«آكلة اللوتس» قصة للأديبة التونسية: سحر ابراهيم النصراوي




حزمت فرح حقائبها و تفقدتها واحدة تلو الأخرى , رتّبت داخلها كلّ ما يمكن أن تحتاجه و لم تترك وراءها ما يمكن أن يشدّها إلى تلك الغرفة .
أجالت نظرها و تفقّدت كلّ ركن فيها , قد تكون هاته المرّة الأخيرة التي تراها فيها , أو لعلّ ذلك كان ما تمنته على الأقلّ.
اتّصلت بسائق سيّارة الأجرة للتّأكّد من مجيئه في الموعد المحدّد , خرجت للمطبخ حيث كانت والدتها في انتظارها لتتناولا فطور الصّباح معا , أحسّت بشيء من الحزن يكتسح قلبها , لكنّها رفضت أن تنساق لسوداويّته .
جلست و تناولت كأس الحليب , شربت منه قليلا ثمّ سرعان ما أخذت فنجان القهوة.
- أمّي , سأتّصل بكم حالما أصل , فلا تنزعجي .
- الأمّ : ليس فقط حين وصولك , اتفقنا أن تطمئنيني عنك باستمرار , فلا تتركيني فريسة للقلق عزيزتي .
- فرح : اطمئنّي و أنا سألتزم بذلك , لا أريدك أن تقلقي أو تحزني , كلّ ما في الأمر , أنّ الأفق تحت هاته السّماء , صار أضيق من أن يتّسع لأيّ من أحلامي .
ثمّ قبّلت والدتها و عادت للغرفة لتذرف دمعة , أفلتت منها , مسحت عينيها و حملت الحقائب لتضعها عند باب المنزل , حين اتصل بها السّائق لم يستغرق الأمر دقائق حتّى استقرت داخل السيّارة و انطلقت إلى حلمها .
لم تكن تلك إلاّ بداية طريق ظنّت أوّله المستقرّ , ولّت ظهرها جميع المدن التي تعرفها و اتّخذت من تلك المدينة ضالّتها .
لكنّ الحلم بتلك المدينة بدأ بالتقهقر تدريجيّا بعد أن تعرّضت فيها لشتّى أنواع التحيّل , النّصب , السّرقة .
هي المتسلّحة بدستور لقمان و وصاياه لابنه , لم تكن تعرف أنّ تلك المدينة لا تعلي سوى دستور واحد , مدينة تقدّم كلّ قيم النّبل قربانا على مذابح الّدّينار .
حين ضاقت بها ضرعا , كتبت إلى ربّ تلك المدينة معاتبة :
- أنا لست خالدة بما يكفي , لأن يتحوّل جسدي إلى بخور على عتبات فناءكم الأخلاقي .
و حسمت أمرها و حزمت حقائبها من جديد و شدّت الرّحال , إلى وجهتها الجديدة , باحثة عن عمل , تعوّض به بعضا من ما خسرته في رحلتها الأولى هي التي كانت قد رصدت لها , بعضا من إرثها و كلّ مدّخراتها هي و والدتها .
لكنّ كلّ ذلك لم يمنعها من أن تراسل والدتها باستمرار لتطمئنها على حسن سير أمورها .
وصلت فرح المدينة الجديدة , و الأمل يملأ قلبها و أوهام الثّروة تغذّي روحها فتنقذها في بعض الأحيان من جحيم النكران و العجز .
بدأت العمل فعلا و بدأت في كلّ شهر تعدّ ما جمعته و هي تشعر بشيء من الرّضا , لكنّ ما جمعته من مال و إن يكن كثيرا , لا يمكن أن يعوّضها عن ساعات العمل الطّويلة و التي كانت تقضيها واقفة , لأنّ ربّ العمل كان يمنع كلّ العاملين من الجلوس أثناء العمل .
هل تكفي كلّ أموال الدّنيا و إن كثرت في الذّود عن كرامتها المهدورة بسببها ؟
معاملة سيئة و ازدراء , أرباب العمل في تلك المدينة يعاملون موظّفيهم بطريقة أقرب ما يمكن للاستعباد و ليس على العاملين سوى القبول , لأنّ مجرّد الرّفض أو إظهار أيّ من أنواع الازدراء , قد يكون سببا في طردك من تلك المدينة .
حاولت فرح الصّمود , لكنّ شيئا بداخلها انتفض فجأة , و عاودتها الرّغبة في الرّحيل .
حاولت هاته المرّة أن تكون أكثر حذرا و أن لا يكون قرارها مجرّد ردّ فعل .
