَلي في المشْغَلِ واخذتُ حسابي ثمَّ مررتُ على سوقِ الألعَاب واشتريتُ " السكوتر" وبوط لقطرِ النّدى الذي وعدتها بهما ... ورَجعْتُ فوراً إلى الضيعة . كانَ الوقتُ يجلُدني بقسوةٍ وأفكاراً تهجمُ على مخيّلتي بلا رحْمَةٍ .. " ماذا تُخفي عنّي أختي زهور ؟ " وعندما وصلتُ فَتَحَتْ ليَ أُختي البابَ ولمّا رأتْني فرِحَتْ كثيرا ً , لكنّها كانتْ عيناهَا تتراقصُ بشدَّةٍ وتذرفُ منَ الدُّموعِ .
حاوَلَتْ إخفاءَ وجهِهَا عنِّي :
" أينَ هي ؟"
"في غُرفَتها "
" خالو ندى الصّباح , تعالي سلمي على خالك , انظري هذه هديتك ياحلوتي ."
كانتْ اختي خَلفي تبكي بشدّةٍ . َفتَحْتُ بابَ غرفةِ الصَّغيرةِ , كانت في سريرهَا ولمَّا رأتْني راحتْ تعانقُني بشدَّة وتبكي
" خالو وسام اشتقتُ لكَ كثيرا ً"
انظري يا عزيزتي ماذا اشتريتُ لكِ ؟ هذا " السكوتر" وهذا "البوط " هيّا البسيه بقدميكِ الصغيرتين ! أُريدكُ أنْ تسابقي الريح .. هيا انهضي لنشوف .. هيا انتِ شُجاعةً !"
"خالو أرجُوك يكفي" وانفجرت بالبُكاءِ , ثم َّخرجتْ اختي مسرعةً إلى الغرفةِ الأخُرى تبكي.
ولمّا أزحتُ الغِطاءَ عنهَا عرفتُ سِرِّ البُكاء الكثيرِ ,كانتْ قدمَا ندى الصباح مقطوعتين !!!. لقد سادَ صمتٌ مخيفٌ بيننا لم ينهه سوى صوتُ رعدةٍ شديدةٍ دوَّتْ في الخارج , فقد كانت السماء تمطر بغزارة وقد تجمَّعت غيمَةٌ سوداءَ للتو وراحتِ المزاريبُ تنشجُ بهدير شديد .
حمَلتُ " السكوتر " والحذاءَ وخرجتُ إلى الحارةِ مسرعا ًكأن السّماءَ فوقي تتكسَّر كقطعِ الزُّجاجِ , وتهطُلُ بأطرافها الحادةِ عَلى قلبي وتقطعُ مَا طابَ لهَا منْ أوردةٍ .
اضرب أيها البرق وزمجر يا رعد فلتبكي عيون السماء ما طاب لها ولتسكب طوفان فوقَ هذهِ الأرضِ المخيفةِ .كانتْ ريمُ وسلمَى صديقتَي قطر الندى جالستين في الصالون ينتظرن الدُّخولَ اليهَا نَظَرَتاَ إلىَّ ودمعتْ عيناهُمَا ..
خُذي يا ريم هذا السكوتر هديةُ قطرِ الندى اليكِ وانتِ يا سلمى هذا " البوط " لكِ ادخلنَّ لعندِهَا واشكرنَها ,فهي أوصتْ بهِمَا لكُمَا .
رحتُ امشي في المدينةِ وامشي تحت المطر بلا هدفٍ وبلا وعيٍ منّي حتّى وقفتُ عندَ متجرٍ لبيعِ الأدواتِ الطبيةَ . دخلتُ واشتريتُ كرسيّ متحركْ! .
إرسال تعليق
0 تعليقات