«شيماء حلمي» تكتب: أنا راجل!
أوشكت الشمس على المغيب، وقد أرهقه السير فإذا به يرمي بساعديه على سور الجسر متنهدًا ناظراً للسماء:
- آه يا الله.
تدور الدنيا حوله، فنراه يقف بمنتصف الكوبري متهالك منحني القامة راميا بجسده على السور تارة، ممسكا به مطأطيء الرأس تارة، موجهاً نظره مرة أخرى للسماء:
- حلها من عندك يارب. أعمل إيه؟ أروح فين؟
صمت، شرود.. الأحداث تمر أمام عينيه كفيلم سينمائي، شريط يحمل صوراً وأصواتاً، زواج، دراسة، غيرة، عصبية وتحكم، جمعيات، أقساط، ولكنه مفلس!
***
(في حجرة النوم)
مرتدياً ملابسه، هاماً بالخروج من الحجرة إلى الصالة، يصرخ في زوجته:
-قوليلى أعمل إيه .. أجيب منييين؟
-إشتغل شغل تاني بعد الضهر؟ الولاد بيكبروا ومصاريفهم بتزيد؟
-مفيش شغل تاني.
- ازاي بس؟ ما كل الناس على دا الحال.
-أهو كده عيشي باللي أقدر عليه.
- ماشى أنا اتحمل طب والولاد؟
***
تبتعد الصورة، لتقترب صورة أخرى...
(في الطريق)
- إيه يابنى أخبارك إيه؟
يلتفت ناظراً باندهاش مبتسماً والترحاب يملأ وجهه ..
- معقول حازم إزيك يابنى؟ واحشني والله؟
سلامات وأحضان وابتسامات متبادلة...
- إنت عامل إيه وأخبارك؟
- أنا تمام الحمد لله.
كأنما تذكر أمراً أراد إخباره به لفتح باب للحديث:
- جبت بيت في ابني بيتك وأديني أهه بجمع في أقساطه وبناه.
- وأنت؟
ببعض السخرية؛
- أنا خلفت!
- ياراجل!
- لا لنا قاعدة.
باستفسار وشغف يملأ عينيه، يسأل حازم:
- بتشوف جلال؟
بعدم اكتراث يرد:صاحبنا:
- لا والله بقالي فترة مابشفوش، أنت عارف بقى دوامة الدنيا.
- لا لنا قاعدة بقى نرجع أيام زمان، إيه رأيك على القهوة الجمعة 10 بالليل؟
بابتسامة من وجد شيء يثير الحماسة دون الركود والملل:
- ماشي والله وحشتني القعدة معاكم.
***
(في المساء)
الفضول يملأ عينيها، تسأله زوجته:
- إنت رايح فين؟
أخذ وضع الهجوم قاطعاً المجادلة:
- على القهوة عندك مانع؟
زوحته مبتسمة:
- بجد مع مين؟
- صحابي حازم وجلال.
بابتسامة عذبة مرهقة:
- طيب يخربيت المسلسلات العربي اللي كلت دماغك هقوم أشوف الولاد وأنت متتأخرش.
- ماشي.
***
تبتعد الصورة لتقترب صورة أخرى...
(على القهوة)
صاحبنا : سلامات يارجالة؟
جلال : والله زمان.
صبي القهوة: تشربوا إيه يابهوات؟
حازم: ياعم ناخد نفسنا الأول احنا هنطير!
شوق وضحك وابتسامات عريضة ..
صاحبنا :إيه الأخبار يارجالة ؟ بتشوفوا الواد حودة؟
حازم: حودة جاى ياعم خمسة كده.
- وعصام؟
كان زارنى من فترة وقالي إنه سكن قريب مني ومن وقتها لا حس ولا خبر.
جلال : لا دا تعيش أنت.
صاحبنا : إيه!
صدمة ..
_يستطرد محاول الإستيعاب وقد شعر بجفاف حلقه _
إزاى؟
حازم : مابلاش نقلبها غم ياجدعان.
جلال : يابنى أنت مش عايش فى الدنيا!
_لحظة صمت ناظراً بوجهه مباشرة رامياً القنبلة بوجهه_
دا اتقتل.
صدمة الخبر كخبطة على الرأس.
ساد صمت، وتساؤل في العين!
حازم : يا أمي عالنكد .. أنا هامشى وربنا .. أنا مش عايز أفتكر.
جلال ممسكاً بيديه يجلسه : إستنى بس؟
ناظراً لصاحبنا: مراته قتلته واتسجنت.
صاحبنا ناطقاً بذهول: إيه؟
جلال: كانوا قارفين بعض وهو مفيش شغل .. وعايزة أتطلق عايزة أتطلق وباقي القصة عندك في الجرايد.
حازم بأسى : الله يرحمه.
صاحبنا في حالة شرود : الله يرحمه.
يسود صمت ووجوم...
صبي القهوة : تشربوا إيه يابشاوات؟
وجوم...
رد حازم قاطعاً للصمت:
- أنا شاي ياريس. وأنت؟
صاحبنا: أنا .. قهوة... قهوة.