فكّرت مليّا و رأت أنّ قرارها هاته المرّة سيكون أكثر حكمة و لا شكّ.
كالعادة لم تنقطع رسائل فرح لوالدتها و واصلت طمأنة والدتها التي بدأ الشكّ و القلق يتسرّبان إلى قلبها , فغياب فرح قد طال قليلا و هي لم ترى لذلك الغياب نتائج ترجى .
فرح كانت تحمل في قلبها أحلاما عن حياة , يكون الفنّ حضنها و سببها و غايتها و هي لا ترى ابنتها تحقّق أيّا من ذلك .
حزمت فرح أمتعتها , و أحلام الوصول للمدينة الجديدة تغازل كلّ ذرّة في كيانها , مدينة ستحفظ فيها كرامتها المهدورة على أبواب مدينة العبوديّة .
و كعادتها لم تنسى أن تراسل ربّ تلك المدينة و كانت رسالتها هاته المرّة تحمل شيئا من المرارة :
- في الوقت الذي اضمحلّت فيه روحي , كبرت نرجسيّتكم و تضخّم أنا الشّرّ في دماءكم حتى بات يجري في عروقكم بأجنحة طائر , أسطوري .
أنا لن أترك عندكم روحي , لكنّني قد أترك شيئا من ربّات إلهامي على عتبات جشعكم .
و كالعادة حزمت فرح أمتعتها مُيمّمة وجهها صوب المدينة الجديدة , تلك التي تحفظ كرامة مواطنيها و حتى الوافدين عليها .
وصلت فعلا مدينتها المرجوّة , مدينة جميلة , بديعة الترتيب و التنظيم , أحسّت أنّها هاته المرّة قد وفّقت في خيارها و فعلا بدأت العمل فيها و كلّها فرح بما اهتدت إليه .
قصدت عملها الجديد و استقبلها مالك المحلّ بحفاوة تكاد تكون زائدة , قدّم لها القهوة و الكعك , و أخبرها بالنّظام الدّاخلي للمحل , كما أنّها ستتمتّع بثلاثة أيام راحة في الأسبوع زد على ذلك أنّ الأجر كان مجزي و أنّه لن يتدخل في طريقة أدائها لعملها .
غمرت السّعادة قلب فرح و نهضت فعلا لتبدأ يوم عملها الأوّل في ذلك المحلّ , لكنّ صاحب المحلّ استوقفها و قال لها :
- يمكنك فعلا البدء في العمل في الحال , لكنّ لديّ فقط شرطا صغيرا حتّى نُتمّ الاتفاق .
- فرح : و ما هو هذا الشّرط سيدي ؟
- صاحب المحلّ : سيقتضي الأمر أوّلا أن تغيّري دينك و ترافقينا إلى كلّ القداديس التي نحضرها و تقيمين صلاتك معنا و بيننا .
لتجيبه فرح و قد اعترتها نوبة من الغضب , بأن لا مجال إلى ذلك و استغربت جرأته في طلبه مثل ذلك الطّلب .
فابتسم مالك المحلّ و طلب منها المغادرة بكلّ لطف , و فعلا فعلت .
استأنفت فرح رحلة البحث عن عمل و كانت المفاجأة التي غيّرت كلّ مجرى تفكيرها , إذ أنّها و  أينما حلّت , أو ذهبت في تلك المدينة , كان أرباب العمل يطلبون منها نفس الطّلب .
هنا أيقنت فرح , مدى فداحة القرار الذي اتخذته و بكثير من الإحباط و اليأس هاته المرّة قرّرت مغادرة هاته المدينة , لكنّ ذلك لم يمنعها من الاتّصال بوالدتها و طمأنتها كالعادة .
لكنّ قلق الأمّ كان يصير أكبر و باتت على شبه يقين من أنّ أمور ابنتها لا تسير على ما يرام , لكنّها لم تستطع منعها من مواصلة رحلتها رغم أنّها كانت تلاحظ مدى تغيّر ابنتها خلال الشّهور التي قضتها بعيدة , باتت ترى و بشكل شديد الوضوح أنّ فرح ليست بخير و أنّها في كلّ يوم تبتعد أكثر .
لملمت فرح شتات روحها و حاولت استجماع ما تبقّى من قوّة لتقصد مدينتها الجديدة , هاته المرّة غيّرت مقصد رحلتها , فقد بات كلّ ما هي بحاجة إليه الإحساس بالأمان و كثير من العطف و الحنان , لعلّه الحبّ ما كانت تبحث عنه في رحلتها هاته المرّة و فعلا , حسمت أمرها و بدأت تستعدّ لمغادرة تلك المدينة المخادعة , لكنّها و كالعادة لم تنسى أن توجّه رسالة إلى ربّ تلك المدينة فكانت الرّسالة كالتّالي :
- بعض الأوهام قد تنقذ من جحيم النّكران , لكنّها تظلّ أوهاما و أنا أفضّل أن أصنع واقعا يليق بما أحمله في روحي من نقاء .
- لا يمكنك مساومة المرء على حفظ كرامته لأنّك بذلك تهدرها سلفا .
- لا تستنطق الذّئب و تنتظر الإجابة من الخرفان .
حطّت فرح رحالها في مدينة الشّوق و هي على شبه يقين من أنّها هاته المرّة قد وفّقت , أو أنّ هذا ما كانت ترجوه على الأقلّ .
لم تباشر فرح في البحث عن عمل حال وصولها بل أرادت أن تأخذ قليلا من الوقت للاستطلاع و فهم أحوال تلك المدينة, و فعلا بدأت التّجوال في أرجائها و هي مأخوذة بروعتها .
هي فعلا مدينة , أُعدّت للحبّ , بهذا كانت تحدّث نفسها .
لم يطل الأمر كثيرا حتّى تعرّفت فرح على شابّ من تلك المدينة , و كان كثير الولع بها حتّى هامت بحبّه .
أحبّها هو بدوره و بادلها حبّها بكثير من الاهتمام , إلى أن أخبرته فرح أنّها تودّ أن تعرّفه على والدتها .
ليسألها :
- الشّاب الحبيب : و ما الغرض من التّعرّف على والدتك .
- فرح : إنّها كلّ ما أملك و ما تبقّى لي من عائلة , و إذا كنّا سنستمرّ مع بعض فعليكما أنتما الاثنان أحبّا شخص إلى قلبي أن تتعارفا و تكونا على وفاق .
- الشّابّ الحبيب : و ما الغرض من هذا التّقارب عزيزتي ؟
- فرح : هذا سييسر علينا قبولها لزواجنا من جهة و من جهة أخرى , هي وحيدة و ربّما جاءت للعيش معنا بعد الزّواج .
-الشّابّ الحبيب : و من أتى على ذكر الزّواج و؟ و من أخبرك أنّني أنوي أو أستطيع الزّواج بك ؟ قوانين مدينتنا , تمنع الزّواج من أجنبيّات .
صعقت فرح من الرّد و أحسّت أنّ الحياة تنسحب منها و أنّ كلّ بُسُط المجد التي حاكتها قد غادرت تحت قدميها واحدا تلو الآخر , أحسّت بأنّ الأرض تحوّلت إلى طين متحرّك بدأ يبتلعها , حتّى لم تعُد تقوى على الحراك .
هنا أدركت فرح مدى فداحة القرار الذي اتخذته ذات يوما بمغادرة مدينتها , لأنّ كلّ أهداف رحلتها الأصليّة لم تتحقّق .
الأكثر من ذلك , أنّها في الحقيقة لم تعد تذكر ما الذي دفعها لمغادرة مدينتها ؟
لم تعد تذكر كيف غادرتها و لا إلى ماذا و صارت كلّ طرق العودة غائمة .
اتّصلت فرح بوالدتها , و خاضت حديثا مطوّلا معها , حديثا خاليا من الكذب و المراوغة هذه المرّة .
حديثها لوالدتها , كان البوصلة التي اتّبعتها , فلم تخطئ الطّريق هاته المرّة , غادرت فرح تلك المدينة بعد أن بات صوت أمّها دليل المدينة التي تصير المنطلق , الغاية و الحلم .
و قبل مغادرتها كتبت إلى ربّ تلك المدينة كما تعوّدت أن تفعل قبل رحيلها و خاطبته قائلة :
- لعلّ طوفان المياه الجارفة يعود يوما إلى منابعه .
- لعلّ الحقد , ليس سوى مكافأة الحبّ الضّال .
- كلّنا يعرف قوانين الحبّ , لكنّ الحبّ وحده لا يعترف بها  و سيظلّ يتجاهلها , و الحبّ أمزجة لكنّ أصدق أنواع الحبّ جميعا , هو ذلك الذي يصحّح البوصلة .



سحر ابراهيم النصراوي
الجزائر في 26 ماي 2019

إرسال تعليق

1 تعليقات