جلال : شاي برضو.
يسود سكوت..
جلال محدثاً صاحبنا :
- وأنت عامل إيه؟
محاولا الانتباه...
صاحبنا: أنا الحمد لله.
حازم : اهو حوده وصل أهو واتلم الشمل.
مصافحة وقبلات.
حودة : سلامات.
ص: سلامات ياريس.
حازم : باشا.
جلال : معلم.
حودة رابتا على قدم صاحبنا :
- والله زمان.
حازم : لسالك في الشيشة ولا تُبت؟
حودة : لا ياعم لسالي.
جلال منادياً بوجه بشوش ناظراً لحودة يميل برأسه ناحية الداخل: - ريس.
صبي القهوة : نعمين؟
جلال : تعالى شوف طلبات المعلم.
حودة رابتًا على كتف جلال : حبيبى ..
موجهاً حديثه للجميع:
- إيه يااخوانا الغيبة دي؟ إيه الاخبار؟
حازم يرتشف الشاي متحدثاً : أنت احكيلنا عامل إيه؟
حودة : أنا الحمد لله معايا تاكسي ماشي بيه والحال أهو من وقت أوبر والمزاحمه زايدة والحال في النازل بس أهي ماشية.
حودة موجه سؤاله لصاحبنا : وأنت إيه الأخبار؟
مبتسم..
- أنا موظف لسة على أد حالاتي.
حازم : ااه بيقولك خلف.
حوده : لا والله .. مبروك ياابو العيال.
صاحبنا: وأنت؟
حوده : لا أنا الحمد لله كده رضا قوى بلا وجع دماغ ياعم -مستطرداً حديثه ملتفتاً- وأنت يابني عامل إيه في الدنيا؟
يبدو وكأن ظهور حودة أحيا الجلسة من جديد، مشتعلة بالشغف والحماس. جلال ضاحكاً وهو يضع الكوب وقد وصل لمنتصفه :
- أخد بيت في ابنى بيتك وموحول.
حازم : آه والله طالع عيني بين الاقساط والبنا عشان التسليم
حودة مبتسماً : إتجوزت ولا لسة؟
حازم : لسة ياعم البت خللت جنبي وانا بظبط الدنيا أهو.
حودة موجهاً سؤاله لجلال : وأنت ياريس؟
جلال: أنا فتحت سايبر أنا وكام واحد من حبايبي بعد ما اتفصلت من الشغل.
حودة مستنكراً : واتفصلت ليه بس كده؟
جلال : طالبنا بزياده فى الرواتب قاموا استغنوا عنا.
ص: وأنت إيه اللي دخلك في الحوار دا كان المرتب مش مكفيك؟
جلال : عندي بيت وولاد 1200 هيكفونى إزاي؟ ودلوقت أهو ماشي الحال اللي بيطلعلي أحسن من مفيش .
يفكر صاحبنا:
"اه يادى النيلة دا الكل متلخفن. ياسلااام تنزل عليا ثروة من السما تنشلني من اللي أنا فيه ده. بقى أنا جاي أغير جو تغموني ياولاد التيت. يلا الحمد لله على كل حال."
حازم ضارباً على كتف صاحبنا:
- جبت العربية اللي نفسك فيها؟
استفاقة للسؤال:
- بحوش أهو بقالي سنين وهانت .. بس مصاريف العيال مبترحمش، مدارس ودروس.
جلال : طب ما تشوف شغل تاني.
ص: فين بس .. ربنا يبعت .. قدمت على شغل بره وحضرت الCV بتاعي ولا حياة لمن تنادي.
حودة : معتز خلاص مسافر أهو عقبالك.
حازم مازحاً :
- بيقولك أحسن استثمار في مصر إنك تخرج بره مصر.
يقهقه الجميع:
جلال : مين يلاعبني دور طاولة؟
صاحبنا: أنا.
حودة : واحنا قدامنا بتاعتنا ياريس.
حازم يفرك يديه متحمساً : طبعاً والله زمان.
انسجام وصوت الطرق والضحك والصورة تبتعد..
***
وتقترب من مشهد آخر...
(في المنزل)
يجلس بغرفة الصالون يطالع الأخبار:
"طرح شقق وأراضى..."
استهل بالخبر ولكن تراوده الأفكار، قاطعته زوجته مخرجة إياه من انغماسه أكثر ببحر أفكاره:
- حلو ندخل فيها، أهو ناخد حاجة تنفعنا وتنفع الولاد.
ص: طب إزاى وهجيب قسطها منين؟
- ربك يسهلها .. أنا بفكر اشتغل.
- وهتشتغلى إيه إن شاء الله؟
- أي حاجة على النت .. ناس كتير عاملة كده.
-- وهتفتحي قناة بقى وتطبخي ولا تعملي مقالب!
- ههههههه هبيع ملابس ومفروشات.
مستطردة حديثها متفرسة بوجهه منتظرة الإجابة على ملامحه.
- اتعرض عليا وقولت اخد رأيك .. أجرب؟
قال ساخرا بلامبالاة:
- جربي .. كل واحدة منكم تطلع بحاجة.
انتبه وكأنما تذكر أمرًا هاماً رافعاً صوته فقد تركته متوجهاً إاعداد الطعام..
- اشتركتي صحيح في قناة نوسة؟
يأتى صوتها من بعيد:
- آه .. ربنا يباركلها.
- بتعمل إيه فيها بتطبخ برضو؟
- ههههه لا بتعلم الناس التفصيل.
- طب كويس والله .. ودي بتجيب مشاهدات وفلوس؟
صوت الولاد من بعيد:
- يابابا اللى بيجيب مشاهدات التفاهة.
رد ضاحكاً
- حلو، يلا نعمل مقالب.
وتعلو الضحكات..
***
تقترب الصورة في يوم آخر...
(في العمل)
أشاهد نفسي أتابع أخبار القرعة. جرس. عبر الهاتف:
زوجتي:
- قدمت؟
ص: آه .. ربنا يسهل وترسى علينا.
أتابع عملي بين أوراق وملفات وتحميلات على الحاسب وبينما أنا أحاول تجهيز الطابعة ووضع الحبر بها، أتداول الأخبار بيني وبين الزملاء:
(الأخبار)
"قرارات بوقف البناء في المدن المزدحمة والقرى"
أقاويل تتردد على الأذان..
"العقارات غالية جداً"
"الشقة ب 3 مليون"
"السوق نايم"
- يااادى النيلة!
على صفحة فيس بوك:
"تسويق إلكتروني .. تسويق إلكتروني"
كورسات.
"اتعلم ازاى تكسب 150ألف ج في الشهر"
حققنا أرباح ياما!
أخاطب نفسي:
ندخل في الليلة دي يلا وااادى الشهادة .. يلا نطبق
آخ.
الإعلانات بتسحب فلوس ومفيش نتايج
رسالة من مدير التسويق :
- الحق اقفل؟
بلغ مشكلة. النتايج ضعيفة. أصل المنافسة شديدة والاعلانات بقت بمزاد.
"صلاة النبى"
حوار سائد دائماً مع زملائي بمجال عملي الجديد ومشكلات التسويق الإلكتروني:
سألت أحد الزملاء :
- إيه أخبار العقارات؟
زميل: في النازل.
رددت متهكماً:
-حلو.
(الأخبار)
"قرار من البنك المركزي قيمة الفائدة ستنخفض"
أفكر:
سنة سوخة ياولاااد أروح فين وهنعمل إيه؟
حوارات حوارات على الفيس والشغل، قالك توجه عام عشان الناس تدخل البورصة...
-البورصة!
-آه
دى ياما كسبت ناس.
سكوت...
***
أمام باب ومن خلفه الدوامات، يخطو بخطوات حذرة
فإذا بشاشات كبيره تملأ الجدران، أرقام أرقام وقوائم
أنوار وأضواء ملونة؛ أخضر .. أحمر، وردي وأزرق.
يقف مشدوها أمام تلك الأرقام والومضات الملونة، لا يفقه شيء
على الهاتف..فديوهات:
"إزاى تضارب في سوق الأسهم والعملات "
"تعالى افتح حساب" "تقدر تستلف وتبدأ تداول"
معايا مساعد ومرشد!
أفكر:
أنا خايف أخسر اللي حيلتي.
أصوات:
- السهم في النازل
-المؤشر كله نازل
أفكر:
دي باينة من أولها، اثثثبت إحنا لسة في البداية، يارب معانا يارب.
(متابعة الأخبار)
صباح الفل.
النهارده الدنيا اتعدلت.
الحق فى شاحنه جنحت فى السويس!
المؤشر بينزل.
بيقولك واحد جاتله سكتة قلبية إمبارح وهو قاعد قدام الشاشة
دا شكلهم هيلعبوا بينا المراجيح.
(متابعة الأحداث)
أحد المستثمرين:
- وبعدين يا أستاذ جمال أنا خسران 200 ألف أعمل إيه؟
- احتفاظ
- لحد إمتى؟ دا أنا مستلف 100 ألف!
- ياشيخ حرام عليك.
أفكر:
وبعدين؟
عليا ديون والفلوس مش مكفية.
(أصوات وأخبار)
من بعيد..خناقات خناقات،
سائلا زوجتي:
-إيه في إيه؟
- ناس ورثت.
- طب الحمد لله. الخناقات ليه بقى؟
-اشتروا ارض والبنا اتوقف -انتبه لما سمعه عن أخبار الأقارب-
استكملت زوجتي الحديث..
-اشتروا شقق واتطلب تصالح!
تتابع الحديث بمانشتات إخبارية..
الفلوس خلصت وعايزين يفرشو ومقضينها خناقات
الصور تبتعد...
***
عدت إلى حيث أنا، على الجسر..
زفير...
- حلها من عندك يارب.
يمشي راكالا حجر صغير بقدميه، باعثاً للأفكار لديه:
- هقايس.
ماراً بالزحام، صوت تامر حسني من بعيد وأغنيته الشهيرة:
( خليك فولاذى )..
يستمع مبتسماً ..
إرسال تعليق
0 تعليقات